Skip to main content

الفصل الحادي عشر: حكمة الله

 

أيها المسيح، يا من تجربت في كل شيء نظيرنا، ما عدا الخطية، قوّنا لكي نغلب الرغبة في أن نصير حكماء، وفي أن نشتهر بالحكمة عند أولئك الجهلاء نظيرنا. إننا نتحول عن حكمتنا وكذلك عن جهلنا لكي نهرب إليك، يا من أنت حكمة الله وقوّة الله، آمين.

          في هذه العجالة التي نتأمل فيها عن حكمة الله نبتدئ بالإيمان بالله –وكما هي عادتنا سوف لا نحاول أن نفهم لكي نؤمن، ولكننا نؤمن حتى نفهم. ولذلك سوف لا نحتاج إلى برهان على حكمة الله، فإن الذهن غير المؤمن سوف لا يقتنع بأي برهان، وكما أن القلب العابد لن يحتاج برهاناً.

          ولقد صرخ دانيال قائلاً: "ليكن اسم الله مباركاً من الأزل وإلى الأبد لأن له الحكمة والجبروت... يعطي الحكماء حكمة ويعلم العارفين فهماً. وهو يكشف العمائق والأسرار. يعلم ما هو في الظلمة وعنده يسكن النور." وهذا ما يوافق عليه الشخص المؤمن كما يوافق على تسبحة الملائكة كذلك: "البركة والمجد والحكمة والشكر والكرامة والقدرة والقوة لإلهنا إلى أبد الآبدين." إن شخصاً كهذا لا يمكن أن يفكر أن الله يقيم برهاناً على حكمته وقدرته، أفلا يكفي أنه الله؟

          وعندما يقول علم اللاهوت المسيحي أن الله حكيم فإن المعنى أوسع مما يقول، فهذا العلم يحاول أن يجعل كلمة ضعيفة تحمل معنى واسعاً لا يحده عقل، يهدد بتمزيق تلك الكلمة وسحقها تحت ثقل تلك الفكرة. "لفهمه لا إحصاء" كما يقول المرنم. فعلم اللاهوت هنا يحاول أن يفسر اللانهائية وليس ما هو دون اللانهائية.

          وبما أن كلمة "لا نهائية" كلمة تصف ما هو فريد في نوعه، فلذلك ليس لها مرادف. فنحن لا نقول "أكثر لا نهائية" أو "أبدي جداً" بل نحن نقف صامتين أمام اللانهائية.

          وهناك بلا شك حكمة خلقها الله ومنحها لمخلوقاته حسبما يتطلب صالحهم. ولكن حكمة أي مخلوق، أو قل حكمة المخلوقات جميعها إذا ما قيست بحكمة الله غير المحدودة فإنها تبدو كلا شيء. ولذلك فإن الرسول صحيح تماماً عندما يشير إلى الله بالقول "الحكيم وحده". أي أن الله حكيم ذاته، وما حكمة البشر البراقة وحكمة الملائكة إلا انعكاساً لذلك البهاء غير المخلوق الذي يفيض من عرش العظمة في السموات.

          وحقيقة حكمة الله غير المحدودة هي أساس كل حق. وهي من المعلومات الأساسية في الإيمان اللازمة لسلامة كل إيمان آخر عن الله. وطبيعي أن الله لا يتأثر بأفكارنا عنه، فهو ما هو بغض النظر عن خلائقه. ولكن سلامة تفكيرنا الأخلاقي يتطلب أن تنسب إلى خالق الكون وحامله حكمة بالغة الجمال. فإذا ما رفضنا ذلك كان ذاك إنكاراً للشيء الذي يميزنا عن الحيوانات.

          وعندما تشير الحكمة إلى الله وإلى الناس الأبرار في الكتاب المقدس فإنها تتضمن معنى أخلاقياً قوياً، فهي طاهرة ومحبة وصالحة. أما الحكمة التي هي مجرد فطنة فقط تنتسب غالباً إلى الأشرار، ولكنها حكمة خدّاعة ومزيّفة. وهذان النوعان من الحكمة في صدام دائم. وفي الحقيقة إننا إذا ما تطلعنا من فوق قمة جبل سيناء العالية أو من الجلجثة فإننا نجد أن تاريخ العالم كله يبدو صراعاً بين حكمة الله وفكر الشيطان والبشر الساقطين. أما نتيجة الصراع فليس من شك فيها، فبجب أن يتداعى الناقص أمام الكامل في نهاية المطاف، ولقد وعد الله أن يأخذ الحكماء بمكرهم وأن يجهّل حكمة الحكماء.

          والحكمة علاوة على ما تعنيه من أشياء أخرى هي القدرة على استنباط الأغراض الكاملة والوصول إلى هذه الأغراض لوسائل غاية في الكمال، فهي ترى النهاية منذ البداءة، ولذلك لا تكون هناك حاجة إلى الحدس والتخمين. فالحكمة ترى كل شيء بجلاء ووضوح، وترى كل شيء في علاقته مع غيره من الأشياء فهي قادرة على العمل نحو الأهداف المعينة بدقة لا تعرف نقصاً.

          وكل أعمال الله يعملها بحكمة كاملة، وذلك لمجده الأعلى أولاً ثم لخير أكبر عدد ولأطول وقت، وكل أعماله طاهرة بقدر ما هي حكيمة، وهي صالحة بقدر ما هي طاهرة وحكيمة. وليس من المستحيل فقط أن تكون أعماله أحسن مما هي عليه، بل من المستحيل أن نتخيل طريقة أفضل لإنجازها. فالإله المتناهي الحكمة لا بد أن يعمل بطريقة لا يدخل عليها تحسين من قبل خلائقه. "ما أعجب أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت. مملوءة الأرض من غناك".

          ولولا الخليقة لظلت حكمت الله مختزنة في أعماق الطبيعة الإلهية غير المحدودة. ولقد أوجد الله المخلوقات حتى يستمتع بها وحتى تفرح به "ورأى الله ذلك أنه أحسن".

          ولقد أعلن الكثيرون على ممر العصور أنهم غير قادرين على الإيمان بالحكمة الأساسية لعالم يكثر فيه الشر والخطأ. ويكتب فولتير عن شخص متفائل اسمه الدكتور بانغلوس Dr. Pangloss ، ثم هو يضع في فمه كل الحجج على صحة الفلسفة التي تقول "بأحسن ما في العوالم". وبالطبع فلقد أعجب الساخر الفرنسي جداً أن يضع الأستاذ العجوز في مواقف تظهر فلسفته بمظهر مضحك مزرٍ.

          ولكن النظرة المسيحية للحياة هي أكثر واقعية تماماً من نظرة الدكتور بانغلوس صاحب "السبب الكافي". ذلك أن هذه العوالم الآن ليست هي أفضل العوالم، بل أن عالمنا يزرح تحت ظل كارثة عظمى، ألا وهي سقوط الإنسان، ويصر كاتبو الكتاب المقدس بالوحي على أن الخليقة كلها تئن وتتمخض الآن تحت الهزة الهائلة، هزة السقوط. وهم لا يحاولون أن يعطوا "أسباباً كافية" بل يقررون أن الخليقة أخضعت "للبطل، ليس طوعاً بل من أجل الذي أخضعها على الرجاء". فليس من ذكر هنا لأي مجهود لتبرير طرق الله مع البشر، بل هنا مجرد تقرير للواقع. فوجود الله في حد ذاته الدفاع والبرهان لنفسه.

          ولكن في دموعنا أملاً. فعندما تحين ساعة نصرة المسيح سوف يعتق العالم المتألم إلى حرية مجد أولاد الله. فالعصر الذهبي بالنسبة للخليقة الجديدة ليس في حكم الماضي بل هو في ذمة المستقبل، وعندما يؤتى به سيرى العالم في دهشته أن الله حقاً قد أجزل لنا العطاء بكل حكمة وفطنة. أما الآن فإن رجاءنا في الإله الحكيم وحده مخلصنا، ونحن ننتظر بصبر تتميم مقاصده الحميدة على مهل.

          وبالرغم من الدموع والألم والموت فإننا نؤمن أن الله الذي جبلنا كلنا حكيم وصالح حكمة وصلاحاً لا حد لهما. وكما لم يرتب إبراهيم في مواعيد الله بعدم إيمان بل تقوّى بالإيمان معطياً مجداً لله وتأكد أن ما وعد به هو قادر أن يفعله أيضاً، فكذلك نحن أيضاً نضع رجاءنا في الله وحده ونرجو بالرغم من عدم جدوى الرجاء في الظاهر إلى أن ينبلج الصبح. إننا نستريح في كنه الله. هذا هو الإيمان الحق كما اعتقد وكل إيمان يحتاج إلى دعم من الحواس ليس إيماناً صادقاً. "قال له يسوع لأنك رأيتني يا توما آمنت طوبى للذين آمنوا ولم يروا."

          إن شهادة الإيمان تقول أنه مهما بدت الأمور في هذا العالم الساقط فإن كل أعمال الله قد عملت في حكمة كاملة. ولقد كان ظهور الابن السرمدي في الجسد أحد أعمال الله العظيمة، ونحن نثق أن هذا العمل المهوب قد تم بكمال لا يستطيعه إلا من هو غير محدود. " وبالإجماع عظيم هو سر التقوى الله ظهر قي الجسد".

          وكذلك فعمل الفداء أيضاً قد تم بالدقة عينها التي لا عيب فيها تلك الدقة التي تتميز بها كل أعمال الله. ومهما كان فهمنا يسيراً فإننا نعلم أن عمل المسيح الكفاري قد صالح الله والإنسان مصالحة كاملة وفتح ملكوت السموات لكل المؤمنين. فنحن لا يعنينا هنا أن نبرهن بل أن نعلن. بل إنني أتساءل هل يمكن أن يفهمنا الله كل ما جرى هناك على الصليب. يقول الرسول بطرس أنه حتى الملائكة لا يعرفون، مهما رغبوا بحماسة أن يطلعوا على هذه الأمور.

          وعمل الإنجيل، والولادة الجديدة، وحلول الروح القدس في الطبيعة البشرية في الإنسان، واندحار الشر في النهاية وإقامة مملكة المسيح بالبرّ في النهاية، كل هذه فاضت وتفيض من ملء حكمة الله اللانهائية. وأحدّ عين لأقدس مُشاهد في جمع المباركين في السماء لا يمكنها أن تكتشف عيباً في طرق الله لتتميم كل هذا. كما لا تقدر كل حكمة الساروفيم والساروبيم مجتمعة أن تقترح تعديلاً لتحسين طريق الله. "قد عرفت أن كل ما يعمله الله أنه يكون إلى الأبد. لا شيء يزاد عليه ولا شيء ينقص منه. وإن الله عمله حتى يخافوا أمامه."

          ٍومن المهم أهمية حيوية أن نؤمن بحكمة الله اللانهائية كعقيدة من عقائد قانون الإيمان، ولكن ذلك ليس كافياً، بل يجب علينا عن طريق الإيمان والصلاة أن نمارس ذلك في حياتنا العملية يوماً بعد يوم. ومما ينيل النفس بركة حقة أن يؤمن الفرد إيماناً حياً بأن الآب السماوي ينشر حولنا باستمرار ظروفاً تعمل لخيرنا في الحاضر ولخيرنا الأبدي كذلك. كثيرون منا يصلون قليلاً في حياتهم، ويخططون قليلاً، ويحتالون للحصول على مركز، ويأملون في شيء ما دون أن يكون لهم يقين بالحصول عليه، وهم دائماً خائفون أن يضلوا الطريق. وذلك مضيعة للحق تدعو إلى الأسى ولن يعطي القلب راحة أو اطمئناناً.

          ولكن هناك طريقاً أفضل، وهو أن نرفض حكمتنا وأن نتسلح بحكمة الله اللانهائية عوضاً عنها. ومن الطبيعي أن نصر على محاولاتنا لاستطلاع الطريق ولكن ذلك معطل لنمونا الروحي. فلقد تكفّل الله بمسؤولية سعادتنا الأبدية وهو على أهبة الاستعداد لأن يتسلم زمام حياتنا في اللحظة التي نأتي إليه فيها بالإيمان. وهاك وعده "وأسيّر العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم. أجعل الظلمة أمامهم نوراً والمعوجات مستقيمة. هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم".

دعه يقود المعصوب العينين إلى الأمام

فالمحبة لا تحتاج أن تعرف

والأطفال الذين يقودهم أبوهم

لا يسألون إلى أين هم ذاهبون

ولو كان الدرب غير معروف

فوق أرض سبخة وجبال موحشة.

غيرهارد ترستيجن Gerhard Tersteegen

          والله يشجعنا دائماً لنتكل عليه في الظلام "أنا أسير قدامك والهضاب أمهد. أكسر مصراعي النحاس ومغاليق الحديد أقصف. وأعطيك ذخائر الظلمة وكنوز المخابئ لكي تعرف أني أنا الرب الذي يدعوك باسمك".

          ومما يشجعنا ويقوينا أن نعرف كم من أعمال الله العظيمة قد عملت في السر بعيداً عن تجسس أعين الناس والملائكة. وعندما خلق الله السموات والأرض كانت على وجه الغمر ظلمة، وعندما صار الكلمة السرمدي جسداً كان محمولاً بعض الوقت في ظلمة رحم العذراء المباركة، وعندما مات من أجل حياة العالم كان ذلك وسط الظلام ولم يكن أحد يبصره في النهاية، وعندما قام من الأموات كان ذلك "في الصبح باكراً جداً". لم يبصره أحد في أثناء قيامته، كأنما الله كان يقول: "يكفيكم أنني أنا ما أنا إذ في هذا رجاؤكم وسلامكم. سأعمل ما أعمل وسوف تفهمونه في النهاية، أما كيف أعمل فهذا هو سري أنا. ثقوا بي ولا تخافوا".

          فماذا يعوزنا وصلاح الله يبغي أقصى خيرنا، وحكمة الله تخطط له وقوة الله تحققه. حقاً إننا أكثر مَن أُنعم عليهم من بين كل المخلوقات:

في خطط جابلنا العظيمة كلها

تتجلى قوته في حكمته

وكل أعماله في هذا الوجود العظيم

تحدث بمجد اسمه

 توماس بلاكلوك Thomas Blacklock

  • عدد الزيارات: 1176