الخبز اليومي
"أبانا الذي في السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك ، لتكن مشيئتك كما ففي السماء كذلك على الأرض. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم."
الإنجيل حسب متى 6: 9-11
طلب تلاميذ السيد المسيح من معلّمهم بأن يعطيهم درساً في موضوع الصلاة وإجابةً على طلبهم أعطاهم الرب صلاة نموذجية ندعوها بالصلاة الربانية.
في الطلبات الثلاث الأولى لا بدّ أننا لاحظنا كيف أنها تتعلق باللّه وحده وبمجده كالآب السماوي، خالق الكون وفادي المؤمنين. وهذا يعني أن صلواتنا، إن كانت ستبنى على تعاليم السيد المسيح، لا يمكن أن تكون منحصرة في احتياجات بني البشر بل عليها أن تظهر أن اهتمامنا الأولي في صلواتنا إنما هو في مجد اللّه!
أما في بقية الطلبات وعددها أيضاً ثلاث فإننا نأتي على ذكر احتياجاتنا الخاصة المادية منها والروحية. أولها يتعلق بالخبز اليومي أي بجميع حاجاتنا المادية لهذه الحياة. لنتأمل إذاً في تعاليم الطلبة الرابعة من الصلاة الربانية: خبزنا كفافنا أعطنا اليوم!
1: ما هو الخبز اليومي: هذه الكلمات لا تدل فقط على الخبز أو القوت اليومي بل إنما تشير وترمز إلى جميع الأمور التي لها علاقة بحياتنا على هذه الأرض. فالله خالقنا كبشر بهكذا صورة حتى أن احتياجاتنا ليست روحية فقط بل مادية أيضاً.
إننا لسنا بأرواح كالملائكة ولسنا بأجساد فقط كالحيوانات بل بشر أي أننا روحيون و جسديون في آن واحد. والشخصية البشرية هي شخصية واحدة وإن كانت مرّكبة ولذلك فإن احتياجاتنا هي روحية ومادية في آن واحد! فالسيد المسيح يعلمنا إذاً أن نطلب من الله خالقنا وأبينا السماوي أن يعطينا جميع ما نحن بحاجة إليه من أكل وشراب وثياب وتعليم وعمل وكل أمر مشروع ضروري لحياتنا على هذه الأرض.
2: الطابع الاجتماعي لهذه الطلبة: لهذه الطلبة كما لسائر الطلبات في الصلاة الربانية طابع اجتماعي لا فردي. وهذا لا يعني أننا عادةً نرفع هذه الصلاة كجماعة من المؤمنين في اجتماع للعبادة بل أن طابع هذه الصلاة هو اجتماعي . إننا لا نصلي إلى الله قائلين: خبزي كفافي أعطني اليوم! كلا المسيح لم يُعلّمنا ذلك بل قال لنا أن نصلي: خبزنا كفافنا أعطنا اليوم. ماذا كان السيد المسيح يعني عندما طلب منا أن نصلي هذه الصلاة بصيغة الجمع؟ إنه أراد منا أن نتذكر أنه لا يجوز لنا التفكير باحتياجاتنا المادية بدون التفكير باحتياجات الآخرين بنفس الوقت.
من المؤسف جداً أن ننسى هذا الأمر العام في صلواتنا الخاصة أو العامة. فمع أننا نحافظ على النص الذي أُعطي في الكتاب ونقول: خبزنا كفافنا أعطنا اليوم إلا أن قلوبنا كثيراً ما تكون قائلة ولو بشكل لا شعوري: خبزي أنا أعطني اليوم. لكن يجري ذلك ضمن حياتنا ونحن غير شاعرين بأننا عندما نطلب من الله هذه الطلبة إنما نشوهها ونغير معناها الجوهري؟
الجواب هو أن حياتنا اليومية التي تُظهر بالحقيقة فيما إذا كنا نصلي حسب تعليم المسيح أو مُغايرة لذلك التعليم. لا ينظر الله فقط إلى أفكارنا وأقوالنا بل إنه يفحص جميع تصرفاتنا ويفحص أيضاً قلوبنا تحت منظار شريعته المقدسة. فإن رأى بأن هذا الإنسان أو ذاك يعمل على سلب الآخرين قوتهم اليومي فإنه لا يصغي إلى ذلك الإنسان وإن صلى إليه مستعملاً عبارات الصلة الربانية. فالتاجر الذي لا يرضى بربح معقول، هل يصلي هذه الطلبة كما يجب؟ والشاري الذي لا يود إعطاء التاجر ربحاً قانونياً شرعياً هل يعمل على المساهمة في إعطاء قريبه قوته اليومي؟ والعمل الذي يبّر وقت صاحب العمل ولا يُنتج ما يُنتظر منه ألا يكون مساهماً في سلب صاحب العمل جزءاً من قوته اليومي. ويمكننا الذهاب إلى مختلف نواحي الحياة والإشارة إلى أن الإنسان يَكسر بسهولة غريبة روح الوصية الإلهية المتعلقة بالخبز اليومي. وهكذا فإن صلى الناس وطلبوا من الله تعالى أن يمنَّ عليهم بالخبز اليومي وكانوا من المتعدين على حقوق الآخرين الاقتصادية فإنهم لا يكونون مصلين في قلوبهم بل بشفاههم. وهذه الصلوات غير مقبولة لدى الله. وهو تعالى وإن طلب منا بواسطة السيد المسيح أن نطلب منه خبزنا اليومي إلا أن ذلك يحدث عادةً ضمن نطاق الحياة الاجتماعية التي هي من وضع الله الخالق. فهو ليس فقط ربَّ الأمور الخرقة للطبيعة والمعجزات بل إنه في نفس الوقت سيد الأمور الطبيعية وواضع نظامها الأساسي. فالحياة حسب قانون الحياة الأساسي أي محبة الله فوق كل شيء ومحبة القريب كالذات تظهر بشكل خاص إذا كنا مهتمين بقوت الآخرين وباحتياجاتهم المادية الضرورية وليس فقط من المتكلمين عنها أو المصلين بشأنها.
3: روح القناعة يجب أن تسود حياة المصلي:في هذه الطلبة القصيرة التي نرفع بواسطتها إلى الله دعاءنا بخصوص احتياجاتنا المادية نجد عبارتين أو كلمتين وهما تُعلّمانا القناعة والاتكال على الله. خبزنا كفافنا أعطنا اليوم! "كفافنا، واليوم" فالسيد المسيح رغب أن يعلمنا أهمية فضيلة القناعة والاتكال على الله لأننا كثيراً ما نخسر تلك الفضيلتين ونحن دائبين على تحصيل خبزنا اليومي. ألا يعمل الكثيرون فقط من أجل احتياجاتهم الشرعية بل يريدون المزيد منها وليس فقط بخصوص الحاضر بل المستقبل المجهول. هذا لا يعني مطلقاً بأن السيد المسيح يمنعنا عن التوفير أو عن التفكير بمستقبلنا كلا، كل ما يود السيد له المجد أن يلفت نظرنا إليه هو أننا عندما ننسى أن الله تعالى هو مصدر كل البركات والخيرات والنعم المادية التي نتمتع بها، وكذلك عندما نتناسى بأنه تعالى هو المسيطر على أيام المستقبل وأن أيامنا نحن هي معدودة مهما طالت، فإننا إذ ذاك نحاول بناء عالم مادي صرف حولنا والظن بأننا نقدر أن نسيطر على الحاضر والمستقبل بواسطة جهودنا الخاصة. وبذلك نسلب الله مكانته الفريدة في هذا العالم وكذلك نقع في خطيئة أخرى ضد أقربائنا بني البشر. لأن الذي لا يهتم إلا بذاته وأمواله ومستقبله وبوضعه الاقتصادي لا يفكر عادة بحالة الآخرين وبواجباته نحوهم. ألم يعطنا السيد المسيح مثلاً في الإنجيل عن ذلك الغني الغبي الذي أخصبت كورته وحقوله وكثرت غلاله إلى هكذا حد حتى أنه أخذ يفكر بناء أهراء كبيرة ليخزن فيها محاصيله ولتمتع بصورة مستديمة بأمواله الطائلة؟ لم يفكر ذلك الإنسان بأن الله هو الذي يعطينا الخبز اليومي ولو كان ذلك الخبز في بيوتنا؟ لم يفكر ذلك الغبي بأن أيام حياتنا بيد الله وإنه إن اختبر بركات عظيمة توجب عليه مشاركتها مع الآخرين الذين كانوا بحاجة شديدة إليها! ماذا حدث لذلك الإنسان الذي لم يعرف فضيلة القناعة؟ قال له الله: يا غبي! هذه الليلة تُطلب نفسك منك، فهذه التي أعددتها لمن تكون؟
وهناك أيضاً سبب جوهري آخر لوجوب الطلب من أجل الخبز اليومي والاكتفاء به. إن السيد المسيح لم يشأ أن يرانا هكذا منشغلين بأمور الحياة المادية حتى أننا نهمل حياتنا الروحية. ما أسهل الوقوع في هذه الخطية! وقد أعطانا السيد له المجد درساً لا يُنسى وذلك أثناء حياته الخاصة على الأرض بشأن وضع الأمور بمواضعها الخاصة بها. بعد أن جاع أثناء صومه الطويل قُبيل بدء حياته العلنية، اقترب الشيطان من المسيح وطلب منه أن يُشبع نفسه ويُظهر قوته العجائبية بتحويل حجارة برية اليهود إلى خبز. فما كان من المخلص ألا وأن أجاب المجرب مُقتبساً من كلمات العهد القديم قائلاً: "مكتوبٌ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلمة تخرج من فم الله!" نعم الخبز لازم وضروري ولكن الإنسان لا يعيش بالخبز فقط. إنه بحاجة إلى قوت روحي وبدون هذا القوت لا يكون الإنسان عائشاً من الناحية الروحية. وفي مناسبة أخرى تكلم السيد المسيح عن موضوع الخبز الروحي وقال:
"الحق الحق أقول لكم: إن موسى لم يعطكم الخبز من السماء، بل أبي هو يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن الله هو الذي ينزل من السماء، ويهب الحياة للعالم. فقالوا له: يا سيد، أعطنا هذا الخبز في كل حين. فقال لهم يسوع أنا هو خبز الحياة يُقبل إليّ فلن يجوع ومن يؤمن بي فلن يعطش أبداً."
وعندما رفض اليهود أن يقبلوا هذا التعليم وأخذوا يتذمرون عليه لأنه قال: أنا هو الخبز الذي نزل من السماء، استطرد المسيح قائلاً:
"آباؤكم أكلوا المن في البرية وماتوا. هذا هو الخبز الذي نزل من السماء حتى يأكل منه الإنسان ولا يموت. أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن كان أحد يأكل من هذا الخبز يحيا إلى الأبد، والخبز الذي سأعطيه أنا، هو جسدي الذي سأبذله لأجل حياة العالم. " الإنجيل حسب يوحنا 6
فالسيد المسيح الذي علمنا أن نصلي من أجل خبزنا اليومي وسائر احتياجاتنا المادية، والذي طلب منا أن نفكر بالآخرين عندما نرفع هذه الصلاة وأن نكتسي بفضيلة القناعة والاتكال على الله، هو أيضاً علّمنا بأن نؤمن به وأن نقبل ما قام به على الصليب من أجل إنقاذنا وإعطائنا الحياة الأبدية، فلنُقبل إليه ونؤمن بجميع تعاليمه فنحيا ليس فقط في هذه الدنيا بل حياة أبدية سعيدة. آمين.
- عدد الزيارات: 9976