تالوس وقبائل الفندال الشمالية: الفصل 1
على صخرة شاهقة في جبال الألب, وقف وعل يتأمل شكل رجل يكدح في السير وحيداً على الطريق العسكرية الرومانية, المتعرجة من أسفل فصاعداً. كان كل شيء ساكناً هادئاً والمسافر مستغرقاً في تفكيره, غافلاً عن العينين اللتين تراقبانه من بعيد. الطريق واسعة مرصوفة جيداً مع صعود شديد, ولذلك كنت ترى العرق يتصبب بغزارة منه وهو يسير صاعداً في شمس الربيع الدافئة. تحوّل الوعل وراح يطفر فوق الثلوج, أما الرجل الماشي وحيداً فرفع قربته إلى شفتيه, وبعد أن فرش ثوبه القرمزي جانباً جلس عليه يستريح قليلاً.
لم يكن الرجل الوحيد هذا إلا تالوس الشاب المسيحي الذي كان من مواطني رومية في أوائل الحقبة المسيحية, يومَ كان قبول المسيح مخلّصاً شخصياً يتطلّب جرأة كافية. وحدث أن تالوس كان قد طُرد من بيته إلى غير رجعة إثرَ اعترافه بمسيحيته. عهدَ ذاك احتضنته عائلة مسيحية ولكنه عقد العزم على الانطلاق بأسرع ما يمكن للمناداة بالإنجيل إلى شعوب أخرى بعيدة عن رومية. كان يعرف تماماً عواقب مجاهرته بإيمانه بيسوع لأنه كان يعلم ما جرى للعديد من أصدقائه الذين طُرحوا بوحشية طعماً للأسود الجائعة في الساحات الرومانية العامة, بل إن بعضاً منهم أُحرقوا أحياء بالنار.
ولكن على الرغم من الاضطهادات المُرّة, كان عدد المؤمنين المسيحيين يزداد باستمرار, وكان الفضل في ذلك يعود, بنسبة كبيرة, إلى العمل التبشيري الذي قام به شبَّان مثل تالوس.
ها هو الآن يسير في طريقه ليكرز بالإنجيل حسب أمر يسوع إلى أتباعه في إنجيل مرقس 16: 15. فاتجه قاصداً الريف شمالي نهر الدانوب حيث قطنت قبائل الفاندال البربرية المولعة بالحرب.
ما إن بدأ الظلام يسدل ستره في تلك الليلة حتى كان تالوس قد وصل إلى نُزُل صغير يقع على جانب الطريق. قرع الباب بشدة وراح ينادي بأعلى صوته: "يا صاحب المنزل, افتح الباب لمسافر متعب جائع". فأجابه صوت خشن من الداخل: "ها أنا آت, آت. لا داعي لأن تكسر الباب". وفتح صاحب النزل الباب, وبعد أن تأمّل وجه الشاب ملياً قال: "إن كان في مقدورك أن تدفع كلفة الطعام والمبيت, فأهلاً وسهلاً.وإلا فتابع طريقك أو نَم خارجاً مع ذلك المهرّج الخالي الوفاض الذي تراه هناك".
وإذا برجل, لم يكن تالوس قد شاهده, ينهض من وسط كومة من القش في باحة النزل. قال الرجل: "أنا مهرج أتغنّى بالبطولات. صحيح أنّي خالي الوفاض حالياً, ولكني مستعد أن أدفع ألحاناً شجية أغلى من الذهب".
وعلّق صاحب النزل بقوله: "هه.. هه.. هل أقدر أن أدفع ألحاناً شجية لجابي الضرائب؟ أو للخبز والطعام الذين ستلتهمهما؟".
فقاطعه تالوس قائلاً: "اسمع يا صاحب النزل, إن بضعة أناشيد سوف تساعدنا على تمضية سهرة ممتعة". ثم التفت إلى المهرج وقال: "تعال يا صديقي وكن ضيفاً عليَّ".
فأجابه العازف المغني مسروراً: "سيدي إن كَرمكَ هذا سُيجزى خير جزاء".
وهنا قال صاحب النزل وهو يغيب في الداخل: "أدعُ من تشاء ما دمت تدفع سلفاً".
وبعد وليمة مشبعة قام الشاب المهرج وأخذ يرفِّه عن تالوس بأغانيه وألحانه العذبة على قيثارته. وحتى صاحب النزل الضيق الخُلق لم يتمالك عن أن يهزّ رأسه طرباً ويقرع الأرض بقدمه على وقع الأنغام!
وفي ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي نهض تالوس واستعد لاستئناف رحلته من جديد. وقرر صديقه الجديد أن يصحبه في الرحلة, فقضى الوقت كله يتكلم ويثرثر دون أن يتيح لتالوس أن يقول ولو كلمة واحدة. قال: "كانت أمي تحب الموسيقى وهي من أصل يوناني. وقد دعتني باسم أورفيوس. ولما مات والدي قصدتُ رومية حباً بجمع الثروة. ولكن بما أن الإمبراطور الأبله كان قد وفّر للناس "سيركات" مجانية, فما عاد أحد يدفع مالاً ليستمع إلى مغنّ مسكين. والآن سأجرب حظي مع الجنود الذين يقومون على حراسة الحدود. لقد ترامى إليّ أنهم يدفعون مبلغاً محترماً من المال مقابل الترفيه والترويح عنهم. لا تنسَ أن عملهم مملّ جداً...".
وتابع يقول: "يبدو أنك لا تتكلم كثيراً. لماذا لا تحدثني شيئاً عن نفسك؟".
"لم تترك لي فرصة لذلك. أنا... اسمَع... ما هذه القعقعةُ الآتية من فوق؟".
فصرخ أورفيوس قائلاً: "لقد هلكنا, هلكنا! فلقد حذروني من هذا الأمر ولكني نسيته".
"إنه تيهور ثلجي" أجاب تالوس لاهثاً.
وهنا صرخ أورفيوس: "إنه إله الجبل. فسيقتلنا لأننا لم نقدّم له ذبيحة صباح هذا اليوم".
فرد عليه تالوس: "يوجد إله واحد لا غير وهو لا يقتل أحداً".
فعاد اورفيوس يقول يائساً: "جميع الآلهة تقتل من لا يرضيها! لقد هلكنا".
أجاب تالوس: "كلا, فأنا لي ملجأ أمان". وأخذ يركض صاعداً في الطريق ويحث صديقه على اللحاق به. هنا كان المهندسون الرومان قد شقوا طريقاً في قلب الجُرف الشديد الانحدار وتركوا ما يشبه المظلة فوق الطريق. وبينما كان يركض سأله أورفيوس: "هل إلهك أقوى من إله الجبل هذا؟".
فقال تالوس موضحاً: "إنه كلي القدرة لأنه الإله الحقيقي الوحيد". ثم حثّ رفيقه قائلاً: "ضع ثقتك فيه واتكل عليه".
وقبل أن يُنهي تالوس كلامه بدأ تَيْهُور ضخم من الثلوج والصخور يتساقط وينهار. فجمد كلاهما في مكانهما بعد أن ألصقَ كل منهما ظهره بشدة إلى الجرف الصخري. هل ستصمد المظلة في وجه الانهيار؟ أحدث التَيْهُور دوياً هائلاً فوق رأسيهما, ثم سمعا الكتلة المنهارة تقرقع بقوة وهي منحدرة إلى الوادي السحيق. ونجا كلاهما!
ولدى شعورهما بالارتياح على نجاتهما بأعجوبة, استأنفا المسير فرحين. ولكن, ما إن وصلا إلى المنعطف التالي في الطريق المعوجّة... حتى قال أورفيوس: "الطريق مسدودة, فما العمل؟".
أجابه تالوس: "يقيناً لن نتمكن من العبور فوق هذه الثلوج الرخوة. علينا أن نحاول الدوران حولها".
ولما لم يكن أمامهما اختيار أخر ترك الاثنان الطريق وأخذا يتسلقان الصخور بصعوبة وبحذر أملاً منهما في إيجاد ممرّ حول كتلة الثلج والحجارة المتساقطة.
وبعد وقت بدا طويلاً جداً, إذا بأورفيوس الذي كان يلحق بتالوس يسأل: "تالوس! هل المسافة طويلة بعد؟".
"لا ليست طويلة. لقد مضى علينا بعض الوقت ونحن نتسلق وقد أصبحنا قريبين على ما أعتقد".
وأخيراً بلغا القمة. فالتفت أورفيوس إلى تالوس وهتف متعجباً: "يا له من منظر جميل! ولكن أين الطريق؟".
فأشار تالوس بيده قائلاً: "هناك". ولما فعل أدْرَكَ انه كان مخطئاً, فاستدرك قائلاً: "لا بل هناك... أو بالأحرى...".
وهنا اندفع أورفيوس يقول: "الآن قد هلكنا فعلاً, لاسيما وأن الظلام بدأ يخيّم علينا".
فأجابه تالوس بكثير من الشك: "أعـ... أعتقد أن علينا أن نصرف ليلتنا هنا وننتظر حتى طلوع النهار".
وحدث أن وجدا ملجأ يبيتان فيه واستعدا لقضاء ليلتهما هناك غير عالمين أن عيوناً شرسة كانت تحدق فيهما من عل.
قال تالوس بشيء من الاعتذار: "يؤسفني أني لا أستطيع أن أقدّم لك سوى خبز وجبن للعشاء".
فرد عليه أورفيوس مسروراً: "إنها لوليمة فاخرة. ما أكثر ما قضيت أياماً لم آكل فيها حتى كسرة خبز".
وفجأة مزّق سكون الليل عواءُ قطيع من الذئاب يُجَمِّدُ الدم في العروق.
"تالوس, أتسمع هذا الصوت؟ ليس عندنا سلاح ولا نار- ولاشيء لنطردها عنا". قال أورفيوس هذا وتصلب جسمه وهو يستقيم في جلسته ليصغي إلى عواء الذئاب.
أجاب تالوس مؤكداً: "بلى, عندنا. هات قيثارتك".
وأسرع قطيع الذئاب نحوهما. وكان لما اقترب أن أورفيوس ضرب أوتار قيثارته بقوة وشرع يغني أغنية جميلة شاركه فيها تالوس. وصوتهما غير الاعتيادي أوقف الذئاب في أماكنها وجعلها تحتار مما سمعت.
فقال أورفيوس مازحاً وهو يحاول إخفاء خوفه: "إنها تبدو شديدة الشبه بنقّاد الموسيقى الذين عزفتُ لهم في ماضي حياتي".
فأمسكه تالوس بذراعه وألحّ عليه: "تابع غناءك. لا ترفع عنها تأثير سحرك".
فتذمّر أورفيوس وقال: "لا أستطيع أن أتابع الغناء طويلاً بعد, فلقد بُحّ صوتي".
حسناً فليغنِّ كل منا بدوره... ولكن لا توقف العزف".
وأخيراً همس أورفيوس بصوته المبحوح: "إن هذا لا يجدينا نفعاً. فكلما انخفض صوت القيثارة ازدادت الذئاب اقتراباً منا".
علينا أن نحاول طردها عنا. اتبعني".
- عدد الزيارات: 2806