الفصل الرابع: المسيحية وتكييف الدوافع - الدافع الاجتماعي
الدافع الاجتماعي:
يوجد الدافع الاجتماعي عند الإنسان والحيوان وقد أثبتت الأبحاث المتصلة بعلم نفس الطفل أن هذا الدافع لا يوجد عند الأطفال قبل نهاية النصف الثاني من السنة الأولى... وهذا الميل إلى الاجتماع لا يوجد في الطفل منذ ميلاده، وإنما ينشأ نتيجة تفاعل الفرد بالمجتمع على مستوياته المختلفة في البيت، والمدرسة، والعمل، وعلى هذا فالأسلم لنا أن نفترض أن الدافع الاجتماعي يستند في أساسه إلى عوامل مكتسبة.
وينحرف هذا الدافع بالفرد فيقوده إلى الانضمام إلى المجتمعات الفاسدة والانسياق بلا تفكير وراء عادات وتقاليد وعقائد الجماعة، واتباع الكثيرين إلى فعل الشر. ولذا فإن هذا الدافع في حاجة إلى تكييف ليسير وفق إرادة المسيح:
ولكي يسير الإنسان في المجتمع بطريقة سليمة نافعة يجب أن يتحرر من الأوثان والأوهام وهي كما ذكرها "بيكون" وجاءت في كتاب مسائل فلسفية تتلخص بما يلي:
أولاً- أوهام الجنس Idols of the Race
وهي تعبر عن الأخطاء التي يقع فيها الإنسان مساقاً بطبيعته البشرية من ذلك ميله إلى التسرع في إصدار أحكام لا تبررها مقدمات ونـزوعه الطبيعي إلى التسليم بأفكار لمجرد أنها تصادف في نفسه هوى، أو تشبع عنده نـزوة، أو تسد في حياته حاجة، أو تحقق له مصلحة وكثيراً ما يتخير الإنسان شواهد تؤيد فكرة لأنه يميل إليها، ويغض النظر عن شواهد أخرى تتنافى معها، ويسوق بيكون إيضاحاً لوجهة نظره قصة رجل كان يستخف بأثر النذور التي تقدم للقديسين في تحقيق مطالب الناس، فأخذوه إلى معبد وأطلعوه على كثير من اللوحات التي علقها أصحابها على جدران المعبد اعترافاً منهم بنجاتهم من الغرق لما نذرو من نذور للقديس، وقيل له: ألا تعترف بعد هذا بأن النذور لهذا القديس كفيلة بتحقيق المطالب؟ ولكنه قال في حكمة وتهكم: ولكن أين يا ترى أجد لوحات الذين نذروا النذور له التماساً للنجاة من الغرق ومع هذا ابتلع البحر جثثهم دون اكتراث لنذورهم؟!
هذه النقيصة الكامنة في طبيعة الجنس البشري كثيراً ما تنتهي بالاعتقاد بالخرافات والتسليم بصحة الأوهام، فإذا صدقت مرة أو مرات نبوءة عراف بادر الإنسان بتصديقه بعد ذلك، متغافلاً عن المرات التي يثبت فيها كذب هذا العراف.. وينعق البوم فيتفق أن تقع على أثر نعيقه كارثة، فيبادر الإنسان الساذج بالاعتقاد بأن البوم ينذر بالكوارث، دون أن يضع في حسابه عشرات المرات التي يسمع فيها هذا النعيق دون أن يعقب ذلك سوء.
ثانياً- أوهام الكهف Idols of the Cave
تعبر أوثان الجنس عن نقيصة في طبيعة الجنس البشري بوجه عام، وتعبر أوثان الكهف عن الأخطاء التي يقع فيها الإنسان مسوقاً بشخصيته الفردية التي تتضافر على تكوينها تربيته وثقافته ومهنته ونحوها من عوامل لا يتحتم أن يشاركه فيها الإنسان.
من هنا اختلفت نظرة الناس للحياة، وتباينت وجوه الرأي عندهم، وكثيراً ما تنتهي ميول الفرد الخاصة به إلى إيقاعه في أخطاء جسيمة، فيعمى عن الحقائق التي تتنافى مع أهوائه ونـزواته، ويفهم الأمور على غير وجهها لمجرد أن حقيقتها تتنافى مع رغباته. فمن الناس المتفائل المقبل على الحياة، والمتشائم النافر من الدنيا ومن فيها، منهم السمح الكريم النفس، والمتعصب الحاقد... ولا يمكن أن تبدو الأمور في نظر الجميع على وجه واحد، من هنا وجب الحذر من الانسياق مع الأهواء الذاتية والميول الشخصية اتقاء للخطأ وتفادياً للزلل.
ثالثاً- أوهام السوق Idols of the Market
وهي يعبر عن الأخطاء التي تنشأ عن غموض اللغة أداة التفاهم والتعبير عن الأفكار والمعروف أن نشأة الألفاظ في أي مجتمع ترجع إلى حاجاته العملية، ولكن سرعان ما تتحكم هذه الألفاظ في تصور الناس للأشياء، وكم أفاد السفسطائيون قديماً من غموض الألفاظ، واستغلوا اشتراكها في هدم حقائق العلم ومبادئ الأخلاق، بل في تأييد موضوع ومعارضته معاً! وسبيل الخلاص من هذا أن تحدد معاني الألفاظ وتعرف مدلولاتها على وجه دقيق، كما أشار بهذا سقراط في مناقشة للموقف السفسطائي.
رابعاً- أوهام المسرح Idols of the Theatre
وهي تعبر عن الأخطاء التي يقع فيها الإنسان عن وعي، بسبب تسليمه بآراء الفلاسفة والمفكرين الذين أثاروا إعجابه فالمذاهب الفلسفية والأفكار التي تلقاها عن السلف تشبه المسرحيات التي تشير إلى عوالم من خلق مؤلفيها وليست من الواقع في شيء، ورما في الأمر أن الإنسان متى اعتقد في صحة رأي تلقاه من غيره، تعذر عليه بعد هذا أن يتخلى عنه عندما يثبت بطلانه.
ومن أظهر الأمثلة على هذا أن أرسطو كان يرى أننا إذا ألقينا بجسمين مختلفي الثقل من مكان مرتفع بلغ الأثقل الأرض قل الأخف، وآمن العالم بعده بهذا قضية مسلمة نحو عشرين قرناً من الزمان! تسلق أستاذ في جامعة بيزا هو "جاليليو" برج الجامعة وأجرى أمام جمع من أساتذته تجربة يثبت فيها بطلان هذا الزعم، وألقى بجسمين مختلفي الوزن، بعد أن فرغ الهواء الذي يؤثر في سرعة سقوطهما، فسقط الجسمان في وقت واحد! فأثبت أن اختلاف سرعة السقوط مرده إلى مقاومة الهواء على نحو ما أشرنا من قبل. ولكن شهود التجربة من العلماء أنكروا أمرها استناداً إلى أن أرسطو قال غير ذلك. بل أنبوا "جاليليو" لأنه فكر في البحث في موضوع سبق أ، عالجه أرسطو وأبدى فيه رأياً، واضطر جاليليو إلى ترك منصبه في جامعته.
هذه هي الأوثان التي تؤدي بالناس في حياتهم اليومية والباحثين في دراساتهم العلمية إلى الوقوع في الخطأ، فتحجب عنهم الحقائق وتجرهم إلى مهاوي الزلل، ومن أجل هذا حذر بيكون من مغرياتها وأوجب تحرر العقل من سيطرتها، عن طريق الاعتصام بالصبر وعدم التعجل في إصدار حكم في موضوع قبل أن تتوافر مبرراته، وبهذا نتجنب مفاتن الضلال منذ البداية.
إن الإنسان كمخلوق اجتماعي يجب أن يعيش حراً، ولا حرية غلا بالحق ولذا قال السيد له المجد "وتعرفون الحق والحق يحرركم" يو 8: 32.
إن الحق هو شخص المسيح الكريم، الذي شهد عن نفسه بصدق قائلاً "أنا هو الطريق والحق والحياة" يو 14: 6.
فمن يبحث عن الطريق يجد فيه الطريق الأوحد.
ومن يبحث عن الحق يجده الحق المتجسد.
ومن يبحث عن الحياة يجد فيه الحياة.
ومن يجد المسيح، يتكيف الدافع الاجتماعي في حياته تكيفاً حقاً، فيجتمع مع المؤمنين باسمه كما قال "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم" مت 18: 20.
ويجتمع بحسب الحق الكتابي المعلن في الكلمة المقدسة، ويناقش نفسه في هدوء عن مصادر عقائده ومعتقداته، حتى لا يضل في غمرة الجري وراء القطيع، وفوق هذا كله يتعلم الفرد كيف يتعاون مع قطيع الرب في الخدمة والعمل لاتساع ملكوته.
وعلى هذا القياس تأخذ المسيحية بيد كل فرد مخلص، يؤمن بالمسيح المصلوب لأجل خطاياه، كمخلص شخصي لنفيه، فتكيف له كل دوافعه، وتسطر على انفعالاته الضارة التي تسيء إلى صحته الجسدية والنفسية فيحيا سعيداً موفقاً في حياته متحرراً من الخوف من الدينونة، ومن هموم الحاضر، ومن الإحساس بآثام الماضي، مردداً مع الرسول الجليل كلماته القائلة "إذاً لا شيء من الدينونة الآن على الذين هم في المسيح يسوع الساكنين ليس حسب الجسد بل بحسب الروح" رو 8: 1، وسر فرحه وسعادته هو في يقينه عمل روح الله في حياته، وبالنصرة التي يهبها له في صراعه ولذا فهو يهتف قائلاً "لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت" رو 8: 2 فكما أن الطائرة قد صنعت بقانون يجعلها ترتفع في الجو منتصرة على قانون الجاذبية، كذلك المسيحي يسكن فيه روح الله الذي يجعله يرتفع فوق انحراف دوافعه الإنسانية. كما يقول بولس للمؤمنين في غلاطية "وإنما أقول اسلكوا بالروح فلا تكملوا شهوة الجسد لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد. وهذان يقاوم أحدهما الآخر حتى تفعلون ما لا تريدون. ولكن إذا انقدتم بالروح فلستم تحت الناموس... وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعفف. ضد أمثال هذه ليس بناموس. ولكن الذين هم للمسيح قد صلبوا الجسد مع الأهواء والشهوات" غلا 5: 16- 24.
إن المسيحي المولود من الله، الذي يتمتع بسكنى روح الله القدوس في قلبه يسيطر على انفعالاته بنعمة الله، ذلك أن قانون حياته وتصرفاته يتركز في كلمات الرسول بولس التي كتبها للقديسين في أفسس- تلك الكلمات الذهبية القائلة: "لذلك اطرحوا عنكم الكذب وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه. لأننا بعضنا أعضاء البعض. اغضبوا ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم ولا تعطوا إبليس مكاناً. لا يسرق السارق في ما بعد بل بالحري يتعب عاملاً الصالح بيديه ليكون له أن يعطي من له احتياج لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم بل كان ما كان صالحاً للبنيان حسب الحاجة كي يعطي نعمة للسامعين، ولا تحزنوا روح الله القدوس الذي به ختمتم ليوم الفداء. ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح" أفسس 4: 25- 32.
وكذلك في كلماته إلى أهل كولوسي حين قال "لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حس صورة خالقه... فالبسوا كمختاري الله القديسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفاً وتواضعاً ووداعة وطول أناة. محتملين بعضكم بعضاً ومسامحين بعضكم إن كان لأحد على أحد شكوى. كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضاً. وعلى جميع هذه البسوا المحبة التي هي رباط الكمال وليملك في قلوبكم سلام الله الذي إليه دعيتم في جسد واحد وكونوا شاكرين. لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى وأنتم بكل حكمة معلمون ومنذرون بعضكم بعضاً بمزامير وتسابيح وأغاني روحية بنغمة مترنمين في قلوبكم للرب. وكل ما علمتم بقول أو فعل فاعلموا الكل باسم الرب يسوع شاكرين الله الآب به" كولوسي 3: 9- 17.
ويقيناً أن من يكيف دوافعه وانفعالاته وفق هذه الكلمات الإلهية.
فيمتنع عن الكلام الرديء.
ولا يحزن روح الله القدوس.
ويتصرف بلطف مع الآخرين.
ويغفر للمسيئين.
ولا يسمح للغيظ أن يبيت في قلبه أو يحرق أعصابه ويشوش هدوء نفسه.
ويحيا حياة الشكر الدائم لله.
يلبس المحبة التي هي رباط الكمال.
ويسلك بالروح فلا يتمم شهوة الجسد، ويعمل كل شيء لمجد الله.
فلا بد أن يحصل على السعادة النفسية، تلك السعادة التي تهبها المسيحية الحقيقية.
- عدد الزيارات: 18476