Skip to main content

الحق والإرادة

كيفما تفحصنا أمور هذا العالم لا بد لنا من الملاحظة أنه هناك نظام رائع وهدف بديع في صلب تكوين هذا العالم. فالقوانين التي تسود هذا العالم ترى بكل وضوح حتى من قبل نور هكذا ضئيل كنور العقل البشري المحدود. وجود شرائع ونظام وهدف في هذا العالم يفترض وجود منطق ولكن افتراض وجود المنطق لامر مستحيل بدون الاعتراف بوجود الحق. وعندما نقر بوجود الحق نرى أن هذا الاقرار يقودنا إلى القول بأن الحق انما يعبر عنه بواسطة مبادىء أو بديهيات التي تسير أمورا عديدة في الوجود. ومن هذه البديهيات مثلاً أن كل شيء هو مماثل لذاته، وأن كل حركة تجري في الفضاء، وأن كل ما له تأثير في شيء آخر لابد له من استهلاك مادة ما، وأنه من المتعذر لنا بناء بيت في الهواء وأن كل حجرة ترمى إلى الاعلى لابد لها من السقوط وكذلك أنه في نقطة واحدة لا يمكن لشيئين أن يوجدا في أن واحد، إلى ما هناك من بديهيات أخرى.

وهذا يقودنا إلى القول بأن الحقيقة هي وليدة الحق وأنه لاشيء يعد حقيقيا أن لم يكن من الحق. وبعبارة أخرى، بدون فكرة الحق لا يمكن للكون بأن يوجد ولا للحظة واحدة. وما دام الكون موجودا لابد لفكرة الحق من أن توجد أيضاً. أن كلا من الكون والحق قد ابتدأ بالمسير معا على طريق الوجود معا يصلان إلى نقطة البدء. ليس الحق إذن سوى مجموعة المبادىء والقوانين التي هي ضرورية للخليقة وللكون.

فالحق هو أهم موضوع في الكون هذا الكون الذي جاء إلى حيز الوجود نظرا لعمل الله الباري، الكون بأسره يتدخل لمصلحة الحق ويشهد له. فالكذب إذن لا يبرر الا إذا تمكن أحد من خلق كون يكون فيه الكذب جزءا منه، وحيث يعد الحق من وجهة نظرنا أي من وجهة نظر كوننا هذا، كذبا في ذلك الكون. وطبعا هذا لامر مستحيل، لان الله هو الخالق وهو يعمل كل شيء حسب الحق.

الله وحده هو الخالق وهو يخلق حسب مبادئه الخاصة. الوجود هو عظيم ورائع ولكن مبادئه الأولية ترتكز على الله وهذا يعني أن الله يعمل دوما بجانب الحق. والمنبع الأول لكل حق هو المعرفة الذاتية التي يتمتع بها الله عن ذاته القدوس. فالحق إذن يعلو على أمور هذا الكون الذي هو خليقة الله. الحق أن كان على الأرض أو في السماء، الحق هو من الله ذاته.

ولكن هذا الكون ليس مسرحا لأمور موجودة فقط بل انه أيضاً مسرح للأعمال. فعلاوة على كون أو وجود العالم نراه أيضاً كمسرح لتغييرات غير منقطعة منبعثة عن الارادة. الارادة في حد ذاتها عالم متغير ومتقلب. ولولم يكن هناك قائد ومرشد للارادة التي تنبعث منها الأعمال لحدث تشويش هائل في عالمنا. ياترى ما هو المبدأ الاساسي الذي يقود الارادة؟

هل يكفينا القول : يجب أن تكون الارادة قوية؟ كلا. لان القوة هي عبارة عن كمية، ومن البديهي أن كل كمية هي بطبيعتها نسبية. ففي حالة معينة يمكن النظر إلى الضعيف كقوي، وكذلك يمكننا أحيانا القول بأن حتى القوي هو ضعيف في مناسبة أخرى. نحن نبحث جادين لا وراء كمية بل وراء كيفية.

ولن يكون جو ابنا صحيحا فيما لو قلنا : من واجب الارداة أن تكون حكيمة ومهتمة بأمور الغير. فهذا المقياس غير كاف، لاننا كثيراً ما نكون باطنيين في مقاييسنا وما هو مفيد لنا قد يكون مضرا بالآخرين. ولا يكون جو ابنا صحيحا أن قلنا بأنه من واجب الارادة أن تكون ظافرة ومنتصرة أو واثقة بنفسها. لاننا إذ ذاك نكون واصفين الارادة حسب مبدأ الكمية لا الكيفية.

ليس هناك إذن جواب صالح على الأرض وفي السماء، للملائكة أو البشر أو الحيوان سوى القول : على الارادة أن تكون طيبة أي صالحة. فالارادة الصالحة وحدها قادرة بأن تجد مكانها الملائم وتندمج ضمن نظام الخليقة الاساسي. وكل ارادة معاكسة لله هي تخريبية لا ارادة صالحة.

ولقد اختلف العلماء في تحديد الارادة الصالحة أو الارادة الطيبة. قال بعضهم : الارادة الصالحة هي التي تولد القوى العقلية المجردة. وقال آخرون : تكون الارادة طيبة متى أضحت متجانسة مع الكون وآخرون قالوا : الارادة الصالحة هي تلك التي تخضع للشريعة الاخلاقية. ومن الاصح لنا القول أن الارادة العليا في هذا الكون هي ارادة الله. وهذه هي الارادة الصالحة والمطلقة. ارادة الله هي الارادة الطيبة على أعلى مستوى. وتصبح الارادة البشرية صالحة وطيبة فيما إذا كانت تطيع الارادة الإلهية، لا عن خوف أو حساب بل بدافع المحبة والخشوع.

والعمل بالارادة الإلهية لامر ممكن لان الله تعالى لم يتركنا في جهل لارادته إذ انه قد كشف عنها بصورة عامة في نموالفكر البشري. وبصورة خاصة كشف الله عن ارادته في الكتب المقدسة ولا سيما في السيد يسوع المسيح وهو كلمة الله المتجسد. يساعدنا الإيمان على التمسك بارادة الله الطيبة وتساعدنا الطاعة بأن نجعل من هذه الارادة أمرا نحيا به. وهكذا تصبح الارادة الإلهية ارادتنا نحن أيضاً. فمن المستحيل إذن الكلام عن الارادة بدون كلام عن الطاعة.

وهكذا لا يمكننا اتخإذ موقف عدم المبالاة بخصوص وجود أو عدم وجود هذه الارادة الصالحة. لو لم توجد الارادة في عالمنا هذا – أي الارادة الصالحة – لكانت العاقبة وخيمة ولتقتت الإنسانية بأسرها. ولا يكفي مطلقا بأن تظهر الارادة وكأنها صالحة، عليها أن تكون صالحة بالحقيقة.

إذ أنها لو تظاهرت بالصلاح فقط لكانت عبارة عن خداع ونفاق. وكما في حقل الحق هكذا أيضاً في حقل الارادة : نجد مرضا خطيرا في لبها. وبينما أن سرطان الحق هو الكذب فان مرض الارادة المميت هو الخطية هما جذعا شجرة واحدة يظهران في عالمين متميزين : عالم الموجودات وعالم الأعمال. وكلاهما ينبعان من العدو القديم لله وغاية هذا العدو أن يدمر ويخرب ما خلقه الله، أي أن يحرم الله من عالمه وأن يحرم العالم من الله. لكن عاقبته وخيمة للغاية إذ أن الله سيظهر نصره التام على الشيطان في اليوم الأخير. 

  • عدد الزيارات: 2998