Skip to main content

الفصل الثالث والعشرون: السر المكشوف

 

إذا نظرنا من وجهة نظر الأبدية وجدنا أن حاجة الساعة الماسة هي أن ترجع الكنيسة من سبي بابلها وأن يتمجد اسم الله فيها مرة أخرى كما كان في الماضي. ولكن علينا أن لا نتحدث عن الكنيسة كشخص معنوياً يحمل اسماً، أي كترتيب ديني غامض. فنحن المسيحيين نكوّن الكنيسة، وكل ما نعمله تعمله الكنيسة، فالموضوع إذن لكل واحد فينا موضوع شخصي، وإذا ما كان للكنيسة أن تخطو إلى الأمام فيجب أن تبدأ كل خطوة بالفرد أي بالعضو.

فماذا نستطيع نحن كمسيحيين عاديين أن نفعله لكي نعيد المجد الذي زال. هل من سر يجب أن نتعلمه؟ هل من معادلة رياضية نطبقها على الوضع الراهن أو وضعنا شخصياً لتنتج انتعاشاً شخصياً؟ إن الجواب على هذه الأسئلة هو نعم.

على أن هذا الجواب قد يخيب آمال البعض لأنه أبعد من أن يكون جواباً عميقاً. فسوف لا أقترح كتابة سرية مستورة، أو طلسماً سرياً يحتاج جهداً جهيداً لحل رموزه، ولن أحتكم إلى قانون خفي من قوانين العقل الباطن، ولا إلى معرفة سحرية هي وقف على قلة من الناس. فالسر سر مكشوف يستطيع قراءته كل عابر سبيل، فهو بكل بساطة النصيحة القديمة التي هي دائماً جديدة وهي: تعرّف على الله. فإذا ما كانت الكنيسة راغبة في استرجاع قوتها المفقودة فعليها أن تبصر السموات المفتوحة وأن ترى الله رؤيا تغيرها وتجددها.

ولكن الإله الذي يجب أن نراه ليس هو الإله المنفعي الذي نستعمله لمنفعتنا كما هو شائع في يومنا هذا والذي يرى فيه الناس أن أهم دعواه هي قدرته على جلب النجاح لهم في مشروعاتهم المختلفة ولذلك فهم يتملقونه ويطرونه ليحصلوا على مبتغاهم. إن الله الذي يجب أن نعرفه هو الله ذو الجلال في السموات، الله أبونا القدير، صانع السموات والأرض، الإله الحكيم وحده مخلصنا. وهو الجالس على كرة الأرض، والذي يبسط السموات كستر وينشرها كخيمة للسكن، الذي يخرج النجوم بالعدد ويدعوها كلها بأسماء بعظمة قدرته، والذي يرى أن أعمال الإنسان كلها باطلة، والذي لا يتكل على الرؤساء ولا يسأل نصيحة الملوك.

ولن يمكننا أن نعرف كائناً كهذا عن طريق الدرس وحده، بل أن معرفته تأتي عن طريق حكمة لا قِبَل للإنسان الطبيعي بها فهو لا يعرفها ولا يمكن أن يعرفها إذ أن حكمة كهذه إنما يحكم بها روحياً. فمعرفة الله إذن هي أسهل شيء وأصعب شيء في العالم في وقت واحد. فهي سهلة لأننا لا نحصل عليها عن طريق الجهد العقلي المضني، بل هي عطية مجانية، فكما تشرق الشمس بنورها الساطع على الحقول المكشوفة فكذلك معرفة الله القدوس هي هبة مجانية لكل من يفتح قلبه لقبولها. على أن هذه المعرفة صعبة المنال لأن هناك شروطاً يجب توفرها وهي شروط لا تروق لطبيعة الإنسان الساقط العنيدة المقاومة.

ولنورد هنا ملخصاً مختصراً لهذه الشروط كما يعلمنا إياها الكتاب المقدس، وكما رددها عبر العصور أقدس القديسين الذين عرفهم العالم وأحلاهم.

فيجب علينا أولاً أن نترك خطايانا. فليس جديداً على الإيمان المسيحي ذلك الإيمان بأن الناس السادرين في غيهم لا يمكن أن يعرفوا الله القدوس. وهاك فقرة من كتاب عبري عنوانه حكمة سليمان كان قد صدر قبل المسيحية بسنين كثيرة: "أحِبُّوا البِرَّ يا من تقضون في الأرض، فكّروا في الله بقلوب صالحة، واطلبوا ببساطة قلب، فأولئك الذين لا يجربونه يجدونه، وهو يعلن ذاته لأولئك الذين لا يفقدون اتكالهم عليه. إن الأفكار العاصية تبعد الإنسان عن الله، وقدرته إذا ما جرّبناها توبخ الجهلاء، فالحكمة لا تعرف طريقها إلى النفس الشريرة ولا تسكن الجسد المستعبد للخطية، وروح النظام المقدس يهرب من الغش والخداع، ويبتعد عن الأفكار العديمة المعرفة، ولا يبقى حين يدخل الشر والإثم". ونحن نجد هذا الفكر عينه في أماكن كثيرة من الوحي المقدس في الكتاب المقدس، ولعل أكثرها شيوعاً قول المسيح له المجد "طوبى لأنقياء القلوب لأنهم يعاينون الله".

ثانياً، يجب أن يكون هناك تسليم كلي للحياة كلها في يدي المسيح بالإيمان وهذا هو معنى "الإيمان بالمسيح"، فهو يتضمن تعلقاً إرادياً اختيارياً وعاطفياً بالمسيح مقروناً بعزم أكيد على الطاعة له في كل شيء. وهذا يتطلب أن نحفظ وصاياه، ونحمل صليبه ونحب الله والناس.

ثالثاً، يجب أن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية ولكن أحياء الله بالمسيح يسوع وأن نفتح شخصياتنا فتحاً تاماً يفيض فيها الروح القدس وأن ننظم نفوسنا كما يجب للسلوك بالروح وأن ندوس بأقدامنا شهوة الجسد.

رابعاً، يجب أن نرفض المعايين الدينونة الرخيصة الساقطة وأن ننفصل في الروح انفصالاً تاماً عن كل ما يضع غير المؤمنين قلوبهم عليه وأن لا نسمح لأنفسنا إلا بأبسط أنواع المتعة الطبيعية التي أسبغها الله على الأبرار والأشرار على السواء.

خامساً، يجب أن نروض أنفسنا على ذلك الفن الجميل، ألا وهو التأمل الحبي الطويل في جلال الله. وهذا سوف يتطلب منا بعض المجهود لأن فكرة الجلال قد أوشكت على التلاشي من الجنس البشري. وأصبح مركز اهتمام الإنسان هو نفسه أي الإنسان. وحلت الإنسانية في مختلف صورها محل علم اللاهوت باعتبارها المفتاح إلى فهم الحياة. وعندما كتب سوينبرن Swinburne شاعر القرن التاسع عشر تسبيحته أعطى العصر الحديث التسبيحة التي أخذت مكان تسبيحة الخالق فقال: " المجد للإنسان في الأعالي فالإنسان سيد كل شيء!" فيجب أن تتغير كل هذه الأوضاع بعمل إرادي مقصود وأن تبقى أوضاعاً صحيحة بمجهود عقلي لا يكل.

فالله أقنوم ونستطيع معرفته بدرجات متصاعدة من المعرفة الحميمة عندما نُعد قلوبنا لتلقي هذا العجب. وقد يعني هذا أن نغير معتقدنا الأول عن الله عندما يشرق المجد كفجر على حياتنا الداخلية، ذلك المجد الذي يشع بأشعته الذهبية من صفحات الكتاب المقدس. وقد نحتاج كذلك أن ننعزل عن الحرفية التي لا روح فيها والتي تسود في الكنائس، وأن نحتج ضد الاستهتار الذي يتسم به الكثير مما ينتشر بيننا تحت ستار المسيحية. قد نفقد بعملنا هذا أصدقاء إلى حين وقد ينعتونا بالمتزمتين ولكن كل إنسان يسمح لمثل هذه النتائج غير السارة أن تؤثر فيه في أمر كهذا لا يصلح لملكوت الله.

سادساً، كلما ازداد تعلقنا بمعرفة الله كلما أصبحت خدمتنا للآخرين ضرورية لازمة، فهذه المعرفة المباركة لم تعط لنا لكي نتمتع بها وحدنا، بل كلما ازدادت معرفتنا لله كمالاً كلما شعرنا بالرغبة في ترجمة هذه المعرفة التي حصلنا عليها حديثاً إلى أعمال رحمةٍ وشفقة على البشرية المعذبة. فالله الذي أعطانا كل شيء سيعطي دائماً كل شيء عن طريقنا كلما ازدادت معرفتنا له.

لقد كانت تأملاتنا الآن في علاقة الفرد الشخصية بالله ولكن كما يتضوع شذا العطر من يمين الإنسان فيكشف عن وجود العطر في يد الإنسان فكذلك كل معرفة عميقة لله يحصل عليها الإنسان سوف تبدأ في إحداث تأثيرها على من حولنا من الجيران المسيحيين. ويجب أن نسعى بقصد ثابت لنشرك أفراد أهل بيت الله في النور المتزايد الذي نحصل عليه.

وهذا ما يمكننا أن نعمله إن ركّزْنا أنظارَنا على جلال الله في كل خدماتنا العامة. فليست صلواتنا فقط هي التي تمتلئ بالله بل شهادتنا كذلك، وتسبيحنا، وكرازتنا، وكتاباتنا، كل هذه يجب أن تتركز حول شخص ربنا القدوس القدوس وأن تمجد عظمته وجلاله وقدرته دائماً. ففي يمين العظمة في الأعالي إنسان ينوب عنا بأمانة هناك. أما نحن فقد تركنا هنا بين الناس إلى حين فلنكن ممثلين أمناء له هنا.

  • عدد الزيارات: 1144