الفصل 4
في وقت لاحق من تلك الليلة جلس بعض الحراس السلتين في مخيّمهم حول النار وأخذوا يتحدثون عن انطباعاتهم وانتصارهم الكبير على السكيثيين المتوحشين. قال أحدهم: " من الغريب جداً أن أولئك السكيثيين هربوا دون أن يبلوا بلاء حسناً كعادتهم".
ثم علّق آخر على تلك المجابهة المشهودة: "أجل, ولكن الروماني يقول أن انتصارنا السهل كان بفضل إلهه".
وقال آخر حزيناً: "نعم, وهو لا يذكر شيئاً عن دورنا في المعركة".
فرَدّ الأول: "أسلّم معك على أن الخطة هي خطته ولعل إلهه أعلنها له. ولكن أليس لنا فضل نحن الذين خاطرنا بحياتنا لتنفيذها؟".
وأضاف الثاني: "إن الأرواح التي تسكن سندياناتنا المقدسة تمتدح الشجعان على بسالتهم في المعركة وتذيع أعمالهم البطولية أين كان".
وتكلّم الثالث مرة أخرى فقال: "إذا داوم هذا الغريب على القول بأن هزيمة السكيثيين كانت فقط بفضل إلهه, فلن تُروى قصة أعمالنا البطولية في أوساط المحاربين. أرى أن من الضروري إخماد أنفاسه قبل أن نصل إلى موطننا".
فاعترضه الرجل الثاني: "ولكن دمه يُطلب منا!". أجابه الثالث بخبث: "لا, ليس حين يكون موته صدفة". واتفق أن إرِك سمع الحراس يتحدثون فمضى فوراً ليحذر تالوس. قال:
"... فكن يقظاً كل الوقت, لأن هذه هي فرصتهم الكبرى ليفاخروا ببطولتهم في ظروف غريبة كهذه".
فطمأنه تالوس: "حالما أقنعهم بأن يؤمنوا بالمسيح سيعرفون معنى البطولة الحقيقية يا إرِك".
في اليوم التالي انشغل المخيم كله في بناء الأرماث (خشب يُضم بعضه إلى بعض ويثركب في النهر). والمرحلة الثانية من الرحلة كانت نـزولهم في النهر متجهين إلى منازلهم الواقعة عند مصبّ النهر. وعلى الرغم من أن هذه الطريق وفّرت عليهم أياماً عدة, فقد اقتضاهم جهد شاق لإعداد المركب العتيد أن يحملهم وبضائعهم وأغراضهم فوق النهر الغادر.
كان إرِك وتالوس يعملان مع فرقة من الرجال في قطع الأشجار ونشرها ألواحاً طويلة, وسرعان ما بدأ العرق يتصبّب من جبينيهما ويخز أعينهما.
قال إرِك وهو بعدُ يشعر بالضعف من ساقه المجروحة: "لا أذكر أني تعبت بهذا المقدار طيلة حياتي".
أجابه تالوس وهو يتوقف قليلاً ليستقيم إثر شعوره بتصلّب في ظهره: "وأنا كذلك. بالتأكيد سأكون متألماً جداً بحيث لن أستطيع العودة ماشياً إلى المخيم الليلة! كيف حال ساقك يا إرِك؟".
أجاب: "بخير, إني أحتاج إلى أكثر من خنـزير برّي ليقعدني طويلاً عن العمل".
فردّ عليه تالوس: "إني أصدّقك. فلقد شفي جرحك سريعاً. ولكن اذكُرْ أن الشيطان يسعى دوماً لإيذائنا ولاسيما حين يرغب الواحد منا في اتباع المسيح. لهذا السبب, فمن الشجاعة بمكان كبير أن نصير مسيحيين, وقد أوصانا المسيح بمقاومة إبليس وبإنكار ذواتنا إذا شئنا فعلاً أن نحيا له".
"إنك على حق يا تالوس. فما معنى الحياة إن حصل المرء على كل شيء كما يريده هو؟ حتماً إن يسوع تخلّى عن الكثير ليفعل ما فعل لأجلي ولأجلك. أنت تعلم يا تالوس أنه إن كان يسوع قد مات من أجلي فكل شيء يُسترخص في سبيله".
"هذا صحيح يا إرِك. فحين نعلم أن موت المسيح معناه حياة أبدية لنا معه, فهل يمكننا أن نفعل ما هو أقل من تسليم كل حياتنا له ليفعل بها ما يشاء؟ علينا أن نطلب دوماً فعل ما يرضيه!".
وهكذا صرفا نهارهما حتى إن العمل بدا أقل إرهاقاً وهما منهمكين في هذه الأفكار. وبعد قيلولة قصيرة عند الظهر أُكل إلى إرِك وتالوس القيام بعمل أقل وطأة ولكم شعرا بالامتنان لذلك. كانت حرارة الشمس قد أصبحت الآن أشدّ من ذي قبل, وسرّهما أن يتركا الشغل بالفأس لمن هم أكثر خبرة منهما. وكان عملهما الجديد هو ربط كل خمسة ألواح معاً بحبال كانا قد حملاها معهما من عند الفانداليين. وعلى الطرفين ثبتّا لوحَين صغيرين معتَرِضيَن بقصد تمكين الرمث. بهذه الطريقة تمكّن التجار من إعداد أسطول قوي مؤلف من خمسة عشرَ رمثاً تحملهم وكلّ ما لهم إلى موطنهم الذي لا يستغرق وصوله أكثر من عشرة أيام.
وكان إن تَقَايضوا مع القرويين فقدموا لهم خيولهم وثيرانهم مقابل الأطعمة الطازجة والبضائع الأخرى ولاسيما الجلود التي لفّوا بها سِلَعَهم لحمايتها من الماء. ولأنهم اشتغلوا حتى وقت متأخر من الليل كانوا جميعهم متعبين جداً, ومع ذلك فقد كانوا مستعدين للإقلاع في ساعة مبكرة من صباح اليوم التالي دون أن يبقى عليهم شيء سوى وضع الحزم والرزم المضادة للماء على الأرماث.
واصطف القرويون في ذلك الصباح إلى ضفة النهر ليودعوا السلتيين بهتافات قلبية متمنين لهم سفرة ميمونة مأمونة (ولو أنهم في قلوبهم تمنّوا لو أن ضيوفهم لا يفارقونهم البتة! فلقد نُقشت في قلوبهم ذكرى نجاتهم المعجزية على يد أولئك الناس).
وعلى أشعة شمس الصباح الباكر أخذت المياه الهادئة الرائقة تسطع حولهم فيما كانت مراكبهم تسير بهدوء مع التيار. ولم يكن بين تلك الجماعة أحد ممن لم يستأسره جمال المنطقة وسكونها بحيث أقرّ في قلبه أن الحياة لشيء رائع فعلاً! وحتى الحراس الخبثاء الثلاثة فقدوا كل نيّة شريرة لدى رؤيتهم ذلك المشهد أمامهم. وإرِك الذي شارك تالوس أحد الأرماث استغرق في التفكير وهو يتأمل جمال المياه المتموّجة والخُضرة الساطعة الباردة على ضفاف النهر. وسبّح تالوس خالقه من صميم قلبه على السلام الناجم عن ذلك المنظر الذي ذكّره بسلام الفكر الذي عرفه منذ دخل المسيح إلى حياته. وهنا تحرّك إرِك قليلاً ليحدّق في تالوس وهو يضبط عمود القيادة الطويل الرفيع بين يديه فيما كان واقفاً في مؤخرة الرمث. وحده الله استطاع أن يقرأ ما في فكر إرِك ويعرف شكوكه ومخاوفه الدفينة. إلا أنه سكبها جميعها أمام الله طالباً الحق- يسوع المسيح- الذي وحده يجعل للحياة معنى.
وتابعوا المسير ساعات تتلوها ساعات لا يشغلهم شيء سوى المناظر المتبدلة على ضفاف النهر: من المنتجعات الشائعة حيث ترعى الأبقار على مهل في الشمس الدافئة, إلى الغابات الزاخرة بالتنوع والألوان, إلى أحراج الصنوبر الجميل, التي بدت فيها كل شجرة وكأنها تنافس أخوتها في سباق نحو الفضاء! هذا هو المنظر الذي جذب انتباههم الآن فخيَّم عليهم الصمت كما لو أن اليد اللامنظورة كانت تقول لهم: "اسكتوا واعلموا أني أنا الله". فلم يفكروا بأحداث الأيام القاتمة, بل أنهم لم يفكروا بالغد, لأن جمال الطبيعة حولهم لم يدع للشر مكاناً فيما بدا لهم أشبه شيء بالفردوس.
وبينما كان المركب الصغير يسير كما تشتهي الرياح, لم ينتبه أحد- ولو إلى حين- إلى أن سرعته كانت تزداد شيئاً فشيئاً. وعندئذ وجه رجال القارب الذي يسير في الطليعة تحذيراً إلى الباقين بقولهم: "الصخور أمامكم! إننا نقترب من منحدر النهر"- لم يكن كل شيء ساكناً هادئاً في أرض العجائب هذه, وتذكّر تالوس مرة أخرى أن الشيطان ينسلّ يقيناً حين لا يتوقعه المرء.
يا لسخرية أفكاره! فمع أنه استمد هذه الحقيقة من المناظر المترامية أمامه فإنه قلّما شعر بالخطر الذي كان يواجهه- ليس من المنحدرات المزمجرة نفسها بمقدار ما هي من مصدر منسيّ في الوقت الراهن.
- عدد الزيارات: 2404