الفصل الثاني: أسباب الأمراض النفسية
لا جدال في أن مرضى النفوس قد زاد عددهم في هذا العصر عن مرضى الأجساد زيادة تلفت الأنظار. وكثيرون من هؤلاء المرضى ليست لديهم أية فكرة عن أن ما بهم هو عيب عقلي وليس نقصاً جسمياً على الإطلاق، فهم يعتقدون أن مصدر مشكلتهم جسمي محض، وربما يكون هذا المصدر في اعتقادهم... المعدة، أو الكبد، أو الأمعاء مع أنهم في حقيقة الأمر في حالة صحية جيدة من الناحية العضوية، ولكن مرضهم في نفوسهم لا في أجسادهم.
والفرد من هذا النوع المريض نفسياً يشعر بتعب في جسمه عند قيامه من النوم، ويحس بأنه لا يقوى على هضم شيء، كما لا يقوى على مزاولة عمله، ويستعصى عليه النوم حين يأوي إلى فراشه.
ومشكلة هذا الشخص في عقله لا في جسمه، فأعصابه هي المتعبة، ومصدر هذا التعب راجع إلى عدم الثقة في نفسه، فهو يشعر بأنه ليست لديه القوة ولا القدرة على القيام بواجباته أو الاحتفاظ بصحته، وهكذا يستهدف للقلق، وتستبد به الكآبة، ويغمره الحزن، وتدور أفكار كلها حول الفشل والفقر والمرض، ويعجب كيف أن إنساناً مريضاً مثله قادر أن يحيا تلك الحياة، فإذا أخبرته بأنه ليس به شيء فأنه لا يصدقك بل يفقد ثقته فيك...
ولقد شرح معالج نفسي مشهور معنى المرض النفسي في هذه الكلمات "المرض النفسي ليس مرضاً بالمعنى الذي يفهم من كلمة مرض في مجال الطب، والذين يأخذون المرض النفسي بهذا المعنى بعيدون كل البعد عن المفهوم الصحيح "للمرض النفسي" أو إن صح التعبير "الاضطراب النفسي" فالمرض النفسي إنما هو اضطراب يصيب العلاقات الإنسانية فيصبح "تصرف" الإنسان أو "سلوكه" شاذاً أو منحرفاً بمعنى أنه لا يساعده على التوافق مع المجتمع الذي يعيش فيه، ولا مع نفسه، ويؤدي به إلى زيادة التعاسة والشعور بالضيق والهم وعدم الارتياح بوجه عام. فالمرض النفسي إذن اضطراب يصيب السلوك ويصيب الحالة الانفعالية للإنسان دون أن يكون هناك خلل عضوي في أعضائه أو أجهزته.
فما هي الأسباب التي تؤدي بالمرء إلى الأمراض النفسية؟
إن أول أسباب الأمراض النفسية هو الأحداث التي يمر بها المرء في حياته: والتي يمكن تلخيصها من هذه الزاوية في كلمتين هما الثواب والعقاب الذي يناله المرء عن طريق أسرته أو القائمين على أمر تطبيعه الاجتماعي. ونتيجة الثواب تتلخص في إقامة علاقات انفعالية إيجابية نحو الأشخاص أو الأشياء أو الأهداف المقترنة بهذا الثواب، ويدخل ضمن هذه جميعها الذات نفسها فتصبح الذات محبوبة ومرغوبة فيها.
أما نتيجة العقاب فهي تكوين علاقات انفعالية سلبية نحو موقع العقاب وما شابهه وما اقترن بهذه الحالة المؤلمة ومن ذلك أيضاً الذات نفسها التي تتميز عندئذ بالقلق وعدم التوافق.
خطاب صغير يروي مشكلة تعترض كل الأمهات:
نشرت صحيفة الأهرام بعددها الصادر في 17 يناير 1960 خطاباً من أم قلقة على طفلتها تقول كلماته: "لي طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات.. توفى والدها فحرمت من عطفه، وكنت حاملاً وجاءت لها أخت جديدة أصبحت موضع عنايتي ورعايتي، وبذلك فقدت الطفلة عطفي أنا أيضاً... بدأت الطفلة تسلك سلوكاً غير مألوف لكي تجذب إليها الأنظار فمثلاً كانت تحاول أن تطيل فترة بقائها في دورة المياه أو تمتنع عن الأكل، أو تتعمد الذهاب إلى فراشها في وقت مبكر جداً.. وبالرغم من هذه المحاولات فإنني تظاهرت بأنني لا أهتم بها على الإطلاق، فاضطرت الطفلة أن تقلع عن كل هذه الوسائل وتلجأ إلى وسيلة أخرى. فبدأت تتعلق بالآخرين وخاصة الكبار وتجالسهم وتداعبهم لتثير انتباه الناس... ولكن عندما بلغت الأخت الجديدة سناً تستطيع فيها أيضاً أن تجذب اهتمام الكبار لجأت طفلتي الأولى إلى الصمت التام وظهر في تصرفاتها الخجل الشديد، وبدأت تعتزل مجتمعات الناس بعد أن فشلت في جذب اهتمام الناس لها... لقد لاحظتُ ذلك كله ولكنني لم أستطعْ أن أفعل شيئاً من أجلها فزادت عزلتها وبدأت تخفي نفسها خجلاً من الضيوف الذين يترددون على المنـزل كما لجأت إلى الاعتداء على أختها المنافسة كوسيلة للتعويض وبدافع الرغبة الملحة في التخلص من هذه الدخيلة، وعندما هددتها بالضرب بدأت تتظاهر بحبها لأختها لكي تحصل على رضائي أو تفوز بكلمة تشجيع أو إعجاب. وعندما وجدتُ أن التهديد أفاد أخذتُ أستعمل معها وسائل الضغط لكي أرغمها على الاختلاط بالناس فكانت النتيجة أن ازدادت الطفلة حساسية وبدأت تبكي من أي نقد ووصلت إلى درجة كانت تفضل فيها الصمت. وتطور الأمر فأصبحت تخجل مني أنا. وأصبحت الطفلة هي مشكلة حياتي التي لا أدري كيف أصل إلى حل لها".
هذا الخطاب ينطوي على مشكلة خطيرة، هي مشكلة خجل الأطفال وانطوائهم على أنفسهم، وهي مشكلة يعاني منها الكثيرون من الوالدين.
فماذا قال علماء النفس عن هذه المشكلة؟
لقد أجمعوا على أن الطفل يمر عادة بفترة من الشعور بالخجل خصوصاً عند أول اختلاطه بالغرباء ولكن سرعان ما يتخلص منه إذا كان نموه طبيعياً وتربيته خالية من القسوة أما إذا وجد الطفل في بيئته ما يساعده على الشعور بالخجل مدة طويلة من حياته فسيتحول الخجل إلى عادة وقد يتطور الخجل أيضاً إلى مرض نفسي خطير كالشعور بالاضطهاد أو العزلة وكلما كبر الطفل كبر في نفسه هذا الشعور، حتى يصبح منطوٍ على نفسه شديد الإحساس بكل ما يمر به، وقد تصل به هذه الحساسية إلى الرغبة في الابتعاد عن الحياة الاجتماعية العادية لإحساسه بالفشل في علاقاته مع الناس.
إن أسباب الخجل لا أول لها ولا آخر ولكنها كلها ترجع إلى طريقة معاملة الوالدين للطفل وخاصة في السنوات الأولى من حياته، فالتدليل الشديد للطفل والاهتمام به إلى حد كبير أمام الغرباء وإظهاره بمظهر الطفل الكامل يؤدي إلى شعوره بالخجل إذا تعرض للفشل لأنه يلجأ في هذه الحالة إلى الخجل كوسيلة للهروب من مواجهة الناس.
وكما أن التدليل والاهتمام الزائد بالطفل يؤدي به إلى الخجل فإن القسوة في معاملته وإغاظته وإطلاق اسم من الأسماء التي لا يحبها عليه، يجعل الطفل يحاول الابتعاد تماماً عن الاحتكاك بالناس وخاصة الذين يضايقونه.
إن هناك أحداثاً تمر بالأسرة كأن يفقد الطفل أحد والديه، أو يحل طفل جديد في البيت يصبح موضع عناية والديه ويسلبه ما كان يستمتع به من عطف ورعاية وكل هذه الأحداث تساعد على شعور الطفل بالخجل.
وقد يحدث أحياناً أن يرى الطفل نقصاً في بيئته الاجتماعية بالنسبة لزملائه في المدرسة فيخجل من الاختلاط بهم أو الحديث معهم وينطوي على نفسه.
إن هناك أمراً هاماً يجب أن نضعه نصب أعيننا وهو حاجة الطفل إلى الحب والأمان وتوفير هذه الحاجة له في بيئته.
نشرت إحدى كبريات الصحف قصة عن طفل اسمه "جوني" أخذه أبوه وأمه إلى مستشفى الأطفال في مدينة "ابي وود" بإنجلترا ثم مضى شهر ولم يزر الوالدان طفلهما، ثم شهران، ثم ثلاثة!!.. كان الطفل يتطلع كل لحظة إلى الباب على أمل أن يرى والديه، ولكنهما نسياه! واتصلت إدارة المستشفى بالعنوان الذي تركه الوالدان، فلم تجد لهما أثراً... ومضى عام، وعامان، وثلاثة أعوام! والطفل الصغير يرى الآباء والأمهات يزورون زملاءه المرضى ويحملون لهم الهدايا... وهو وحده في فراشه لا يزوره أحد، ولا يفكر فيه أحد!!
كان الطفل جائعاً إلى الحب، وإلى الحنان، وإلى العطف، فبدأ يكذب على زملاءه الأطفال لينفي عن نفسه عار النسيان والوحدة، وراح يقول لهم: لقد زارتني أمي في الليل أمس أثناء نومكم وأمطرتني بالقبلات، وأبي أيضاً جاء معها ومعه الكثير من الحلوى! وأحست كبيرة الممرضات في المستشفى أن جوع الطفل إلى الحب هو الذي اضطره إلى الكذب، فنشرت قصته وصورته في الصحف!! وفي اليوم التالي كان المئات من أفراد الشعب يقفون أمام باب المستشفى وهم يحملون الهدايا للطفل جوني، وسمحت إدارة المستشفى لتسعين من الزوار فقط بمقابلته في اليوم الأول، وامتلأت أروقة المستشفى بالهدايا، وبكت سيدة أمام الباب لما منعوها من الدخول، فقد ركبت ثلاث قطارات وقطعت مسافة توازي المسافة بين القاهرة وأسوان لتزور هذا الطفل الجائع إلى الحنان، واضطرت أن تمضي ليلة في الفندق حتى يُسمح لها بزيارة "جوني" في اليوم التالي... حمل جوني الهدايا، وراح يوزعها على زملائه، وأحس بالدفء يسري في كيانه بعد برود، وبالحب يحوله إلى إنسان مذكور.
إن هذه القصة الواقعية ترينا أن في قلب كل إنسان جوعاً طبيعياً إلى الحب والحنان، وإن المرء إذا لم يجد من البشر من يحبه ويهمس في أذنه بكلمات الإعجاب والعطف، أصيب باضطراب في نفسيته، وأصبح شخصاً مريضاً من الناحية النفسية.
وهذا يتفق تماماً مع كلمات بولس الرسول التي سجلها للآباء ورسم بها طريق التربية القويم إذ قال "أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا" كولوسي 3: 21.
أجل فالآباء الذين يغيظون أولادهم ويستخدمون أساليب الضغط والعنف في تربيتهم يسيئون إلى هؤلاء الأولاد إساءة بالغة، إذ يتسببون في كثير من الأمراض النفسية والعصبية التي تصيبهم.
يحتفظ لنا التاريخ بمثال عن شخصية مضطربة كانت القسوة هي سر تصرفاته الشاذة العنيفة، تلك هي شخصية "فريدريك الثاني" ولي عهد بروسيا.
كان "فردريك وليام" والد "فردريك الثاني" رجلاً قاسياً عنيفاً، وكان يعامل ابنه الصغير "فردريك" بالقسوة التي لا حد لها، إذ كان ذلك الملك مفطوراً على الحقد والشك اللذين لم يكونا يقومان على أساس ما، وحتى زوجته لم تنجُ من شكه، وربما كان هذا هو أصل كراهيته الظاهرة لوالده فريدريك.
لقد كان فردريك الابن ضعيف البنية، وكان مجرد منظره يثير غضب أبيه حتى أنه كان إذا التقى به في ردهات القصر أمسك به بلا أدنى سبب، وظل يهزه حتى تصطك عظامه وأسنانه، وفي أحيان أخرى كان يركله بحذائه الثقيل... وكان لدى فردريك وليام غرفة مليئة بالعصي الكبيرة، وكان يحتفظ بالعصي في جميع أنحاء القصر لتكون في متناول يده إذا ما انتابته الرغبة في ضرب ولده.
وإذ بلغ الابن الثالثة عشر، عينه أبوه قائداً عسى أن يُذكي ذلك من رجولته، وكان الصبي مازال ضئيل الجسم، فكان يركب الحصان ليعطي لنفسه مظهر القائد، وكان يشغل كل دقيقة من وقته بالدراسة والتدريب العسكري، حتى أنه لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره إلا وقد ظهرت عليه إمارات كبر السن والإرهاق وكان يضطر لمرافقة أبيه كلما خرج للصيد.
وفي ذات يوم اختار الملك للأمير حصاناً يركبه، ولكن كبير الياوران احتج على ذلك قائلاً أن الحصان أقوى مراساً من أن يلين للأمير الصبي، فتجاهل الملك ذلك وأركب فردريك الحصان، وعندما سار الموكب أطارت الريح قبعة الملك وألقت بها أمام حصان فريدريك فتملك الخوف الأمير الصغير، واندفع لالتقاطها قافزاً من فوق جواده ولكنه أصيب بجراح بالغة فقد وقع جنبه على مقبض سيفه. ونقل إلى القصر وهو غائب عن وعيه، ولكن الملك تضايق من ذلك وأصر على الاعتقاد بأن ولده كان يخدعه فأمره في اليوم التالي أن يشترك في استعراض عسكري.
واستمر الملك يضرب ولده في السر والعلن، على أمل أن يصنع منه رجلاً، حتى إذا بلغ الأمير الحادية والعشرين زوّجه أبوه من "اليزابيث برنسويك" فلم يسعه إلا أن يصدع بالأمر وإن قال "ها هو ذا العالم يستقبل أميرة أخرى تنضم إلى صف التعيسات".
فماذا كانت نتيجة هذه التربية القاسية العنيفة الخالية من العطف والحب والحنان؟!
أخيراً مات الأب "فردريك وليام" وتولى "فردريك الثاني" الحكم بعد وفاة أبيه عام 1740 فعرف بعد ذلك باسم فردريك الأكبر لإصراره الشديد على أن يجعل من وطنه إمبراطورية كبيرة يكون هو رأسها.
وكانت شهوته الطاغية للسلطان، والشهرة، والثروة رد فعل لقسوة أبيه، والعذاب والكبت والحرمان الذي عاناه طيلة حياته.
كان يعمل دون أن يهاب، ويتوقع من الآخرين أن يفعلوا مثله، وكانت تملؤه طاقة جبارة لا يكاد يكون لها حد، ولم يكن يحتمل وجود النساء في البلاط أو في القصر، أما سكرتيره فكان يعمل كالعبد.
ولقد كان فردريك الأكبر موضوع تقديس نابليون في صباه، وكان هذا التقديس حافزاً لنابليون على طلب السلطة والدكتاتورية، كما كان حافزاً له أيضاً على أن يحطم الإمبراطورية التي خططها معبوده... وبعد مائتي سنة من تاريخ تولى فردريك العرش صمم أحد المغتصبين لذكراه أن يضع مطامح الملك البروسي وخططه موضع التنفيذ... وكان اسم هذا الرجل "أدولف هتلر".
ويقيناً أن مسئولية ما وقع بعد ذلك من بؤس وخراب لا تقع على عاتق الرجل الذي لم يكن ليصبح على تلك الحال إلا بسبب التعذيب والإهانات التي عرفها في طفولته، وإنما تقع هذه المسئولية على عاتق ذاك الذي أوسعه تعذبياً وإهانة، حتى خلق منه طاغية ألهم الكثيرين أن يصبحوا طغاة مثله، فالقسوة هي التي تصنع الطاغية، هي تسبب الاضطرابات النفسية والعصبية في حياة الكثيرين.
والمسيحية الحقة تعلّم المرء مبادئ التربية المثلى، فهي تدعو الآباء أن لا يغيظوا أولادهم بل يربوهم بتأديب الرب وإنذاره، وتطالبهم أن يعوّدوا أولادهم على الثقة بالله هذه الثقة التي تولد فيهم الثقة بأنفسهم، بل ترشد الكبار إلى ضرورة احترام الولد والاهتمام بشخصيته إذ قال السيد له المجد بفمه المبارك "انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار. لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات" مت 18: 10. وهذا يوقفنا موقف الحذر من احتقار الصغار أو التهكم عليهم، أو جعلهم أضحوكة أمام الضيوف فكل هذه الأشياء تسيء إلى نفسيتهم وبالتالي إلى شخصيتهم.
إن الإنسان إذ يحس بصغر نفسه، يشعر كذلك بأن الآخرين ينظرون إليه هذه النظرة، ونحن نرى ذلك جلياً في كلمات الجواسيس الخائفين الذين قالوا لموسى بعد أن عادوا من تجسس أرض كنعان "قد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة. فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم" عدد 13: 33.
بل نرى تأثير الإحساس بالمذلة في نفوس شعب الله القديم إذ نقرأ عنهم الكلمات "ولكن لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية" خر 6: 9.
هناك حاجات ضرورية للطفل هي (1) الحاجة للأمن (2) الحاجة للمحبة (3) الحاجة للتقدير (4) الحاجة للحرية (5) الحاجة إلى سلطة ضابطة (6) الحاجة إلى النجاح... وبدون إشباع هذه الحاجات يصاب الطفل بالاضطرابات النفسية التي قد تهدم شخصيته وتعذب حياته.
إن الطفل إذا لم يشعر من طفولته أنه مرغوب فيه ومحبوب من أمه وأبيه، فهو لا يستطيع أن يبادل إخوته الحب، أو يبادل الناس العطف والمشاعر الطيبة أو يصبح شخصية سوية.
والبيت المسيحي المبني على أساس كلمة الله تتوفر فيه كل الخصائص التي تصنع من الطفل إنساناً سوياً، وتحفظه من الإصابة بالأمراض النفسية التي تشقيه مدى الحياة.
منذ عدة سنوات قامت مجلة أميركية كبرى بعمل إحصائية طريفة عن عائلتين عاشتا في ولاية نيويورك.
العائلة الأولى بدأها رجل اسمه "ماكس جوكس" كان لا يؤمن بالمسيحية، وكان يعيش في الشر والإباحية وتزوج بفتاة من طرازه.
ومن الدراسات التي أُجريت على 1026 من سلالة هذه الأسرة كانت النتائج كالآتي:
300 ماتوا قبل الوصول لسن الشباب
100 أودعوا سجن الإصلاحية
190 باعوا أنفسهم للدعارة
100 أدمنوا المسكرات
وقد كلفت هذه الأسرة الولاية 100000 من الدولارات.
أما العائلة الثانية فقد بدأها رجل اسمه "يوناثان إدواردز" كان يؤمن بالمسيحية من كل قلبه، ويؤمن بضرورة تربية الأولاد بالطريقة المسيحية المبنية على الحب والاحترام. وقد تزوج هذا الرجل بفتاة تقية فاضلة من طرازه.
ومن الدراسات التي أجريت على 700 من سلالة هذه الأسرة كانت النتائج كالآتي:
300 صاروا واعظين أتقياء
65 أساتذة في الكليات
13 عمداء جامعات
6 من أعاظم المؤلفين
3 أعضاء في الكونجرس
1 نائب رئيس الولايات المتحدة
ولم تكلف هذه الأسرة الولاية دولاراً واحداً.
فهل رأيت عظم الفرق بين هاتين الأسرتين، إن مصير طفلك في يدك، ففي مقدروك أن يجعل منه بنعمة الله شخصاً نافعاً لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه فينطبق عليه ما قاله بولس لتيموثاوس "وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" 1تي 3: 15. أو أن تهمله أو تدلّلَهُ، أو تقسو عليه فتجعل منه شخصاً هداماً لنظم المجتمع، تملأ حياته الأمراض والعقد النفسية.
فماذا أنت مزمع أن تفعل بأولادك الذين أعطاك إياهم الله؟!
هذا يأتي بنا إلى سبب آخر من أسباب الأمراض النفسية وهو الصراع بين الدوافع.
يقول مؤلف كتاب "الدوافع النفسية" إذا استطاع الفرد إشباع دافع من دوافعه المختلفة- بيولوجية أم سيكولوجية- بمجرد الإحساس به فإن هذا الإجراء من شأنه ألا يثير في نفسه أي إحباط أو صد وبالتالي لا ينتج داخله أي صراع نفسي.
ولكن الواقع أن العالم الذي نعيش فيه مليء بالمعوقات التي تحول بين الفرد وبين تحقيق الكثير من مطاليبه، وقد أصبحت هذه المعوقات جزءاً هاماً من حياتنا اليومية. وتختلف المعوقات من حيث الدرجة فهي تتفاوت من مواقف تسبب الضيق المؤقت للفرد إلى مواقف أخرى يهزم فيها هزيمة منكرة، فيشعر نتيجة ذلك بالخيبة وفقدان الأمل. وكما أن هذه المعوقات تختلف من حيث الدرجة فهي تختلف من ناحية أخرى من حيث النوع، فهناك معوقات مادية تتصل بالبيئة من جو قارس وجبال عالية ومحيطات وصحارى شاسعة، وهناك معوقات اجتماعية تنتج خلال الحياة عن طريق تفاعل الفرد مع غيره أو بسبب المعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع، وهناك معوقات أخرى تسود عالم الأطفال وتنشأ بسبب النواهي والقيود التي يفرضها الآباء على أبنائهم، وهناك معوقات تنشأ بسبب عاهات الحواس والبدن التي يتعرض لها بعض الأفراد مثل الصمم والعمى والكساح أو الشلل، إن هذه العاهات تعوق الفرد المصاب عن إشباع الكثير من دوافعه، فكم من المصابين بالصمم تمنوا أن يعملوا كموسيقيين. وكم من العميان تمنوا لو كانت لديهم الحاسة البصرية لكي يشتغلوا بالأعمال الفنية، وكم من المصابين بالشلل تمنوا لو كان بدنهم سليماً يمكنهم من العمل بالشئون الهندسية. فهذه كلها أنواع من المعوقات التي يتعرض لها الفرد في حياته وتسبب له نوعاً من الإعاقة عند رغبته في إشباع بعض الدوافع التي تثيرها مواقف معينة.
وهناك بجانب ما سبق أنواع أخرى من المواقف "الإحباطية" أو المعوقة تنشأ بسبب وجود الفرد في موقف يتطلب منه أن يختار بين أمرين، فهذا الموقف يتطلب من الفرد أن يفكر ملياً ويتردد قبل البت فيما يختار، وقد يحدث في ظروف خاصة أن يختار بين أمرين غير محببين لنفسه، وقد تصل موازنة الفرد قبل تفضيله موضوعاً على آخر، إلى نوع من الصراع الذهني يكون سبباً في حيرته ولكنه يزول بمجرد إيجاد حل للمشكلة المعروضة عليه.
ويوجد نوعان من الصراع أحدهما عناصره واقعة في دائرة شعورنا، لدرجة أننا ندرك المشكلة التي يدور حولها ذلك الصراع، وندرك طرفي الصراع، وهذا النوع من الصراع لا يتسبب عنه أي كبت أو عزل أفكار أو ميول أو رغبات من الشعور إلى اللاشعور، ذلك لأن المشكلة التي يقوم عليها الصراع تواجهنا ونستطيع بطريقة ما أن نصل إلى حلها.
ومن أمثلة هذا الصراع: شابة يتقدم إليها خطيبان، لهما من الصفات المشتركة ما يجعل تفضيل أحدهما على الآخر أمراً عسيراً، إنها تتعرض لصراع مؤقت في سبيل الوصول إلى قرار نهائي بتفضيل أحد الخطيبين ثم ينتهي الصراع عند هذا الحد.
أما النوع الخطير من الصراع فيحدث في مستوى لا شعوري، فكثيراً ما يجد الفرد نفسه نهب حاجات ونـزعات لا تسمح له ظروفه الاجتماعية بتحقيقها، وحينئذ تكبت هذه الحاجات دون شعور منه وترسب في حيز اللاشعور، ولا تبقى فيه خاملة، بل تظل في حركة ونشاط لأنها لم تتحقق، فهي دائماً تبحث لها عن منفذ تخرج منه، إلا أن النفس الشعورية تقف في أغلب الحالات حائلاً بينها وبين تحقيق رغباتها، وعلى هذا النحو يحدث الصراع النفسي الذي ينتج عنه الكثير من الأمراض النفسية والعصبية.
ومن أمثلة هذا الصراع ما يقوم في نفس الطفل، فالطفل ليس عنده سبب أو شبه سبب يمنعه من أن يأكل متى شاء، ويصيح متى شاء، ويفرغ أمعاءه بما فيها حيث شاء وفي أي وقت يشاء، أو أن يمص إصبعه، أو ينام أو يستيقظ أو يدمر هذا أو ذاك من الأشياء التي تقع تحت يده، ومع ذلك فهو خاضع لنظام خاص ومرغم على إتباع هذا النظام ضد إرادته، وعلى خلاف رغبته، وبلا سبب يستطيع أن يفهمه.
وهذا أول صراع ينشأ بين الطفل وبيئته، ويجاهد الطفل ويجالد في التغلب على إملاء البيئة فلا يستطيع، ويجد أن ذلك الذي يملي عليه شخص محبوب هو الأم التي يحبها ويرغب في إرضائها، فينتج ذلك من ذلك موقف غريب يواجه الطفل، وهو رغبته في إرضاء الأم، ثم رغبته في إرضاء نـزعاته الداخلية. وهكذا ينتقل ميدان الصراع فلا يبقى صراعاً بين الطفل والبيئة بل يصبح صراعاً داخليا بين رغبتين متنازعتين في نفس الطفل كلما جد موقف يدعو إلى ذلك، ولكن العقل لا يحتمل الصراع الظاهر طويلاً، ذلك لأن الصراع معناه انقسام العقل على نفسه، معناه نشوب نوع من الحرب الأهلية بين نـزعتين متضادتين وفي ذلك الخطر كل الخطر على كيان الشخص، ولذلك فلا يلبث الصراع أن ينتهي بحل، وتكون نتيجة الحل أن تتغلب إحدى النـزعتين المتعارضتين على الأخرى، فتخفي المغلوبة من الميدان وتخليه لغريمتها.
ولكن هل هذه الرغبة التي اختفت من الميدان قد انتهت وتلاشت كلية من الوجود؟! كلا فإنها قد تختفي إنما تكمن فقط، فهي تبعد من الشعور وتنحدر إلى اللاشعور، فتصبح منسية، ولكنها تبقى مستعدة لظهور وانتهاز الفرص، لتصل إلى نوع من التحقيق أو التعبير، وهكذا ينتهي الأمر كما تنتهي كل حرب أهلية بانتصار الفريق القوي وهزيمة الفريق الضعيف. فتظهر الأمة بصورة واحدة ويختفي الفريق المغلوب من الحياة الظاهرة للأمة. ولكنه يعمد إلى شتى الوسائل ليحارب خصمه ويسبب له المضايقات فيعمل في الظلام على تدبير المؤامرات وانتهاز الفرص للإيقاع بغريمه، وهذا ما نعنيه بالصراع النفسي.
وهناك مثل آخر يصور لنا الصراع النفسي. نراه في صورة جندي يحب وطنه، ويتجه بكل قواه للدفاع عنه، ثم يجد نفسه يحب فتاة تنتمي إلى العدو، فهذا الجندي يقع فريسة للصراع النفسي بين حبه لوطنه، وحبه لهذه الفتاة، وتكون نفسه إذ ذاك منقسمة على نفسها، جزء منها يتعارض مع الجزء الآخر. فالصراع النفسي يعود في الأصل إلى تعارض الدوافع النفسية، ويتحول إلى نـزاع داخلي لا شعوري يتسبب في كثير من الاضطرابات النفسية.
وما دام الصراع اللا شعوري هو السبب المباشر لكثير من الأمراض النفسية، فيجدر بنا أن نفهم شيئاً أكثر عن حقيقة هذا الصراع.
قسم "فرويد" عالم النفس المشهور "الجهاز النفسي" إلى ثلاثة أقسام، وأوضح أن لكل قسم منها خصائص ووظائف معينة، وسنتحدث فيما يلي عن هذه الأجزاء وهي:
[1] الأنا Ego. [2] الهو Id. [3] الأنا الأعلى Super- Ego.
- عدد الزيارات: 56471