Skip to main content

الفصل العاشر: علم الله بكل شيء

 

          يا رب أنت تعلم كل شيء. أنت تعرف جلوسي وقيامي وتعرف كل طرقي ولست بحاجة أن أخبرك عن أي شيء، وعبثاً أحاول أن أخفي عنك شيئاً. وأنا أمام معرفتك الكاملة كطفل صغير ساذج. ساعدني يا رب حتى أطرح عني همومي لأنك تعرف طريقي التي أسلك فيها، وعندما تصفيني أخرج كالذهب. آمين.

          إننا بقولنا أن الله يعرف كل شيء نعني أن معرفته معرفة كاملة وليس بحاجة إلى أن يتعلم شيئاً. بل وأكثر من ذلك، إننا نعلم أنه ما تعلم شيئاً من أحد ولا يمكن أن يتعلم من أحد.

          ويحدثنا الكتاب المقدس أن الله لم يعلّمه أحد "من قاس روح الرب ومن مشيره يعلّمه. من استشاره فأفهمه وعلّمه في طريق الحق وعلّمه معرفة وعرفه سبيل الفهم." "لأن من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً." هذه الأسئلة البليغة التي سألها النبي أشعياء والرسول بولس تعلن أن الله لم يتعلم قط من أحد. فلو أن الله في أي وقت من الأوقات وبأية صورة من الصور قد قبل في ذهنه أي علم لم يكن له من قبل، منذ الأزل، لكان غير كامل، وكان أقل من ذاته. فالفكرة عن إله عليه أن يجلس عند قدمي معلم، حتى ولو كان ذلك المعلم ملائكة أو ملاكاً، إنما هي فكرة لا تنطبق على الله العلي خالق السماء والأرض.

          وطريقتنا هذه السلبية في معالجة موضوع علم الله بكل شيء لها، على ما أعتقد، ما يبررها في هذه المناسبة. فلما كانت معرفتنا الذهنية عن الله شحيحة وغامضة فإننا نستطيع أحياناً أن ننتفع كثيراً في محاولتنا تفهم كنه الله عن طريق التفكير فيما ليس هو من كنهه. ولقد اضطررننا اضطراراً في تأملنا في صفات الله حتى الآن إلى استعمال صيغة النفي بكثرة. فرأينا أن الله ليس له منشأ، وليست له بداءة، وليس بحاجة إلى معاونين، وليس خاضعاً للتغير، وليست له حدود في جوهره ويستخدم كاتبو الكتاب المقدس بالوحي هذه الطريقة فيرون الناس كنه الله عن طريق إعلامهم ما هو مخالف لكنه الله. فأشعياء يصرخ ويقول: "أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا." وهذه العبارة المختصرة التي قالها الله "أنا الرب. لا أتغير" تحدثنا الكثير الكثير عن معرفة الله بكل شيء أكثر مما نقرأه في أطروحة ذات عشرة آلاف كلمة، لو إننا سلمنا جدلاً بأن كل صيغ النفي قد استبعدت. ويحدثنا بولس الرسول عن صدق الله السرمدي مستعملاً صيغة النفي فيقول "الله المنزه عن الكذب (أي أن الله لا يكذب)." وعندما أكد الملاك رسالته فقال "لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله." فهو يستعمل صيغتين للنفي لكي يكون الإثبات مؤكداً.

          أما أن الله عالم بكل شيء فليس أمراً يعلّمه الكتاب المقدس فحسب بل يجب أن نستنتجه أيضاً من كل ما نتعلمه عن الله. فالله يعرف ذاته معرفة كاملة ولما كان هو مصدر كل شيء وأصل كل شيء فهو بالتالي يعرف كل ما يُعرف، وهو يعرف معرفة فورية وكاملة الكمال، وتشمل كل تفصيل عن كل ما هو كائن وما كان في أي مكان في الوجود وفي أي وقت مضى أو هو في ذمة المستقبل في العصور التي لم تولد بعد.

          فالله عالم بكل شيء وبكل الأشياء معرفة فورية وبدون جهد، وهو عالم بكل فكر وبكل الفكر، وبكل روح وبكل الأرواح، وبكل كائن وبكل الكائنات وبكل الخليقة وبكل المخلوقات، وبكل تجمع وبكل التجمعات، وبكل الناموس وبكل النواميس، وبكل النسب، وكل العلل، وكل الأفكار، وكل الأسرار، وكل الألغاز، وكل المشاعر، وكل الرغبات، وبكل سر لم يعلن، وكل العروش والسلاطين، وكل الشخصيات، وكل ما هو منظور وغير منظور في السماء، وعلى الأرض، والحركة، والفضاء، والزمن، والحياة، والموت، والخير، والشر، والسماء، وجهنم.

          وبما أن الله يعرف كل شيء معرفة كاملة فهو بالتالي لا يعرف أمراً أكثر مما يعرف أمراً آخر بل هو يعرف كل شيء معرفة كاملة متساوية. فهو لا يكتشف شيئاً أبداً، ولا تأخذه دهشة ولا عجب، ولا استغراب لأمر ما، كما أنه لا يطلب معرفة أي شيء ولا يسأل سؤالاً (إلا عندما يجذب الناس لخيرهم وصالحهم).

          فالله قائم بذاته ومتضمن لذاته ويعلم علماً شاملاً كاملاً ما لا يستطيع أي مخلوق أن يعلمه –أي ذاته- "أمور الله لا يعرفها أحد إلا روح الله". فغير المحدود هو وحده الذي يعرف غير المحدود.

 ونرى في علم الله لكل شيء رهبة اللاهوت وجلاله الواحد مقابل الآخر. فكون الله يعلم كل شخص علماً شاملاً كاملاً أمر قد يدعو إلى الخوف والفزع ذلك الشخص الذي يحاول إخفاء شيء ما أو خطية لم يقلع عنها، أو جريمة اقترفها ضد إنسان ما أو ضد الله. والنفس التعسة على حق في ارتعادها لعلمها أن الله يعرف بطلان كل حجة وهو لا يقبل الأعذار التي تحاول النفس أن تبرر بها التصرف الخاطئ لأنه تعالى يعلم علم اليقين السبب الحقيقي وراء هذا التصرف – "قد جعلت آثامنا أمامك. خفياتنا في ضوء وجهك." يا له من أمر مخيف أن نرى أبناء آدم يحاولون الاختباء وراء أشجار جنة أخرى. ولكن أين يختبئون يا ترى؟ "أين أذهب من روحك ومن وجهك أين أهرب... فقلت أنها الظلمة تخشاني فالليل يضيء حولي، الظلمة أيضاً لا تظلم لديك والليل مثل النهار يضيء. كالظلمة هكذا النور."

          أما نحن الذين لجأنا لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا في الإنجيل فما أحلى أن نعرف أن أبانا السماوي يعلمنا علماً كاملاً. فليس من مشتكٍ يستطيع أن يشتكي علينا ولا عدو يستطيع أن يلصق بنا تهمة، ولا شبح من طيات النسيان يستطيع أن يخرج من خزانة مخفاة ليفاجئنا ويشهر بماضينا. ولا أي ضعف غير منتظر في سلوكنا يمكن أن ينكشف ليبعد الله عنا لأن الله سبق فعرفنا معرفة كاملة قبل أن عرفناه، ودعانا لنفسه مع علمه الكامل بكل ما ينهض ضدنا " فإن الجبال تزول والأركام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب."

          فأبونا الذي في السموات يعرف جبلتنا ويذكر إننا تراب نحن. وهو يعلم خداعنا الذي ولدنا به، وقد اهتم بأمر خلاصنا لأجل خاطره (اش 8:48-11). وعندما جال ابنه الوحيد فيما بيننا أحسّ بآلامنا في أشد قسوتها. ومعرفته بآلامنا وشدائدنا هي أكثر من معرفة نظرية، فهي معرفة شخصية، حميمة، رحيمة. ومهما أصابنا فإن الله يعرفه ويعتني بنا كما لا يقدر إنسان أن يعتني بنا:

إنه يمنحنا فرحه

إنه يصير طفلاً صغيراً

إنه يصير إنسان أوجاعٍ

إنه يشعر بالحزن أيضاً.

لا تظنّن أنك تتنهد مرة واحدة

دون أن يكون جابلك إلى جانبك

لا تظنّن أنك تسكب دمعة واحدة

دون أن يكون جابلك إلى قربك.

آه، إنه يمنحنا فرحه

لكي يزيل به أحزاننا

حتى يوّلي حزننا ويهرب عنا

إنه يجلس إلى جانبنا متألماً.

وليم بلايك William Blake

  • عدد الزيارات: 1375