الإيمان الحي والإلحاد المعاصر
لقد ألمحنا في أكثر من مناسبة بأن الجو الفكري العالمي في أيامنا هذه هو تحت تأثير فلسفة لا دينية / دهرية محضة. وهذه الفلسفة أو النظرة الحياتية (أو الايديولوجية). لهي جدية للغاية وهي تسعى بأن تعالج مشاكل الإنسانية المتعددة بروح الواقعية – حسب ما يقول دعاتها وأنبياؤها المعاصرون.
ولا يكفينا أن نكون سلبيين في موقفنا من موجة اللا دينية المعاصرة وأن نتركها على حدة وكأنها ستستنـزف قواها وتصبح بدون أية قوة أو جإذبية. من واجب كل من قال عن نفسه أنه مؤمن بالله وبالخليقة وبسيطرة الله على مقدرات العالم وعلى سير التاريخ، أن يسعى بكل قواه الفكرية وبسائر المواهب التي استلمها من الله خالقه بأن يفهم عقلية الذين رفضوا الله والذين نراهم منهمكين في بناء عالم بشرى محض تكون فيه فكرة الله معدو مة.
علينا نحن معشر المؤمنين أن نفهم عقلية غير المؤمن وذلك لانهم مثلنا بشر وواجبنا ألا نكون أقل إنسانية وحساسية من الذين خسروا إيمانهم بالله وبما فوق الطبيعة. المؤمن الحقيقي يهتم بسائر أفراد البشرية ولا يعاملهم كما يعاملونه بل كما يود منهم أن يعاملوه، أي حسب المبدأ السامي الذي تركه لنا السيد المسيح عندما قال :
" 12فَكُلُّ مَا تُرِيدُونَ أن يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هَكَذَا أَنْتُمْ أيضاً بِهِمْ لأَنَّ هَذَا هو النَّامُوسُ وَالأَنْبِيَاءُ "
وغير المؤمنين من معاصرينا يقولون أنهم مثاليون وأنهم يرغبون رغبة صادقة في بناء عالم جديد وفي القضاء على سائر الشرور والمظالم التي اكتظت بها حياة البشرية منذ القديم. وهكذا فنحن مدينون لهم (أي لغير المؤمنين). بأن نريهم بأننا وان اختلفنا معهم اختلافا جذريا (وذلك في موضوع الله وجوهر الإنسان). الا اننا لسنا أقل اهتماماً منهم بأمور الحياة المعاصرة وبواجب القضاء على الشرور والمظالم التي تعكر صفوالحياة البشرية.
من واجب المؤمنين إذن تفهم عقلية غير المؤمنين لكي نستطيع أن نريهم الخطأ الفادح الذي ارتكبوه عندما ثاروا على الله وعلى كلمته المقدسة ولكي نقودهم – بفضل نعمة الله القوية والمقتدرة إلى الرجوع إلى جادة الحق والصراط المستقيم. ونشكر الله تعالى اسمه أن البعض من المؤمنين المثقفين ثقافة عالية أخذوا البحث بصورة جدية في هذا الموضوع الخطير ولخصوا ثمار بحوثهم في كتب مفيدة أخذت تظهر في أو ساط مختلفة من العالم. وقد ظهر مؤخرا كتابا من هذا النوع باللغة العربية تحت عنوان : اله الإلحاد المعاصر وقد طبع في بيروت، لبنان. وفيما يلي نقتبس بعض كلمات من مقدمة هذا الكتاب القيم :
من ميزات الإلحاد المعاصر أنه لا يتعرض لو جود الله بحد ذاته بقدر ما يتعرض لعلاقة الله بالإنسان. فوجود الله بحد ذاته أمر لا يهمه كثيراً... ما يؤكد الإلحاد المعاصر على نفيه هو إذا علاقة الله بالإنسان، تلك العلاقة التي تجعل له مرجعا وغاية غير ذاته. ما يرفضه الإلحاد المعاصر بنوع خاص هو أن يستقطب الله وجود الإنسان. ذلك أنه يعتقد أن الوجود الإنساني يتلاشى ويزول إذا استقطبه وجود آخر، أن الإنسان يضيع في الله "
فالجو الفكري العالمي الذي يسيطر عليه لدرجة كبيرة الإلحاد المعاصر هو جو يرفض البحث الجدى في علاقة الإنسان بالله. ولذلك بأن من أعتنق مبادىء الإلحاد المعاصر يرى نفسه ملزما بأن يبحث عن بديل لله ولسلطة الله المطلقة كالمرجع النهائي والمطلق للحق والحقيقة. غاية الملحد المعاصر هي أن يجعل الإنسان حرا، حرا من كل قيد وشريعة وسلطة – لا بشرية أو فوق بشرية. انه يعلن استقلاله التام والكامل والمطلق عن أية عقيدة أو فكرة تظهر للإنسان أنه ليس الكائن العاقل والوحيد والفريد في هذه الدنيا. غاية الإلحاد المعاصر هي إذن الحرية التامة والكاملة، وهذه الحرية هي على الأبواب، فيما لو اعتنقها سائر أفراد البشرية وطبقوا مبادئها في حياتهم وفي علاقاتهم الاجتماعية. هذه هي خلاصة التفكير العقائدى الذي أنتجه ملحدوهذه الأيام!
وبما أن الناس منذ القديم كانوا يعتقدون بالله – والذين ضلوا وتاهوا، اعتقدوا بتعدد الآلهة – فان أنبياء الإلحاد المعاصر حاولوا تفسير وجود الإيمان بالله – بغض النظر فيما إذا كان إيماناً باله واحد أو بتعدد الآلهة – وكأنه من رواسب العقلية البشرية البدائية. ولذلك، وبما أن الإنسان المعاصر قد وصل إلى سن الرشد، فإنه ينتظر منه نبذ هذه الرواسب الرجعية والقديمة ويهب من سباته للجهاد في سبيل بناء عالم جديد – عالم الإنسان – الإنسان الذي تخلص نهائيا من الإيمان بالله!
وما يجهله أنبياء الإلحاد المعاصر هو أن الإنسان ذاته مخلوق ديني ولا يستطيع العيش بدون دين ما. التاريخ بأسره يعلمنا أنه حتى عندما يفقد الإنسان الإيمان بالله السرمدي القدوس فإنه لا يصبح إنسانا لا دينيا بل على العكس يظل متعبدا لأصنام متعددة يصنعه لنفسه في صحارى الوثنية القاحلة. الإنسان هو مخلوق ديني بمعنى أنه مهما جاهد وعمل لا يقدر أن يعيش بدون الإيمان بمطلق ما.
وهكذا نصل إلى القول بأن الإلحاد المعاصر لا يبقى منطقيا مع مبادئه الأولية لأنه ما أن يعلن نبذه النهائي لله تعالى اسمه حتى يرى نفسه مضطر لتأليه إما أفكاره أو بعض أبعاد الواقع المخلوق. الإلحاد المعاصر يؤله المادة (إذ يجعلها أزلية خلاقه).، ويؤله التاريخ (إذ يجعله بصورة حتمية وآلية سائرا نحو تغيير واصلاح جميع مسأوىء الحياة في شتى حقولها وأبعادها). ويؤله الحرية (جاعلا اياها مفهوما مطلقا معزولا عن بقية مفاهيم الحياة وقيمها).!
فهل يكون الإلحاد المعاصر قد ساعدنا للوصول إلى حل مشاكلنا العديدة بمحاولته ازالة عقيدة الله من الفكر المعاصر؟ على العكس لقد أصبحت مشاكلنا أكثر تعقيدا وتشابكا لان الإنسان المعاصر يبقى جذريا مخلوقا دينيا قد استبدل الله بآلهة معاصرة صنمية وهو يقود نفسه وسائر الذين يتبعونه إلى شباك عبودية لا ترحم ولا تشفق. ليس هناك إذن من بديل عن الإيمان الحي بالله الخالق والحياة المبنية على ذلك الإيمان القديم!
الجو الفكري العالمي هو – لدرجة كبيرة – جو لا ديني أو جو ضد ديني. هذه ظاهرة مؤلمة للغاية ولكننا لا نستطيع إنكارها أن كنا واقعيين في تقييمنا لأمور الحياة المعاصرة. والنظرية الإلحادية تصبغ اليوم بالصبغة العلمية وصار ينظر إلى كل نظرية مخالفة لها وكأنها وجهة نظر رجعية ومن رواسب القرون القديمة البدائية.
رأينا في بحثنا السابق بأن الإلحاد المعاصر يهتم فوق كل شيء بإنكار وجود أية علاقة بين الله والإنسان، لأنه يخال أن سلمنا بوجود تلك العلاقة الارتباطية – بأن وجود الإنسان وحريته يصيران عدما! وإذ يسعى الإلحاد المعاصر للتخلص من فكرة الله ومن عقيدة سلطة الله على كل شيء وسياسته لأمور الكون بما فيها من أمور هذه الدنيا التي يعيش عليها البشر، فإنه يضطر إلى اعطاء صبغة المطلق لبعض نواحي الوجود. وهذا يعود إلى تعذر العيش على الصعيد الفكري بدون الإيمان الديني بمعنى أن الإنسان هو مخلوق ديني بالرغم من كل ما يقوم به للتخلص من الدين. وهكذا وإذ ينكر الإلحاد المعاصر وجود الله السرمدي الخالق فإنه يؤله مظاهرا معينة من الخليقة وهكذا تأتي إلى الوجود صنمية القرن العشرين التي هي ليست أقل ضلالا من الوثنيات والصنميات القديمة التي عرفها عالمنا.
عصرنا هذا قد عرف صنمية تأليه المادة – التي منحت صفة الازلية وقوة الابداع – وصنمية تأليه التاريخ – الذي يفسر بصورة تامة على الصعيد البشرى المحض، والذي يوهب المقدرة التامة على إنقاذ الإنسان من شروره، وصنمية تأليه الحرية المعرفة كرغبة تامة وكاملة لتسيير أمور الذات بدون الرجوع إلى أية شريعة أو ناموس أو مرجع غير بشرى أو فوبشرى (أي فوق بشرى)..
نجد في عقلية الملحدين المعاصرين عقدة نفسية قوية تجعلهم يرددون الكليشيهات الفارغة بأن الدين هو من اختراع الإنسان. ولكن الدين ليس من اختراع الإنسان. الدين موجود في عالمنا لان الخالق تعالى هو الذي أو جده. وليس للدين بعد واحد : البعد العامودى أي الاهتمام بأمور الله فقط! للدين بعدان هامان : البعد العامودى – الذي ينظم علاقة الإنسان بالله والبعد الافقي – الذي ينظم علاقة الإنسان بجاره وقريبه الإنسان. وهذا بالفعل ما كان الله قد لقنه لبني البشر منذ القديم فعندما أعطى الله شريعته بواسطة كليمه موسى فأن الشريعة بأسرها وبوصاياها العشر لخصت بكلمتين : المحبة لله، والمحبة للقريب : وتحب الرب الهك من كل قلبك ومن كل فكرك ومن كل نفسك وتحب قريبك كنفسك! "
لا يمكننا إذن القول بأن الله تعالى اسمه قد أهمل الإنسان والبعد الافقي للدين. على العكس لم يهمل الله الإنسان مطلقا بل نراه يسعى منذ فجر التاريخ في سبيل انارة السبيل أمام الإنسان وإنقاذه من سائر الشرور والمظالم التي تعكر صفوحياته. لم يهمل الله الإنسان. حاشا، لقد قام تعالى اسمه بكل ما يلزم لجعل حياة البشرية حياة هنيئة ومليئة بالخير والسلام.
ولكن الإنسان هو الذي أفسد الحياة البشرية. فمنذ العصور القديمة نرى الإنسان يبتعد عن الإيمان الحي بالله الوحد السرمدي القدوس ويعبد أفكارا وشهوات جسمها في أصنام حجرية ومعدنية وخشبية. ومن المؤسف حقاً أنه حتى الذين نجوا من الوثنية لم يطبقوا دوما الإيمان في الحياة، ولذلك نجد بأن البيئة التي أو جدت الإلحاد المعاصر وهي البيئة الغربية التي كانت موطنا للإيمان مدى قرون عديدة – هذه البيئة لم تكن لتهتم بحاجات الإنسان الفردية والاجتماعية وبوجوب تطبيق الإيمان في شتى نواحي الحياة. ولذلك فأن مسأوىء عديدة برزت إلى الوجود وخاصة في حقل الاقتصاد ولكنها لم تعالج بصورة تتفق مع خلاصة الشريعة السماوية. وكذلك يمكننا القول بكل صراحة أن الدين قد استغل أحيانا في سبيل المنافع الشخصية في ذات البيئة التي هي مسؤولة عن ظهور الإلحاد المعاصر بشتى ألوانه.
وكم من المؤسف أن الذين أرادوا الاصلاح والتغيير والإنقاذ أخذوا في كثير من الاحيان فلسفات لادينية وغير معترفة بالله كأساس عقائدى لافكارهم ومراجعهم وايديولوجياتهم. نعم كم من المؤسف أن تفسر المشكلة الإنسانية في شتى العصور وكأنها ذات بعد واحد أي البعد الإنساني ذاته! نعم من المهم جدا الحملة على المظالم ومن الجيد جدا أن تكافح الشرور الاجتماعية والاستغلالية والاحتكارية التي تحرم الناس حاجاتهم الضرورية، من المهم أن يمنح كل إنسان حقوقه وامتيازاته وأن يعطى الفرصة لكى تنموشخصيته وتترعرع. ولكن هل يجب أن يتم كل ذلك على أساس الثورة على الله وعلى العقيدة السليمة بأنه تعالى الخالق والمعتني بكل ما في الوجود وأنه المسيطر على التاريخ؟ أن أردنا التغلب على مشاكل القرن العشرين المتشابكة والمعقدة، هل علينا أن نلجأ إلى صنمية من طراز جديد وننتظر منها العون والنجاة؟ أهذا هو المنطق السليم؟
ان الهنا هو اله محب وشفوق ورحيم ولذلك نراه يسعى منذ فجر التاريخ في سبيل خيرنا ولم يتركنا نحن بني آدم لنحصد ثمار اكتفائيتنا وأنانيتنا بل بادر إلى معونتنا بواسطة كلمته المحررة. لقد كلمنا الله بواسطة أنبيائه ومرسليه وأفهمنا بكل صراحة بأننا لن نجد معنى الحياة ولا السلام ولا الوئام الا إذا تبنا ورجعنا اليه وقبلنا شروطه للحياة.
ولم يكتف تعالى بارسال أنبيائه ورسله إلى عالمنا هذا العالم المعذب والواقع في عبودية الصنمية بل قام بعمل خلاصي جبار وحاسم عندما أرسل السيد المسيح وأعطاه اسم يسوع أي مخلص، محرر، منقذ. فما قام به المسيح منذ نحو ألفي سنة في البلاد المقدسة من أعمال خلاصية وفدائية أي بواسطة آلامه وموته وقيامته من الأموات قد بنى الاساس المتين للحياة البشرية المنتصرة. وهو يكلمنا الان من جديد بواسطة كلمته المدعوة بالخبر المفرح ويقول لنا " 28تَعَالَوْا إِلَيَّ يا جَمِيعَ الْمُتْعَبِينَ وَالثَّقِيلِي الأَحْمَالِ وَأَنَا أُرِيحُكُمْ! "
طريق الإيمان القويم هو الطريق الوحيد الذي نهايته خلاص البشرية وسعادتها والإلحاد المعاصر لن ينجح في مساعيه مهما ظهرت مثله العليا نبيلة وبراقة!
ليست هذه الأيام الوحيدة التي عرفت أو أختبرت المشاكل الحياتية. المشاكل موجودة منذ فجر التاريخ. ولكن حدة مشاكلنا اليوم تعود إلى أن عالمنا قد امتلأ ببني البشر أكثر من أي وقت مضى، وإلى مدى معرفتنا الشخصية بوجود أزمة عالمية. فعالم الامس لم يعش فيه 3 ونصف مليارات في أن واحد ولم تكن لدية الوسائط الحديثة للتنقل أو المواصلات السلكية واللاسلكية، ولذلك لم يكن أهل الماضي يدرون بمشاكلهم مثلما نعلم بها نحن ابناء القرن العشرين.
ومشاكلنا اليوم لها أبعاد اقتصادية، اجتماعية، دولية، عائلية، فردية.. وهي متشابكة ومعقدة لا نحل واحدة منها الا ونرى ظهور عدة مشاكل أخرى. وهكذا نقول : أن إنسان اليوم – بالنسبة التي يقف بها على ما يجرى في عالمه – أن إنسان اليوم لهوتحت ضغط فكري وعاطفي قوى للغاية. يشعر إنسان اليوم بضرورة ايجاد حل سريع وناجح لجميع مشاكلنا وهو لا يريد أن ينتظر إلى الغد أو ما بعد الغد ليرى الطريقة المثلى لمعالجة مشاكله الحياتية. يود إنسان اليوم أن يتم كل شيء اليوم لا غدا، صبره قد نفذ وهو لا يسر مطلقا أن طلب منه الاقتداء بأيوب الصديق الذي اشتهر في التاريخ بصبره وباتكاله على الله.
ما هو لب مشاكلنا؟ أن لمشاكلنا أبعاد مختلفة وهذا أمر لا ينكر. ولكن ما هو قلب مشاكلنا؟ علينا أن نصل إلى تعليل مشاكلنا تعليلا صحيحا والا فأننا لن نتمكن من القضاء عليها بل ستزداد وستتكاثر في المستقبل بصورة لم يعرف لها مثيل!
يقول لنا الإلحاد المعاصر أن لب مشكلة الإنسان انما هو في عدم تطبيقه للنظرة العلمية في حياته. وما هي هذه النظرة العلمية التي يطلب منا أن نضعها موضوع التنفيذ؟ يقال لنا : النظرة العلمية للإنسان هي في أنه كائن عاقل وحيد وجد على سطح الكرة الأرضية وقد تطور من درجات سفلى للوجود إلى هذه المرتبة الحالية. ومن المؤسف – حسب تعليل الإلحاد المعاصر المصبوغ بالصبغة العلمية – من المؤسف جدا أن الإنسان قد تعلق منذ القديم بأمور ما فوق الطبيعة واعتقد بوجود الله والروح والحياة ما بعد الموت والملائكة والشياطين.. وجميع الانظمة الفكرية التي بناها الإنسان في الماضي لم تساعده على التغلب على مشاكل الحياة بل زادتها تعقيدا حتى أصبحت حياة اليوم لا تطاق نظرا لحدة الازمة العالمية المعاصرة. وكشرط أساسي للبدء في التغلب على مشاكلنا، يطلب منا دعاة أو أنبياء الإلحاد المعاصر نبذ المعتقد بالله وبأمور ما فوق الطبيعة والالتصاق بفلسفات متنوعة تجد نقطة التقائها في كون فكر الإنسان المرجع الوحيد لجميع أمور الحياة.
يطلب منا اليوم أن ننبذ إيماننا القويم بالله الواحد السرمدي الخالق وأن نتخذ كبديل عنه إيماناً أو معتقدا دهريا أرضيا مطليا بطلاء التجرد والنـزاهة والموضوعية والعلم. وهذا يعني أن البدء في حل مشاكلنا انما هو رفض الله وشرائعه وبرنامجه لدنيانا. هذه هي خلاصة التفكير العالمي الملحد في أيامنا هذه ولسنا نظن بأننا قد وصفناه بطريقة تبسيطية غير مشروعة.
اننا نرفض مبدئيا وكليا هذا التحليل الذي جاء به الإلحاد المعاصر لمشاكلنا في الحياة. أن الإلحاد المعاصر هذا لم يتطرق بالحقيقة لبحث بصورة جدية وموضوعية في ماهية لب مشاكلنا. وما هو لب مشاكلنا؟ لب مشاكلنا هو اننا قد نسينا الله وجعلناه هو تعالى اسمه المشكلة. أهناك دليل أكبر على ضلال الإنسان المعاصر؟ حاشا ليس الله بالمشكلة، مشكلة المشاكل هو الإنسان! نعم الإنسان هو سبب المشاكل الإنسانية بأسرها وهو مسببها ولكنه منذ القديم نراه يتهرب من مسؤوليته فيبحث عن السبب خارج نطاق حياته وها انه اليوم وهو يعد نفسه بأنه قد وصل إلى سن الرشد – بالنسبة إلى إنسان الماضي – ها انه اليوم يتجرأ بأن يجعل من الله مشكلة الإنسان.
كنا قد ذكرنا في الماضي بأنه يتوجب على كل مؤمن ألا يتقدم من هذا الموضوع بروح العجرفة والتشامخ والكبرياء. فالملحد المعاصر هو إنسان، انه بشرى ضل في صحارى الافكار البشرية وهو بحاجة ماسة إلى من يريه الطريق القويم والمؤمن الذي ألقيت على عاتقه مهمة قيادة غير المؤمن إلى الصراط المستقيم يرى بأن مساعيه لن تتكلل بالنجاح أن كان موقفه من الملحدين المعاصرين هو موقفا خاليا من المحبة والمودة والتسامح.
يبدأ المؤمن بالشهادة أمام الملأ قائلاً بأن التناقض الذي يتجسم في مشاكلنا العديدة انما يعود إلى عدم تفهم غاية وجود الإنسان. لقد خلق الله الإنسان وأعطاه التزامات يمكن تبويبها تحت موضوعين رئيسين : 1. البعد العامودى للالتزامات البشرية – أي فيما يتعلق بواجبات الإنسان تجاه خالقه والهه و2. البعد الافقي للالتزامات البشرية – أي فيما يتعلق بواجبات الإنسان تجاه قرينه الإنسان. وفي كلا البعدين كان على الإنسان أن يكون مدفعوعا من قبل دافع المحبة : محبة مطلقة وتامة لله ومحبة صادقة للقريب البشرى ومعادلة لمحبة الإنسان لنفسه.
وقد حدث أن المؤمنين في كثير من الاحيان أساؤوا فهم هذين الأمرين الهامين : فالبعض شددوا على أهمية التعبد لله إلى هكذا درجة حتى أنهم لم يعودوا يرون أية التزامات تجاه العائلة البشرية وأفرادها. وحدث أيضاً أن المؤمنين نظرا لعدم تسيير حياتهم بمقتضى منطق الإيمان سكتوا على المسأوىء التي تعسف بحياة الناس بل ربما ساهموا في ايجادها ونشرها. وحدث أيضاً أن غيرهم من الناس لم يعودوا يرون في هذه الدنيا الا البعد الافقي للحياة أي علاقة الإنسان بجاره الإنسان فأخذوا يهتمون بنواحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية ونسوا كل شيء يتعلق بالتزامات الإنسان تجاه ربه وباريه.
يجد المؤمن نفسه في أو اخر القرن العشرين ملزما بأن يحيا بطريقة منسجمة مع إيمانه القويم فلا يقبل بأية ازدواجية ولا يفصل إيمانه الحي بالله عن حياته التي يحياها مع الناس وبين الناس. وهو إذ يقر بوجود مشاكل كثيرة يشهد أيضاً بأن قلب المشاكل هو قلب الإنسان الذي انحرف منذ فجر التاريخ عن جادة الحق. ويشهد المؤمن أيضاً بأن الدواء الوحيد الذي أعطانا اياه الله والذي يشفي الإنسان من مرضه الجذرى انما هو السيد المسيح المخلص. وبما أن المؤمن قد اختبر خلاص الله في المسيح فإنه يدعو شهادته إنجيلا أي خبرا سارا.
- عدد الزيارات: 7658