Skip to main content

وحدانية الشخصية البشرية

تتصف أيامنا هذه بالتقدم الكبير الذي جرى في مضمار العلوم الطبيعية. وقد كثرت مفرداتنا المتعلقة بالفضاء والمركبات الفضائية وغزوالقمر والسيارات التي تدور في فلك شمسنا. وما كان يحلم به الآباء والاجداد صار أقرب إلى الواقع في أيامنا هذه. ومن المهم الملاحظة أن التقدم العلمي لا ينحصر في مواضيع الفضاء والمادة وغير ذلك من الأمور التي تحيط بالإنسان في عالمه الخارجي. فقد حدث تقدم عظيم في الابحاث المختصة بذات الإنسان وبشخصيته وبحياته النفسية والجسدية. وكم علينا أن نكون شكورين لله بخصوص كل ما جرى في حقل الطب. مثلاً الكثير من الأوبئة التي كانت تفتك بالناس في العصور السالفة صار بالامكان التغلب عليها أو منع انتشارها من مكان إلى آخر. على كل بشري القول : أشكر الله لاني أنا شخصيا قد انتفعت من تقدم العلوم الطبية.

لكنه هناك ظاهرة مقلقة في أفق حياتنا المعاصرة ألا وهي أن التقدم العلمي حدث في عصر ظغت عليه فلسفة حياتية ومادية تنكر جميع القيم الروحية التي ورثناها عن الاباء والاجداد. وصار البعض يخالون أن تقدمنا العلمي هو وليد ونتيجة الفلسفة المادية الاحادية. وقد وقع العديدون من معاصرينا فريسة لهذا التفكير ولم يعودوا قادرين بأن يتخلصوا من حبائل المادية. ومن الأمور المحزنة أننا صرنا ننظر إلى الإنسان وكأنه مجرد حيوان وصل إلى مستوى عالم من الوجود ولكنه مع ذلك يبقى حيوانا في صميم كيانه. وإذا ما سمحنا لهكذا أفكار بأن تسير على منطقها الخاطىء فان اليوم ليس ببعيد عندما تضحي فيه البشرية بأسرها أسيرة لعبودية فكرية وعقائدية لا مثيل لها. ولذلك لا نغإلى مطلقا أن قلنا أننا في حاجة ماسة للبحث في موضوع الشخصية البشرية. ما هي الشخصية الإنسانية؟ 

الشخصية الإنسانية فريدة ليس لها مثيل في الكون بأسره. وها أن تاريخ الإنسانية المدون في الكتب والآثار القديمة يعطينا فكرة حية عن أعمال ومآثر هذا الكائن المدهش الذي نسميه بالإنسان. نقول أن الإنسان فريد لأنه يتمتع بشخصية فريدة الإنسان فريد لأنه روح وجسد أو نفس وجسد ليس الإنسان بمخلوق روحي محض وليس هو بجسدي محض. الإنسان مخلوق ذوشخصية إنسانية فريدة واحدة ولكنه روح وجسد. ومن العبث التفكير بالإنسان كروح فقط أو كجسد فقط.

ولكن ما هي الروح؟ من الاسهل لنا الكلام عن الجسد ولكن عندما نشرع بالكلام عن الروح لابد لنا من القول أن موضوعنا غير سهل. ونظرا لصعوبة الموضوع ولكونه غير قابل بأن يوصف بلغة العلوم البيولوجية نتكلم عنه بطريقة سلبية قائلين : ليست الروح مادية، الروح هي غير جسدية ولكنها ليست أقل وجودا من الجسد. ونكون جد مخطئين أن توقفنا لدى هذا الحد في كلامنا عن الروح. فالروح البشرية هي كما هي لأنه هناك كائن أعظم، روح سرمدي أي الله تعالى اسمه. فلولا الله لما كان شيء ولما وجدت الروح البشرية. الإيمان بروح الإنسان والإيمان بالله وهو روح سرمدي وقدوس أمران مرتبطان معا كل الارتباط. شاء الله وخلق كائنا اسمه الإنسان وخلقه لا كسائر المخلوقات الأخرى بل جعله ساميا ذا جسد وروح ولكن بشخصية واحدة وبقلب نفسي واحد.

ومع أننا نقدر تحليل جميع المواد التي تكون جسد الإنسان تحليلا كيماويا الا أن هذه المواد فيما إذا جمعت معا لا تشكل بحد ذاتها الإنسان. الإنسان هو خليقة الله ومع أن جسده مأخوذ من تراب الأرض – ولذلك نجد ارتباطا قويا بين الإنسان والأرض وجميع ما عليها من كائنات حية وغير حية – الا أن جسد الإنسان هو فريد وعظيم لأنه مع روح الإنسان يكون الشخصية البشرية الواحدة. لماذا نشدد على هذه الفكرة الاساسية أي على وحدانية الشخصية البشرية؟ لان هذا مهم جدا عندما نتكلم عن موضوع روح الإنسان وجسده من المهم جدا أن لا نجعل من الإنسان كائنا ازدواجيا أي كائنا ذا شخصية مزدوجة. الإنسان شخص واحد، للإنسان شخصية واحدة. فعندما نتكلم نتكلم كشخص واحد ونقول : أنا جائع. أنا عطشان. أنا سعيد أو أنا كئيب. فمهما كان شعورنا الداخلي نتكلم كشخص واحد بغض النظر فيما إذا كان شعورنا منبعث عن الجسد أو عن الروح. وبما أن كل إنسان هو شخصية إنسانية واحدة فإنه مسؤول عن جميع أفكاره وأقواله وأعماله.

وينتج عما ذكرنا أنه من واجبنا أن ننبذ الاخطاء التي وقع فيها الإنسان عبر القرون المتعاقبة.

1. علم بعض الفلاسفة القدماء بأنه هناك عداوة بين الجسد والروح وأن غاية الإنسان العظمى هي أن يتخلص من جسده في النهاية. وقد شبه أحدهم جسد الإنسان إلى زجاجة ملآنة بالماء ومطروحة في البحر. سعادة الإنسان العظمى تكمن – حسب ادعاء هذا الفيلسوف القديم – أن تكسر الزجاجة التي ترمز إلى الجسد، فيندمج ماؤها بماء البحر الرامز إلى الكون المادي. وهذه النظرية ترتكز على اعتقاد خاطىء للغاية لانها في صلبها تنكر استقلال الشخصية البشرية جاعلة اياها جزءا من الكون الذي هو مؤله. طبعا هذه النظرية تنكر وجود اله سرمدي قدير مستقل عن الخليقة ومهيمن على جميع مقدراتها.
2. علم آخرون أن الجسد هو القسم المنحط من الشخصية البشرية وأن الروح هي القسم السامي من هذه الشخصية. لكن هذه النظرية الازدواجية هي خاطئة إذ أنها تفترض أن الله تعالى خلق الإنسان بطريقة ناقصة أو غير كاملة وتنظر إلى الجسد وكأنه عالة على صاحبه. طبعا، ليست الروح بالجسد ولا الجسد بالروح ولكنهما معا يشكلان الشخصية الإنسانية الواحدة. وان كان يصدر عن الإنسان كثير من الأمور المحزنة فذلك لا يعود إلى انحطاط الجسد أو سموالروح – كيانيا – بل لخلل آخر سنأتي على ذكره في حينه.
3. وعلم آخرون بأن الجسد سيتلاشى نهائيا وأبديا بينما تبقى الروح خالدة. وزعموا بأن هذا الخلود المجرد يكون سعادة الإنسان العظمى. وهذا تعليم خاطىء لأنه ليس ضمن نطاق المعرفة البشرية الكلام عن تلاشي الجسد بصورة نهائية إذ أن الله علم بكل وضوح في وحيه المقدس بأن الجسد البشرى سيقام من الأموات وأن الروح ستعود إلى الجسد في يوم القيامة. ليست السعادة العظمى إذن في خلود مجرد ومنعزل وبارد بل في توحيد الشخصية البشرية وفي شركتها الدائمة مع الله خالقها تلك الشركة التي يحصل عليها كل إنسان تصالح مع الله في هذه الحياة وبواسطة المخلص المسيح وعمله الكفاري والفدائي الذي اتمه على الصليب.
لقد ذكرنا أن الإنسان كائن فريد ذوشخصية واحدة لكنه روح وجسد في وحدة حيوية واحدة. وتظهر وحدانية الشخصية البشرية في كلام الإنسان عندما يقول : أنا.. وهو يعبر عن حالته الداخلية بغض النظر فيما إذا كان يتكلم عن أمور منبعها الجسد أو الروح ونظرا لكون الإنسان شخصا واحدا فإنه مسؤول عن جميع أفكاره وأقواله وأعماله وتصرفاته.

وانتقلنا إلى الكلام عن بعض الاخطاء التي يقع فيها الناس وهم يتأملون في موضوع شخصية الإنسان ومصيرها. فهناك البعض الذين علموا بأنه هناك عداوة أصيلة بين الجسد والروح. تتم السعادة العظمى – حسب هذا الزعم – عندما يحدث انفصال تام ونهائي بين عنصري شخصيته الواحدة : أي بين جسد الإنسان وروحه. هذا التعليم هو خاطىء من أساسه لان الجسد والروح ليسا في عداوة بل يلعب كل منهما دوره الهام ضمن وحدة الكيان الإنسان الواحد.

وزعم آخرون أن الجسد هو القسم المنحط من الشخصية البشرية بينما الروح هي القسم السامي والكامل. وهذا الافتراض خاطىء في أساسه لأنه لا يمكن المسأواة بين الجسد والانحطاط من جهة ولا الروح والسمومن جهة أخرى. ليس الجسد في ذاته منحطا وروحانية الروح لا تضمن سموها ولا كمالها.

وذهب آخرون إلى القول بأن مصير الجسد هو الاضمحلال والاندثار المطلق بينما تكمن سعادة الإنسان في ديمومة الروح وفي خلودها. هذا اعتقاد خاطيء لان جسد الإنسان مع كونه مأخوذا من تراب الأرض الا أنه يشكل كيانا جديدا في وحدة حيوية وديناميكية مع الروح. ليس من الصواب القول بأن الجسد سيندثر نهائيا وأبديا لان الله سيقيمه من الأموات في اليوم الأخير تكمن السعادة الأبدية في توحيد الشخصية البشرية كروح وجسد وفي حصولهما على شركة دائمة مع الله الباري، هذه الشركة التي يحصل عليها كل من تصالح مع الله الخالق بواسطة الإيمان بيسوع المسيح المخلص وعاش في حضرته حياة القداسة.

وحدانية الشخصية البشرية هي موضوع هام لأنه يمس كل إنسان مهما كان وأينما وجد. وعندما نذكر موضوع الوحدانية بخصوص الشخصية البشرية نكون متكلمين عن هذا الموضوع من الناحية المبدئية. هذا يعني أن الوحدانية في الشخصية البشرية كائنة مبدئيا، ولكنه من الناحية الواقعية لا يتمتع كل إنسان في هذه الدنيا بتجانس وتناسق تام ضمن حياته. وبعبارة أخرى أن كلا من الجسد والروح لا يعملان معا بتناسق وسلام وهدوء. وهكذا نقول من الناحية العملية : لا تظهر وحدانية الشخصية البشرية كما ينتظر منها في حياة الإنسان ولا سيما إنسان اليوم لأنه هناك عوامل عديدة تعمل على تفكيك الشخصية فتجعلها مسرحا لحروب واضطرابات نفسية وروحية شديدة. وكم من المؤسف أننا وقد وصلنا اليوم إلى معرفة أمور كثيرة عن حياة الإنسان النفسية الا أنها ليست على ما يرام في أيامنا هذه. وكلما تقدمنا في مضمار المدنية والحضارة العصرية كلما تكاثرت وتعقدت مشاكلنا النفسية والروحية وكلما تعرضت وحدانية الشخصية البشرية للتفسخ والتبعثر.

وبما أن طابع حضارتنا المعاصرة هو مادي بحت وبما أن الفلسفة التي تشبع الجو العلمي المعاصر هي فلسفة تنكر العنصر الروحي لشخصية الإنسان وتنظر اليه ككائن مادي راق ومتقدم في سلم الكائنات الحية صرنا نشاهد ثمار هذه الافكار في شتى نواحي الحياة المعاصرة وعلى كل صعيد منها الفردي والعائلي والاجتماعي. ومع أن الإنسان المعاصر المتأثر بالفلسفة المادية لا ينكر وجود مشاكل نفسية الا أنه يقوم بتعليلها وتشخيصها على أسس ومبادىء مادية وحتمية صرفة. وهذا التشخيص لمشاكلنا الإنسانية في عصرنا هذا – أي التشخيص المبني على المفهوم المادي للوجود هذا المفهوم الذي ينكر الله والروح – هذا التشخيص لا يساعدنا مطلقا على حل مشاكلنا ومع أهمية الأمور الاقتصادية والتقنية في عصرنا الا أن مشاكلنا ليست في صلبها اقتصادية أو تقنية، بل انما تكمن في حقل الشخصية الإنسانية وفي علاقتها مع الباري ومع بقية أفراد البشرية.

ومشكلة الشخصية البشرية ليست بمشكلة حديثة بل انه ظهرت في سائر العصور وهي تشير إلى مرض روحي خطير ملم بشخصية الإنسان. وعلة الإنسان هي أنه مريض بمرض روحي مزمن ألا وهو الدوران على محور الذات. وفي هذه الانانية نكران مبدئي لطابع الشخصية الإنسانية الهام ألا وهو أن الإنسان مخلوق اجتماعي وحياته المثلى مستحيلة – وخاصة في عصرنا هذا – أن دارت على محور الانانية. وصحة المجتمع الإنساني تتطلب تلاشي الانانية وتعأون سائر أفراد المجتمع على بناء حياة أفضل يعمل فيها كل إنسان من أجل خير ومنفعة المواطنين.

كلنا نعلم أن حالة الإنسان ليست على ما يرام. ولكن هذه المعرفة غير كافية. ينقص الإنسان الارادة والمقدرة على التغلب على تلك القوى التي تهدد كيان شخصيته وتاريخ البشرية حافل بالاراء التي لم تفد الإنسان بشيء. ومهما تعبنا في بحوثنا في هذا الموضوع فاننا لن نأتي بتشخيص أكثر واقعية وفائدة من تشخيص الكتاب. يدعوالكتاب هذا المرض الملم بالشخصية البشرية – بالشخصية البشرية ليس بالروح فقط أو بالجسد فقط – باسم الخطية. وهذا الميل القوي لانفصام الشخصية البشرية والذي يدفع الإنسان إلى الفشل في الوصول إلى الهدف المنشود يدعوه الخالق باسم خطية وليست الخطية بصفة سطحية خارجية يستطيع الإنسان التخلص منها بسهولة. انها لمرض عضال، مرض لا يمكن التغلب عليه بدون تدخل إلهي حاسم وجبار. وفصول الكتاب التي تصف لنا مرض الشخصية الإنسانية تصف بصورة أكبر هذا التدخل الإلهي الفعال والحاسم والذي يعرف في الكتاب باسم الخلاص والفداء. وكل من تذوق هذا العمل الإلهي الي بنى صرحه المسيح يسوع بموته الكفاري على الصليب وبقيامته المجيدة من الأموات كل من تذوق ذلك ضمن صميم حياته يعيش حياة الشكر والامتنان لله محرره من طغيان واستعمار الشر والخطية والشيطان. 

  • عدد الزيارات: 4053