Skip to main content

الفصل الثاني عشر: قدرة الله على كل شيء

 

أبانا السماوي لقد سمعناك تقول:"أنا الله القدير. سر أمامي وكن كاملاً". ولكن إن لم تعطنا القدرة بعظمة قدرتك الفائقة فكيف نسير في طريق كامل ونحن الضعفاء والخطاة بالطبيعة. علمنا أن نتمسك بعمل قدرتك الفائقة التي عملت في المسيح إذ أقمته من الأموات وأجلسته عن يمينك في السموات. آمين.

          سمع يوحنا في وقت رؤياه صوتاً كصوت جمهور عظيم وكصوت مياه كثيرة وكصوت رعود في الكون كله، وما أعلنه ذلك الصوت كان سلطان الله وقدرته على كل شيء: "هللويا. فإنه قد ملك الرب الإله القادر على كل شيء".

          فللّه ما لا يتوفر لمخلوق: فله قدرة فائقة تعلو عن كل فهم، وله السلطان المطلق. ولقد عرفنا ذلك عن طريق الوحي الإلهي، وعندما نعرف ذلك نجد أنه يطابق العقل تماماً. فإذا ما سلمت بأن الله غير محدود وكائن بذاته رأيت فوراً أنه يجب أن يكون بالضرورة قادراً على كل شيء، وعندئذٍ ينحني العقل أمام قدرة الله في خشوع وتعبد.

          ويقول المرنم: "العزة (القدرة) لله". وكذلك يعلن الرسول بولس أن الطبيعة نفسها تعلن قوة الله السرمدية (رو 1: 20). ومن هذه المعرفة نتدرج إلى معرفة قدرة الله على كل شيء: فالله قادر. وبما أن الله غير محدود أيضاً فلذلك كل ما له ليست له حدود. ولذلك له قدرة غير محدودة. فهو قائم على كل شيء. كما نرى كذلك أن الله الخالق القائم بذاته هو منبع كل قدرة موجودة، ولما كان النبع يستوي على الأقل مع المنبع الذي صدر عنه، فالله بالضرورة مساوٍ لكل القدرات الموجودة. وبمعنى آخر إنه قادر على كل شيء.

          ولقد وكّل الله قدرةً لخلائقه، ولكن بما أنه مكتف في ذاته، فهو لا يمكن أن يتنازل عن شيء من كمالاته، ومن هذه الكمالات قدرته. إنه لم يتنازل عن ذرة من قدرته. إنه يعطي ولكنه لا يتنازل. فكل ما يعطيه لا يزال ملكاً له وإليه يعود، فهو يبقى إلى الأبد كما هو، الرب الإله القادر على كل شيء.

          وليس علينا أن نقرأ كثيراً بتفهم في الكتاب المقدس لنلاحظ التفاوت الجذري بين نظرة رجال الكتاب المقدس ونظرة الإنسان العصري. إننا اليوم نشكو من العقلية الدنيوية. فبينما كان رجال الله القديسون يرون الله إذ بنا نرى قوانين الطبيعة. وعالمهم كان آهلاً بالسكان إلى درجة الملء أما عالمنا نحن فخلو من السكان تماماً وكان عالمهم شخصياً ينبض بالحياة أما عالمنا فمبهم وميت. لقد كان الله يملك على عالمهم أما عالمنا نحن فتسوده قوانين الطبيعة، ونجد نحن أنفسنا بعيدين عن حضرة الله.

          وما هي قوانين الطبيعة هذه التي حلت محل الله في عقول الملايين؛ فكلمة قانون لها معنيان، فهي تعني قاعدة خارجية مفروضة بسلطان، مثال ذلك القانون العادي ضد السرقة والسطو. وهي كذلك تعني الطريقة الموحدة التي تسير عليها الأشياء في الكون، ولكن هذا الاستعمال الثاني استعمال خاطئ فما نراه في الطبيعة هو بكل بساطة الطريق التي تسلكها قدرة الله وحكمته في الخليقة، وهذه في حقيقتها ظواهر لا قوانين، ولكننا نسميها قوانين جدلا ًبالمقابلة مع قوانين المجتمع.

          فالعلم يلاحظ كيف تعمل قدرة الله، ويكتشف طريقة رتيبة هنا أو هناك فيرصدها "كقانون" وتجانس أعمال الله في خليقته يمكّن العالم من التنبؤ بالظواهر الطبيعية. وثبات تصرفات الله في عالمه هو أساس كل حق علمي، إذ عليه يبني العالم إيمانه، ومنه ينطلق ليقوم بجلائل الأعمال النافعة في حقول الملاحة والكيمياء والطب والفن وما شاكلها.

          أما الدين فتحول من الطبيعة إلى الله، فهو لا يعنى بطريق الله في سبل الخليقة، بل هو يعنى بذلك الذي يطأ هذه السبل. فالدين يُعنى أولاً بذلك الذي هو مصدر كل الأشياء، وسيد كل ظاهرة. وعلى هذا الواحد أضفت الفلسفة أسماء عديدة، ولعل أكثر اسم رهبة هو ذلك الذي أطلقه رودلف اوتو Rudolf Otto : "المطلق، الهائل، الذي لا يهدأ أبداً، ضغط العالم الفعّال." ويغتبط المسيحي إذ يذكر أن "ضغط العالم" هذا قال مرة "أهيه" أي "أنا هو"، وأن أعظم معلم على الإطلاق علم تلاميذه أن يخاطبوه كشخص إذ قال: "متى صليتم فقولوا أبانا الذي في السموات ليتقدس اسمك...." ولقد تحدث أناس الكتاب المقدس في كل مكان مع هذا "المطلق الهائل" بعبارات شخصية جداً، وسار معه النبي والقديس في محبة فائقة دافئة وثيقة ومشبعة جداً.

          والقدرة على كل شيء ليست عبارة تطلق على مجموع القدرات كلها، بل هي صفة من صفات الذات الإلهية الذي نؤمن نحن المسيحيين بأنه أبو ربنا يسوع المسيح، وأب لكل الذين يؤمنون به للحياة الأبدية. ويجد الشخص العابد في هذه المعرفة مصدراً لقوة عجيبة لحياته الداخلية، فيرتفع إيمانه ليقفز قفزة رائعة إلى الأمام إلى الشركة مع ذلك الذي له القدرة على أن يفعل كل ما يريد والذي ليس لديه شيء غير مستطاع لأنه يملك القدرة المطلقة.

وبما أن له كل القدرة في الكون فإن الرب الإله القادر على كل شيء يستطيع أن يعمل كل شيء بنفس السهولة واليسر اللذين بهما يعمل الشيء الآخر. فكل أعماله يعملها بدون مجهود. فهو لا يبذل طاقة يجب تعويضها، فكفايته بذاته تجعله في غنى عن أن يسعى لتجديد قواه عن طريق خارج ذاته. فكل القدرة اللازمة للقيام بكل ما يريد عمله كامنة في الكمال الذي لا ينقص ولا ينفد الموجود في كيانه اللانهائي.

حدث أن سمع الراعي المشيخي أ. ب. سمبسون A. B. Simpson هذه الترنيمة لمرنمين زنوج، سمعها وهو على عتبة منتصف العمر وقد وهنت صحته، وتطرق اليأس المرير إلى نفسه، وأصبح على شفار ترك الخدمة:

ليس شيء صعباً على يسوع

ليس من يستطيع أن يعمل مثله

          فنفذت رسالتها كسهم إلى قلبه حاملة معها الإيمان والرجاء والحياة إلى جسده ونفسه. فطلب مكاناً للاختلاء، وبعد فترة من الانفراد مع الله قام من جثوه وقد شفي شفاء تاماً وراح في ملء الفرح ليؤسس ما أصبح بعد ذلك أكبر إرسالية أجنبية في العالم. وعمل بدون كلل ولا ملل في خدمة المسيح لمدة خمس وثلاثين سنة بعد تلك المقابلة التي تقابلها مع الله. لقد أعطاه إيمانه بالله الذي لا حد لقدرته القوة التي كان يحتاجها للعمل:

          أيها القادر على كل شيء إنني أنحني في التراب أمامك

          وكذلك ينحني الكروبيم مستورين،

          إنني أعبدك بورع هادئ ساكن

          أيها الرفيق الكلي الحكمة والموجود في كل الوجود.

          أنت أعطيت الأرض رداءها السندس الأخضر

          كما كسوتها أيضاً بالثلج الناصع.

          والشمس الساطعة والقمر اللامع في السماء

          يسجدان أمام حضرتك.

سير جون بارونج Sir John Bowring

  • عدد الزيارات: 1333