Skip to main content

غفران الذنوب

"فصلّوا أنتم هكذا:

أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك .

ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك كما في السماء كذلك على الأرض.

خبزنا كفافنا أعطنا اليوم.

واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر أيضاً للمذنبين إلينا."

الإنجيل حسب متى 6: 9-12

كنا قد ذكرنا في عظتنا السابقة أن الطلبات الثلاث الأولى في الصلاة الربانية لها علاقة بالله تعالى إذ نطلب فيها أن يتقدس اسم الآب السماوي وأن يأتي ملكوته وأن تتم مشيئته على الأرض كما تتم في السماء. وكذلك ألمحنا إلى أن الطلبات الباقية وعددها أيضاً ثلاث لها علاقة باحتياجاتنا الخاصة. وقد تكلّمنا عن موضوع الخبز اليومي أي عن جميع ضروريات الحياة المادية ورأينا قرب نهاية العظة أن الله لا يود أن يرانا هكذا مهتمين بأمور الحياة الروحية .فإنه كما يجد الإنسان أنه من المستحيل أن يحيا بالخبز وحده هكذا أيضا يجد الإنسان أن حياته الروحية مستحيلة بدون الغفران ذي الاتجاهين: غفران الله لذنوبه وغفرانه هو لذنوب الآخرين .

الطلبة الربانية تتعلق بموضوع غفران الذنوب أو الخطايا ، الخطايا التي نرتكبها ضد الله والخطايا التي يرتكبها الناس ضدنا . لنتأمل إذن في تعاليم هذه الطلبة مستعينين بإرشاد الروح القدس الذي ينير عقولنا ويفتح قلوبنا لنقبل الكلمات التي تفوه بها المسيح .

يجدر بنا أن نلاحظ أن هذه الطلبة ليست عبارة عن شرح وافٍ لعقيدة الغفران أو كيفية التبرير أمام الله كان يتكلم السيد المسيح مع تلاميذه المؤمنين الذين طلبوا منه أن يعطيهم دروساً في الصلاة كما كان يوحنا المعمدان قد علّم تلاميذه. وبما أن المسيح استهل هذه الصلاة بكلمات: أبانا الذي في السموات فإنه من البديهي أنها صلاة للمؤمن . فيوحنا الرسول يعلمنا بكل وضوح أن الإنسان في حالته الحاضرة ، حالة الخطي~ة والعصيان على الله لا يقدر أن يدعو الله أباه إن لم يصبح مخلوقاً جديداً .

" أما جميع الذين قبلوه فقد أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أبناء الله , وهم الذين يؤمنون باسمه , الذين يولدوا من آدم , ولا من مشيئة جسد , ولا من مشيئة رجل , بل من الله ." الإنجيل حسب يوحنا 1: 12و 13

فهذه الطلبة لا تخبرنا عن كيفية حدوث هذا الغفران وهو أعظم هبة يحصل عليها الإنسان في هذه الحياة وفي أماكن أخرى من الكتاب نتعلم من الرب يسوع ومن الأنبياء والرسل أن غفران الخطايا مبني على أساس وطيد آلا وهو موت يسوع المسيح الكفارى-البدلي على الصليب . إننا نتبرر بالأيمان أي بالأيمان بيسوع المسيح الذي تجسد وولد من مريم العذراء ومات على الصليب وقام من الأموات.

الطلبة الخامسة تشير إلى ما يجري بصورة اعتيادية ضمن حياة المؤمن. إنها تصف أعماق حياته الروحية اليومية كما يحياها أمام الله والناس من المؤمنين وغير المؤمنين. عندما نذكر إذن ما لا تُعلمه هذه الطلبة من ناحية وما تعلّمه من ناحية أخرى يسهل علينا كثيراً فهم هذه الكلمات:

"واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا" 

1: اغفر لنا ذنوبنا: يصلي المؤمنون قائلين للآب في السموات: واغفر لنا ذنوبنا! لماذا يصلي المؤمنون بهذه الطريقة وهم قد تبرروا بالأيمان؟ الجواب هو أنهم لا يصبحون كاملين في هذه الحياة بل هم بحاجة يومية إلى غفران الذنوب والخطايا التي يرتكبونها ضد الله وبني البش. هذا لا يعني أن المؤمن وغير المؤمن في حالة روحية واحدة فالمؤمن هو لإنسان خاطئ ولكنه خاطئ قد خُلص بنعمة الله المجانية التي مكنته من الأيمان بالمسيح. ولكن غير المؤمن لا يعرف الخلاص وليس لديه  أساس يبني عليه طلبته بخصوص الغفران. يعلم المؤمن علم اليقين أنه لا يستحق الغفران وأنه مهما عمل لا يقدر أن يُكفّر عن خطاياه. لكنه يلقي بنفسه أمام عرش الله ويقبل بشكر عميق الطريقة الإلهية للغفران ألا وهي بواسطة سفك دم المسيح يسوع على الصليب. وعندما يختبر المؤمن هذا الخلاص العظيم يعلم أن الله قد غفر له خطاياه أنها قد سمّرت على صليب الجلجلة مع سائر خطايا المؤمنين.

المؤمن كما قلنا سابقاً هو خاطئ خالص وهذا يعني أنه مادام على قيد الحياة يخطئ فهو إذاً بحاجة إلى المجيء يومياً إلى الله والصلاة: واغفر لنا ذنوبنا! وقد كتب الرسول يوحنا رسالة عامة إلى المؤمنين وتطرّق إلى موضوعنا هذا قائلاً: "إن الله نور وليس في ظلمة البتة . إن قلنا أن لنا شركة معه وسلكنا في الظلمة نكذب ولسنا نعمل الحق. ولكن إن سلكنا في النور كما هو في النور فلنا شركة بعضنا مع بعض ودم يسوع المسيح ابنه يطّهرنا من الخطية.إن قلنا أنه ليس لنا خطية نُضل أنفسنا وليس الحق فينا. إن اعترفنا بخطايانا فهوأمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. إن قلنا أننا لم نخطئ نجعله كاذباً وكلمته ليست فينا."(رسالة يوحنا الأولى 1: 5-10)

2: كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا: قد يخال لقارئ سطحي لهذه الكلمات أن المؤمن يبني طلبه إلى الله بشأن غفران خطاياه على غفرانه هو لخطايا الآخرين ولكن كلمة الله لا تسمح لنا ولا لدقيقة واحدة بأن نضع أي أساس لغفران الخطايا سوى ذلك الأساس الوحيد الذي أشرنا إليه ألا وهو عمل يسوع المسيح الفدائي الكفاري على الصليب. بدون الصليب لا غفران ولا خلاص ولا حياة أبدية.

ماذا نعني إذن بصلاتنا: كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا؟ يشير المؤمن إلى اختبار روحي فريد يجري ضمن حياته لا نظراً لقواه الروحية الخاصة بل نظراً لعمل الروح القدس في حياته. المؤمن الذي اختبر غفراناً عظيماً لا يُقدر بثمن يُعطى النعمة لغفران خطايا الآخرين المرتكبة ضده ولذلك عندما يصلي مع غيره من المؤمنين قائلاً: واغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا إنما يشير إلى أنه كخاطئ خالص بنعمة الله المجانية يمارس الغفران بالنسبة للآخرين ويتوسل في نفس الوقت إلى الله لكي تُفر خطاياه أيضاً نظراً لوعد الله الصريح الذي أشرنا إليه منذ لحظات أثناء اقتباسنا من رسالة يوحنا الأولى: إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا.

لا يمكن النظر إذن إلى القسم الثاني من الطلبة الخامسة وكأنها عبارة عن معادلة رياضية حيث يقال فيها أن غفران الله لخطايانا = غفران الناس لخطايا بعضهم البعض. ولا يمكننا أن ننظر إلى هذه الطلبة وكأنها تُرفع  إلى الله بروح تجاري حسابي. الله هو الإله السرمدي القدوس الذي ليس فيه ظلمة البتة وارتكاب الخطية ضده هو أمر خطير لدرجة مطلقة لا نهائية. والإنسان الذي يُخطئ لا يستحق الغفران حتى وإن غفر للآخرين ذنوبهم المرتكبة ضده. الإنسان مخلوق محدود وحقير لا يمكن أن يكون طرفاً لمعادلة طرفها الآخر الله القدوس.

لا يستحق الإنسان الغفران ولكن الله من فرط محبته العظمى يُقدم الغفران التام بواسطة السيد المسيح الذي بنى أساساً وحيداً للغفران بعمله الكفارى. والله الذي يمنح الغفران للمؤمنين يطلب منهم أن يُظهروا روح الغفران في علاقاتهم الاجتماعية ويُمكنهم من القيام بذلك بواسطة الحياة الجديدة التي يوجدها فيهم بمعونة الروح القدس. يمارس المؤمنون هذه الفضيلة ويحصلون بذلك على تأكيد قلبي بأن خطاياهم قد غُفرت لأن الذي لم تُغفر خطاياه لا يَغفر للآخرين. ولذلك يمكننا القول: إن الذي لا يود غفران خطايا الآخرين لا يكون قد اختبر ضمن حياته غفران الله لخطاياه. غفران الله لخطايا المؤمن وغفران المؤمن لخطايا الآخرين هما أمران قد جمعهما الله وما جمعه الله لا يمكن أن يفرّقه الإنسان !

علمنا السيد المسيح في الطلبة الرابعة أن نسأل الله من اجل الخبز اليومي وفي الطلبة الخامسة أن نسأل الله من أجل غفران خطايانا. وهكذا نستنتج أنن موضوع الغفران من أهم المواضيع التي الإنسان وأنه كما يحتاج الإنسان إلى قوته اليومي هكذا يحتاج بصورة دائمة إلى غفران خطاياه. ومن المؤسف جداً أن هذه الأيام التي شاهدت تقدماً واسعاً في مضمار الأمور المادية لم تشاهد تقدماً مماثلاً في مضمار الأمور الروحية بل إن الكثيرين يخالون أنهم متى شبعوا من أطايب هذه الحياة اكتفت نفوسهم وتغذت أرواحهم. قلب الإنسان المعاصر المفاهيم ووضع الأمور الثانوية في موضع الأمور الأولية. فهل نسمع عن أهمية الغفران والتصالح مع الله والرجوع إليه والتوبة من الخطية ؟ أما السيد المسيح فإنه كان يشدد على أهمية الغفران والشفاء الروحي حتى في تلك الحالات التي كانت تتطلب شفاء جسدياً.

كم من المرات نسمع السيد له المجد لا يبرئ فقط أولئك الذين كانوا يرزحون تحت نير مرض خطير بل يقول للمريض مغفورة لك خطاياك ! طبعاً كان السيد يريد أن يُظهر سلطته على مغفرة الخطايا وفي نفس الوقت كان أيضاً يُظهر أهمية الشفاء الروحي وأوليته للشفاء الجسدي.

يدعونا المسيح اليوم بواسطة كلمة الإنجيل هذه ويُقدم لنا غفران الخطايا المجاني، إن جئنا إليه تائبين ومتخلين عن بِرِّنا الذاتي. فلم لا نأتي الآن ونقول مع العشّار: ارحمني يا الله أنا الخاطئ ! وإذ يغفر الله خطايانا يساعدنا أيضاً على غفران ذنوب الآخرين فنختبر ضمن قلوبنا تعليم الطلبة الخامسة من الصلاة الربانية ، آمين.

  • عدد الزيارات: 8911