رأس المعرفة
" 1أَمْثَالُ سُلَيْمَانَ بْنِ داود مَلِكِ إِسْرَائِيلَ : 2لِمَعْرِفَةِ حِكْمَةٍ وَأَدَبٍ لإِدْرَاكِ أَقْوَالِ الْفَهْمِ. 3لِقُبُولِ تَأْدِيبِ الْمَعْرِفَةِ وَالْعَدْلِ وَالْحَقِّ وَالاِسْتِقَامَةِ. 4لِتُعْطِيَ الْجُهَّالَ ذَكَاءً وَالشَّابَّ مَعْرِفَةً وَتَدَبُّراً. 5يَسْمَعُهَا الْحَكِيمُ فَيَزْدَادُ عِلْماً وَالْفَهِيمُ يَكْتَسِبُ تَدْبِيراً. 6لِفَهْمِ الْمَثَلِ وَاللُّغْزِ أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَغَوَامِضِهِمْ. 7مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ. أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ "
سفر الامثال 1 : 1-7
لابد انك سمعت بسليمان الحكيم. كان هذا ملكا لبني اسرائيل في أيام ما قبل الميلاد واشتهر أكثر من سائر ملوك شعبه نظرا لحكمته العظيمة ولثروته الطائلة. وقد كان هذا الرجل الفذ من الذين اختارهم الله لكتابة بعض أسفار الوحي. وهكذا نجد ثلاثة أسفار من الكتاب كتبها سليمان بن داود ألا وهي الأمثال ونشيد الانشاد وسفر الجامعة. هناك كنوز عظيمة مخبأة لنا أن اخذنا على عاتقنا بأن نقف على ما تركه لنا سليمان بمعونة روح الله القدوس.
إن شعار سفر أمثال سليمان هو " 7مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ. أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ " ومع أن هذه الكلمات قيلت أولاً منذ نحو ثلاثة آلاف سنة الا أننا بحاجة اليها بصورة خاصة في أيامناهذه. فإذا ما نظرنا إلى الحياة الفكرية المعاصرة لابد لنا من الاقرار بأن أيامنا هذه هي أيام تجاهل الله ووجوده وكلمته وشريعته. هذا التجاهل بل هذا النكران كما هي الحالة في بعض الاماكن / لم يعرف له مثيل في الاعوام السالفة. وكأننا نعيش في عصر قد تأمر فيه الناس على عدم أخذ الله بعين الاعتبار في أمور الحياة الفكرية.
ومن البديهي أن المعارف تزداد بصورة عجيبة وسريعة أي المعارف المتعلقة بالكون وخاصة بالعالم الذي نحيا فيه. من كان من أجدادنا يحلم بوجود ثروة عظيمة مدفونة تحت رمال الصحارى المحرقة؟ من كان يعلم عن البترول والطرق العديدة التي يمكننا الاستفادة من منتوجاته؟ اننا نعلم أكثر بكثير عن كنوز الأرض مما كان يحلم به الاسلاف ولكننا هل نستطيع بأن نقول اننا أكثر حكمة من الاباء والاجداد؟ ازدياد المعارف بحد ذاته غير كاف لأن الإنسان المعاصر يظهر جهله التام في كيفية الاستفادة من محتويات معارفه. لنرجع إذن إلى حكمة الله التي تفوق كل حكمة بشرية ولنستمع إلى كلمات سليمان الحكيم " 7مَخَافَةُ الرَّبِّ رَأْسُ الْمَعْرِفَةِ. أَمَّا الْجَاهِلُونَ فَيَحْتَقِرُونَ الْحِكْمَةَ وَالأَدَبَ "
1 : المعرفة : ما هي المعرفة التي تكلم عنها سليمان بن داود؟ يمكننا القول بأن هذه المعرفة ليست بمجرد الوقوف على ما يسمى في أيامنا هذه بالأمور العلمية الطبيعية وليس فقط بما يسمى بالأمور الفلسفية. أن سليمان يعني ذلك وأكثر من ذلك : انه يتكلم عن الأمور الحياتية التي تنظم الإنسان أو بالاحري حياة الإنسان ضمن المجتمع البشرى الذي نحيا فيه. وهذا ما نحن بحاجة اليه في يومنا هذا : اننا بحاجة ماسة إلى معرفة الأمور التي تجعل حياة الإنسان، إنسان القرن العشرين حياة خالية من الخوف والعوز والاضطراب والتفكك والتفسخ. فمع كل نموالمعارف العلمية التي سخرت الذرة وأخذت بالإنسان إلى الفضاء الخارجي الا أن الإنسان لا ينعم بحياة هادئة أو هنيئة بل نرى حياته مهددة من كل حدب وصوب. المعرفة التي تكلم عنها سليمان هي معرفة شاملة كاملة، ولكنها فوق كل شيء معرفة حياتية واقعية تعترف بأن الحياة هي دوما أمام الاختيار : الاختيار بين الطريق المستقيم والطريق العوج، بين طريق السلام وطريق الحرب، بين طريق الله وطريق ابليس. ولذلك ابتدأ الحكيم في مقدمة سفر الامثال بهذه الكلمات الرائعة : " لمعرفة حكمة وتأديب (وهذه الكلمات تشير إلى الحياة الاخلاقية/ التطبيقية/ اليومية). لادراك أقوال فهم (وهذه بدورها تشير إلى الحياة الفكرية أو الايديولوجية أو العقائدية). لقبول تأديب التعقل، الحق والعدل والاستقامة، لتعطي الاغرار فطنة والشاب معرفة وتدبرا "
ان الملك سليمان اهتم بالأمور الحياتية ولم يكن مثل الكثيرين في هذه الأيام والذين يؤمنون بالطلاق بين أمور الدين والعلم؟ كان اهتمام الحكيم قبل كل شيء بالأمور الحياتية ولذلك لم يحجم عن الكلام عن قبول تأديب التعقل ولم ينس مطلقا أهمية الحق والعدل والاستقامة. لنستمر في اقتباسنا من كلمات الحكيم " 5يَسْمَعُهَا الْحَكِيمُ فَيَزْدَادُ عِلْماً وَالْفَهِيمُ يَكْتَسِبُ تَدْبِيراً. 6لِفَهْمِ الْمَثَلِ وَاللُّغْزِ أَقْوَالِ الْحُكَمَاءِ وَغَوَامِضِهِمْ "
وان كانت الأمور التي دخلت في نطاق المعارف البشرية كثيرة منذ نحو ثلاثة آلاف سنة فماذا نقول الآن؟ انها تكاثرت إلى هكذا درجة حتى أن بعض العلماء لا يمتنعون عن الكلام عن حالة المعرفة اليوم واصفين اياها بانفجار المعرفة البشرية. انها أشبه بمحيطات أو أوقيانوسات العالم الكبيرة. ولكن هل يمكننا أن نقول بأن الإنسان المعاصر يستطيع بأن يستفيد منها كما يجب؟ ولماذا لا يقدر إنسان القرن العشرين بأن يستعمل جميع معارفه في سبيل الخير والسلام؟
2. رأس المعرفة : أن أسئلتنا هذه تقودنا إلى الكلام عن رأس المعرفة. ماذا نعني بهاتين الكلمتين : رأس المعرفة؟ رأس المعرفة يعني بداية المعرفة أو أساس المعرفة. للمعرفة رأس أو بداية أو أساس. لا يكفينا أن نعرف الكثير عن أمور الكون والعالم أن لم نكن نعرف غاية الوجود ومعنى الوجود وماهية الأمور التي تكون عالمنا. المعرفة الوصفية لأمور دنيانا غير كافية، نحن نود بأن نعرف كنه الأمور وسببها وغايتها. هذا يعني أننا نود ارجاع كل معارفنا إلى نقطة مبدئية أو رئيسية. مادام الإنسان إنسانا أي مخلوقا مفكرا فإنه لابد من أن يسأل أسئلة مصيرية ولا يكتفي بالأجوبة الجزئية أو السطحية. بدون رأس للمعرفة، بدون أساس متين للمعرفة تضحي الحياة الفكرية حياة طابعها الفوضوية واليأس والقنوط.
وبهذه المناسبة لابد لنا من القول أن السبب الرئيسي لبزوغ الاضطرابات الطلابية في أماكن عديدة من العالم في المدة الأخيرة أن ذلك يعود إلى أن الثقافة المعاصرة هي ثقافة امتازت بتكديس المعارف العلمية وبعدم الاكتراث بأمور رأس المعرفة وأساسها. أن حضارة النصف الثاني من القرن العشرين لأشبه ببناية عالية أو بناطحة سحاب – بدون أساس متين! اننا بحاجة قصوى إلى أساس متين للمعرفة ولكننا لا نجد الناس يتكلمون عنه بل نراهم تائهين في صحارى حياة فكرية خالية من الأسس السليمة. أين نجد هذا الاساس؟
3. رأس المعرفة مخافة الرب : لقد تكلم سليمان الحكيم عن هذا الاساس منذ نحو ثلاثة آلاف سنة. رأس العرفة مخافة الرب! مخافة الرب هي أساس المعرفة. نعم مخافة الرب. هذا يعني أن المعرفة تبنى فوق كل شيء على احترام تام وكلي للرب أي لله الواحد القدوس الذي خلق العالم وكل ما في الوجود والذي تكلم مع البشرية بواسطة الأنبياء والرسل. هل يؤخذ الله تعالى بعين الاعتبار في الحياة الفكرية في أيامنا هذه؟ هل يهتم علماء الطبيعة أو العلوم الطبيعية هل يهتمون بأمور الله وبعلاقتها بما يقومون به في مختبراتهم؟ مع الأسف الشديد علينا الاعتراف بأن طابع الثقافة العالمية المعاصرة هو طابع لاديني في بعض الاحيان وضد الدين في أحيان أخرى. وقد يظن البعض بأنني أقوم بحملة شعواء على العلم المعاصر ولكني لست أقوم بذلك مطلقا، انما أو د بأن ألفت نظر الجميع بأن الجو العالمي الثقافي اليوم هو غير آبه بأمور الله ومنكر لها. وها أسرد لكم الآن ما ورد في رسالة من أحد مستمعينا الاعزاء والذي كان يقوم بجولة في احدى البلاد الأوروبية أثناء العطلة المدرسية. تعرف على فتاة مثقفة ثقافة عالية فسألها مرة قائلاً : أي عقيدة تعتقدين؟ " فكان جو ابها " لا أعتقد أن ما كتب بالحروف يمكن أن يصح في عالم المحسوسات " وبعبارة أخرى أنكرت هذه الفتاة المثقفة أمام أحد مستمعينا الكرام أنكرت إيمانها بالوحي الإلهي وبإمكانية وجود علاقة حيوية بين أمور الله والعالم!
ان موقف هذه الفتاة المعاصرة المثقفة ثقافة عالية والعائشة في بلد أو روبي متمدن ومتقدم أن موقفها هذا يشبه موقف الآلاف من المعاصرين الذين لا يعترفون بمخافة الرب أي انهم لا يعترفون بالله ولا بوحيه ولذلك فإنهم يحيون وكأن الله غير موجود وكأن المعرفة ممكنة بدون أخذ الله بعين الاعتبار.
ولكن بدون مخافة الرب تبقى المعرفة بدون معنى أو هدف المعرفة غير المعترفة بالله وبوحيه هي معرفة بدون حكمة وبدون فائدة للإنسان.
يا ترى كيف وصل الناس إلى هذه الحالة المحزنة؟ حتى في أيام سليمان كان البعض لايهتمون بالله ولذلك فان الحكيم لم يكتف بالقول : مخافة الرب رأس المعرفة بل استمر قائلاً : أما الحمقى فيحتقرون الحكمة والتأديب! ولماذا؟ لأن في الإنسان ميل إلى الانحراف عن جادة الحق وهذا ما يسمى في الكتاب بالخطية. الإنسان هو في نفسه أسير للشر والخطية ولذلك يفضل السير على طريق الظلام والابتعاد عن طريق الله المستقيم. فتيهانه في الحياة الفكرية في أيامنا هذه ليس بالأمر الحديث بل انه يجرى منذ فجر التاريخ. ولكنه يجدر بنا أن نذكر أن الله لم يقف مكتوف اليدين بل بادر إلى ارسال السيد المسيح إلى عالمنا هذا وقام بعمل إنقاذى حاسم عندما مات المسيح كفاريا على الصليب وقام من الأموات في اليوم الثالث. وهكذا فان المتحرر من الخطية ومن عواقبها الكثيرة – أي ذلك الذي اختبر ضمن حياته قوة المسيح الفدائية – ينظم إلى سائر المؤمنين عبر التاريخ ويقول من قرارة قلبه مع سليمان الحكيم : مخافة الرب رأس المعرفة، آمين.
- عدد الزيارات: 4263