Skip to main content

الفصل الثاني: أسباب الأمراض النفسية

لا جدال في أن مرضى النفوس قد زاد عددهم في هذا العصر عن مرضى الأجساد زيادة تلفت الأنظار. وكثيرون من هؤلاء المرضى ليست لديهم أية فكرة عن أن ما بهم هو عيب عقلي وليس نقصاً جسمياً على الإطلاق، فهم يعتقدون أن مصدر مشكلتهم جسمي محض، وربما يكون هذا المصدر في اعتقادهم... المعدة، أو الكبد، أو الأمعاء مع أنهم في حقيقة الأمر في حالة صحية جيدة من الناحية العضوية، ولكن مرضهم في نفوسهم لا في أجسادهم.

والفرد من هذا النوع المريض نفسياً يشعر بتعب في جسمه عند قيامه من النوم، ويحس بأنه لا يقوى على هضم شيء، كما لا يقوى على مزاولة عمله، ويستعصى عليه النوم حين يأوي إلى فراشه.

ومشكلة هذا الشخص في عقله لا في جسمه، فأعصابه هي المتعبة، ومصدر هذا التعب راجع إلى عدم الثقة في نفسه، فهو يشعر بأنه ليست لديه القوة ولا القدرة على القيام بواجباته أو الاحتفاظ بصحته، وهكذا يستهدف للقلق، وتستبد به الكآبة، ويغمره الحزن، وتدور أفكار كلها حول الفشل والفقر والمرض، ويعجب كيف أن إنساناً مريضاً مثله قادر أن يحيا تلك الحياة، فإذا أخبرته بأنه ليس به شيء فأنه لا يصدقك بل يفقد ثقته فيك...

ولقد شرح معالج نفسي مشهور معنى المرض النفسي في هذه الكلمات "المرض النفسي ليس مرضاً بالمعنى الذي يفهم من كلمة مرض في مجال الطب، والذين يأخذون المرض النفسي بهذا المعنى بعيدون كل البعد عن المفهوم الصحيح "للمرض النفسي" أو إن صح التعبير "الاضطراب النفسي" فالمرض النفسي إنما هو اضطراب يصيب العلاقات الإنسانية فيصبح "تصرف" الإنسان أو "سلوكه" شاذاً أو منحرفاً بمعنى أنه لا يساعده على التوافق مع المجتمع الذي يعيش فيه، ولا مع نفسه، ويؤدي به إلى زيادة التعاسة والشعور بالضيق والهم وعدم الارتياح بوجه عام. فالمرض النفسي إذن اضطراب يصيب السلوك ويصيب الحالة الانفعالية للإنسان دون أن يكون هناك خلل عضوي في أعضائه أو أجهزته.

فما هي الأسباب التي تؤدي بالمرء إلى الأمراض النفسية؟

إن أول أسباب الأمراض النفسية هو الأحداث التي يمر بها المرء في حياته: والتي يمكن تلخيصها من هذه الزاوية في كلمتين هما الثواب والعقاب الذي يناله المرء عن طريق أسرته أو القائمين على أمر تطبيعه الاجتماعي. ونتيجة الثواب تتلخص في إقامة علاقات انفعالية إيجابية نحو الأشخاص أو الأشياء أو الأهداف المقترنة بهذا الثواب، ويدخل ضمن هذه جميعها الذات نفسها فتصبح الذات محبوبة ومرغوبة فيها.

أما نتيجة العقاب فهي تكوين علاقات انفعالية سلبية نحو موقع العقاب وما شابهه وما اقترن بهذه الحالة المؤلمة ومن ذلك أيضاً الذات نفسها التي تتميز عندئذ بالقلق وعدم التوافق.

خطاب صغير يروي مشكلة تعترض كل الأمهات:

نشرت صحيفة الأهرام بعددها الصادر في 17 يناير 1960 خطاباً من أم قلقة على طفلتها تقول كلماته: "لي طفلة تبلغ من العمر أربع سنوات.. توفى والدها فحرمت من عطفه، وكنت حاملاً وجاءت لها أخت جديدة أصبحت موضع عنايتي ورعايتي، وبذلك فقدت الطفلة عطفي أنا أيضاً... بدأت الطفلة تسلك سلوكاً غير مألوف لكي تجذب إليها الأنظار فمثلاً كانت تحاول أن تطيل فترة بقائها في دورة المياه أو تمتنع عن الأكل، أو تتعمد الذهاب إلى فراشها في وقت مبكر جداً.. وبالرغم من هذه المحاولات فإنني تظاهرت بأنني لا أهتم بها على الإطلاق، فاضطرت الطفلة أن تقلع عن كل هذه الوسائل وتلجأ إلى وسيلة أخرى. فبدأت تتعلق بالآخرين وخاصة الكبار وتجالسهم وتداعبهم لتثير انتباه الناس... ولكن عندما بلغت الأخت الجديدة سناً تستطيع فيها أيضاً أن تجذب اهتمام الكبار لجأت طفلتي الأولى إلى الصمت التام وظهر في تصرفاتها الخجل الشديد، وبدأت تعتزل مجتمعات الناس بعد أن فشلت في جذب اهتمام الناس لها... لقد لاحظتُ ذلك كله ولكنني لم أستطعْ أن أفعل شيئاً من أجلها فزادت عزلتها وبدأت تخفي نفسها خجلاً من الضيوف الذين يترددون على المنـزل كما لجأت إلى الاعتداء على أختها المنافسة كوسيلة للتعويض وبدافع الرغبة الملحة في التخلص من هذه الدخيلة، وعندما هددتها بالضرب بدأت تتظاهر بحبها لأختها لكي تحصل على رضائي أو تفوز بكلمة تشجيع أو إعجاب. وعندما وجدتُ أن التهديد أفاد أخذتُ أستعمل معها وسائل الضغط لكي أرغمها على الاختلاط بالناس فكانت النتيجة أن ازدادت الطفلة حساسية وبدأت تبكي من أي نقد ووصلت إلى درجة كانت تفضل فيها الصمت. وتطور الأمر فأصبحت تخجل مني أنا. وأصبحت الطفلة هي مشكلة حياتي التي لا أدري كيف أصل إلى حل لها".

هذا الخطاب ينطوي على مشكلة خطيرة، هي مشكلة خجل الأطفال وانطوائهم على أنفسهم، وهي مشكلة يعاني منها الكثيرون من الوالدين.

فماذا قال علماء النفس عن هذه المشكلة؟

لقد أجمعوا على أن الطفل يمر عادة بفترة من الشعور بالخجل خصوصاً عند أول اختلاطه بالغرباء ولكن سرعان ما يتخلص منه إذا كان نموه طبيعياً وتربيته خالية من القسوة أما إذا وجد الطفل في بيئته ما يساعده على الشعور بالخجل مدة طويلة من حياته فسيتحول الخجل إلى عادة وقد يتطور الخجل أيضاً إلى مرض نفسي خطير كالشعور بالاضطهاد أو العزلة وكلما كبر الطفل كبر في نفسه هذا الشعور، حتى يصبح منطوٍ على نفسه شديد الإحساس بكل ما يمر به، وقد تصل به هذه الحساسية إلى الرغبة في الابتعاد عن الحياة الاجتماعية العادية لإحساسه بالفشل في علاقاته مع الناس.

إن أسباب الخجل لا أول لها ولا آخر ولكنها كلها ترجع إلى طريقة معاملة الوالدين للطفل وخاصة في السنوات الأولى من حياته، فالتدليل الشديد للطفل والاهتمام به إلى حد كبير أمام الغرباء وإظهاره بمظهر الطفل الكامل يؤدي إلى شعوره بالخجل إذا تعرض للفشل لأنه يلجأ في هذه الحالة إلى الخجل كوسيلة للهروب من مواجهة الناس.

وكما أن التدليل والاهتمام الزائد بالطفل يؤدي به إلى الخجل فإن القسوة في معاملته وإغاظته وإطلاق اسم من الأسماء التي لا يحبها عليه، يجعل الطفل يحاول الابتعاد تماماً عن الاحتكاك بالناس وخاصة الذين يضايقونه.

إن هناك أحداثاً تمر بالأسرة كأن يفقد الطفل أحد والديه، أو يحل طفل جديد في البيت يصبح موضع عناية والديه ويسلبه ما كان يستمتع به من عطف ورعاية وكل هذه الأحداث تساعد على شعور الطفل بالخجل.

وقد يحدث أحياناً أن يرى الطفل نقصاً في بيئته الاجتماعية بالنسبة لزملائه في المدرسة فيخجل من الاختلاط بهم أو الحديث معهم وينطوي على نفسه.

إن هناك أمراً هاماً يجب أن نضعه نصب أعيننا وهو حاجة الطفل إلى الحب والأمان وتوفير هذه الحاجة له في بيئته.

نشرت إحدى كبريات الصحف قصة عن طفل اسمه "جوني" أخذه أبوه وأمه إلى مستشفى الأطفال في مدينة "ابي وود" بإنجلترا ثم مضى شهر ولم يزر الوالدان طفلهما، ثم شهران، ثم ثلاثة!!.. كان الطفل يتطلع كل لحظة إلى الباب على أمل أن يرى والديه، ولكنهما نسياه! واتصلت إدارة المستشفى بالعنوان الذي تركه الوالدان، فلم تجد لهما أثراً... ومضى عام، وعامان، وثلاثة أعوام! والطفل الصغير يرى الآباء والأمهات يزورون زملاءه المرضى ويحملون لهم الهدايا... وهو وحده في فراشه لا يزوره أحد، ولا يفكر فيه أحد!!

كان الطفل جائعاً إلى الحب، وإلى الحنان، وإلى العطف، فبدأ يكذب على زملاءه الأطفال لينفي عن نفسه عار النسيان والوحدة، وراح يقول لهم: لقد زارتني أمي في الليل أمس أثناء نومكم وأمطرتني بالقبلات، وأبي أيضاً جاء معها ومعه الكثير من الحلوى! وأحست كبيرة الممرضات في المستشفى أن جوع الطفل إلى الحب هو الذي اضطره إلى الكذب، فنشرت قصته وصورته في الصحف!! وفي اليوم التالي كان المئات من أفراد الشعب يقفون أمام باب المستشفى وهم يحملون الهدايا للطفل جوني، وسمحت إدارة المستشفى لتسعين من الزوار فقط بمقابلته في اليوم الأول، وامتلأت أروقة المستشفى بالهدايا، وبكت سيدة أمام الباب لما منعوها من الدخول، فقد ركبت ثلاث قطارات وقطعت مسافة توازي المسافة بين القاهرة وأسوان لتزور هذا الطفل الجائع إلى الحنان، واضطرت أن تمضي ليلة في الفندق حتى يُسمح لها بزيارة "جوني" في اليوم التالي... حمل جوني الهدايا، وراح يوزعها على زملائه، وأحس بالدفء يسري في كيانه بعد برود، وبالحب يحوله إلى إنسان مذكور.

إن هذه القصة الواقعية ترينا أن في قلب كل إنسان جوعاً طبيعياً إلى الحب والحنان، وإن المرء إذا لم يجد من البشر من يحبه ويهمس في أذنه بكلمات الإعجاب والعطف، أصيب باضطراب في نفسيته، وأصبح شخصاً مريضاً من الناحية النفسية.

وهذا يتفق تماماً مع كلمات بولس الرسول التي سجلها للآباء ورسم بها طريق التربية القويم إذ قال "أيها الآباء لا تغيظوا أولادكم لئلا يفشلوا" كولوسي 3: 21.

أجل فالآباء الذين يغيظون أولادهم ويستخدمون أساليب الضغط والعنف في تربيتهم يسيئون إلى هؤلاء الأولاد إساءة بالغة، إذ يتسببون في كثير من الأمراض النفسية والعصبية التي تصيبهم.

يحتفظ لنا التاريخ بمثال عن شخصية مضطربة كانت القسوة هي سر تصرفاته الشاذة العنيفة، تلك هي شخصية "فريدريك الثاني" ولي عهد بروسيا.

كان "فردريك وليام" والد "فردريك الثاني" رجلاً قاسياً عنيفاً، وكان يعامل ابنه الصغير "فردريك" بالقسوة التي لا حد لها، إذ كان ذلك الملك مفطوراً على الحقد والشك اللذين لم يكونا يقومان على أساس ما، وحتى زوجته لم تنجُ من شكه، وربما كان هذا هو أصل كراهيته الظاهرة لوالده فريدريك.

لقد كان فردريك الابن ضعيف البنية، وكان مجرد منظره يثير غضب أبيه حتى أنه كان إذا التقى به في ردهات القصر أمسك به بلا أدنى سبب، وظل يهزه حتى تصطك عظامه وأسنانه، وفي أحيان أخرى كان يركله بحذائه الثقيل... وكان لدى فردريك وليام غرفة مليئة بالعصي الكبيرة، وكان يحتفظ بالعصي في جميع أنحاء القصر لتكون في متناول يده إذا ما انتابته الرغبة في ضرب ولده.

وإذ بلغ الابن الثالثة عشر، عينه أبوه قائداً عسى أن يُذكي ذلك من رجولته، وكان الصبي مازال ضئيل الجسم، فكان يركب الحصان ليعطي لنفسه مظهر القائد، وكان يشغل كل دقيقة من وقته بالدراسة والتدريب العسكري، حتى أنه لم يبلغ الرابعة عشرة من عمره إلا وقد ظهرت عليه إمارات كبر السن والإرهاق وكان يضطر لمرافقة أبيه كلما خرج للصيد.

وفي ذات يوم اختار الملك للأمير حصاناً يركبه، ولكن كبير الياوران احتج على ذلك قائلاً أن الحصان أقوى مراساً من أن يلين للأمير الصبي، فتجاهل الملك ذلك وأركب فردريك الحصان، وعندما سار الموكب أطارت الريح قبعة الملك وألقت بها أمام حصان فريدريك فتملك الخوف الأمير الصغير، واندفع لالتقاطها قافزاً من فوق جواده ولكنه أصيب بجراح بالغة فقد وقع جنبه على مقبض سيفه. ونقل إلى القصر وهو غائب عن وعيه، ولكن الملك تضايق من ذلك وأصر على الاعتقاد بأن ولده كان يخدعه فأمره في اليوم التالي أن يشترك في استعراض عسكري.

واستمر الملك يضرب ولده في السر والعلن، على أمل أن يصنع منه رجلاً، حتى إذا بلغ الأمير الحادية والعشرين زوّجه أبوه من "اليزابيث برنسويك" فلم يسعه إلا أن يصدع بالأمر وإن قال "ها هو ذا العالم يستقبل أميرة أخرى تنضم إلى صف التعيسات".

فماذا كانت نتيجة هذه التربية القاسية العنيفة الخالية من العطف والحب والحنان؟!

أخيراً مات الأب "فردريك وليام" وتولى "فردريك الثاني" الحكم بعد وفاة أبيه عام 1740 فعرف بعد ذلك باسم فردريك الأكبر لإصراره الشديد على أن يجعل من وطنه إمبراطورية كبيرة يكون هو رأسها.

وكانت شهوته الطاغية للسلطان، والشهرة، والثروة رد فعل لقسوة أبيه، والعذاب والكبت والحرمان الذي عاناه طيلة حياته.

كان يعمل دون أن يهاب، ويتوقع من الآخرين أن يفعلوا مثله، وكانت تملؤه طاقة جبارة لا يكاد يكون لها حد، ولم يكن يحتمل وجود النساء في البلاط أو في القصر، أما سكرتيره فكان يعمل كالعبد.

ولقد كان فردريك الأكبر موضوع تقديس نابليون في صباه، وكان هذا التقديس حافزاً لنابليون على طلب السلطة والدكتاتورية، كما كان حافزاً له أيضاً على أن يحطم الإمبراطورية التي خططها معبوده... وبعد مائتي سنة من تاريخ تولى فردريك العرش صمم أحد المغتصبين لذكراه أن يضع مطامح الملك البروسي وخططه موضع التنفيذ... وكان اسم هذا الرجل "أدولف هتلر".

ويقيناً أن مسئولية ما وقع بعد ذلك من بؤس وخراب لا تقع على عاتق الرجل الذي لم يكن ليصبح على تلك الحال إلا بسبب التعذيب والإهانات التي عرفها في طفولته، وإنما تقع هذه المسئولية على عاتق ذاك الذي أوسعه تعذبياً وإهانة، حتى خلق منه طاغية ألهم الكثيرين أن يصبحوا طغاة مثله، فالقسوة هي التي تصنع الطاغية، هي تسبب الاضطرابات النفسية والعصبية في حياة الكثيرين.

والمسيحية الحقة تعلّم المرء مبادئ التربية المثلى، فهي تدعو الآباء أن لا يغيظوا أولادهم بل يربوهم بتأديب الرب وإنذاره، وتطالبهم أن يعوّدوا أولادهم على الثقة بالله هذه الثقة التي تولد فيهم الثقة بأنفسهم، بل ترشد الكبار إلى ضرورة احترام الولد والاهتمام بشخصيته إذ قال السيد له المجد بفمه المبارك "انظروا لا تحتقروا أحد هؤلاء الصغار. لأني أقول لكم إن ملائكتهم في السموات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السموات" مت 18: 10. وهذا يوقفنا موقف الحذر من احتقار الصغار أو التهكم عليهم، أو جعلهم أضحوكة أمام الضيوف فكل هذه الأشياء تسيء إلى نفسيتهم وبالتالي إلى شخصيتهم.

إن الإنسان إذ يحس بصغر نفسه، يشعر كذلك بأن الآخرين ينظرون إليه هذه النظرة، ونحن نرى ذلك جلياً في كلمات الجواسيس الخائفين الذين قالوا لموسى بعد أن عادوا من تجسس أرض كنعان "قد رأينا هناك الجبابرة بني عناق من الجبابرة. فكنا في أعيننا كالجراد وهكذا كنا في أعينهم" عدد 13: 33.

بل نرى تأثير الإحساس بالمذلة في نفوس شعب الله القديم إذ نقرأ عنهم الكلمات "ولكن لم يسمعوا لموسى من صغر النفس ومن العبودية القاسية" خر 6: 9.

هناك حاجات ضرورية للطفل هي (1) الحاجة للأمن (2) الحاجة للمحبة (3) الحاجة للتقدير (4) الحاجة للحرية (5) الحاجة إلى سلطة ضابطة (6) الحاجة إلى النجاح... وبدون إشباع هذه الحاجات يصاب الطفل بالاضطرابات النفسية التي قد تهدم شخصيته وتعذب حياته.

إن الطفل إذا لم يشعر من طفولته أنه مرغوب فيه ومحبوب من أمه وأبيه، فهو لا يستطيع أن يبادل إخوته الحب، أو يبادل الناس العطف والمشاعر الطيبة أو يصبح شخصية سوية.

والبيت المسيحي المبني على أساس كلمة الله تتوفر فيه كل الخصائص التي تصنع من الطفل إنساناً سوياً، وتحفظه من الإصابة بالأمراض النفسية التي تشقيه مدى الحياة.

منذ عدة سنوات قامت مجلة أميركية كبرى بعمل إحصائية طريفة عن عائلتين عاشتا في ولاية نيويورك.

العائلة الأولى بدأها رجل اسمه "ماكس جوكس" كان لا يؤمن بالمسيحية، وكان يعيش في الشر والإباحية وتزوج بفتاة من طرازه.

ومن الدراسات التي أُجريت على 1026 من سلالة هذه الأسرة كانت النتائج كالآتي:

300 ماتوا قبل الوصول لسن الشباب

100 أودعوا سجن الإصلاحية

190 باعوا أنفسهم للدعارة

100 أدمنوا المسكرات

وقد كلفت هذه الأسرة الولاية 100000 من الدولارات.

أما العائلة الثانية فقد بدأها رجل اسمه "يوناثان إدواردز" كان يؤمن بالمسيحية من كل قلبه، ويؤمن بضرورة تربية الأولاد بالطريقة المسيحية المبنية على الحب والاحترام. وقد تزوج هذا الرجل بفتاة تقية فاضلة من طرازه.

ومن الدراسات التي أجريت على 700 من سلالة هذه الأسرة كانت النتائج كالآتي:

300 صاروا واعظين أتقياء

65 أساتذة في الكليات

13 عمداء جامعات

6 من أعاظم المؤلفين

3 أعضاء في الكونجرس

1 نائب رئيس الولايات المتحدة

ولم تكلف هذه الأسرة الولاية دولاراً واحداً.

فهل رأيت عظم الفرق بين هاتين الأسرتين، إن مصير طفلك في يدك، ففي مقدروك أن يجعل منه بنعمة الله شخصاً نافعاً لنفسه وللمجتمع الذي يعيش فيه فينطبق عليه ما قاله بولس لتيموثاوس "وأنك منذ الطفولية تعرف الكتب المقدسة القادرة أن تحكمك للخلاص بالإيمان الذي في المسيح يسوع" 1تي 3: 15. أو أن تهمله أو تدلّلَهُ، أو تقسو عليه فتجعل منه شخصاً هداماً لنظم المجتمع، تملأ حياته الأمراض والعقد النفسية.

فماذا أنت مزمع أن تفعل بأولادك الذين أعطاك إياهم الله؟!

هذا يأتي بنا إلى سبب آخر من أسباب الأمراض النفسية وهو الصراع بين الدوافع.

يقول مؤلف كتاب "الدوافع النفسية" إذا استطاع الفرد إشباع دافع من دوافعه المختلفة- بيولوجية أم سيكولوجية- بمجرد الإحساس به فإن هذا الإجراء من شأنه ألا يثير في نفسه أي إحباط أو صد وبالتالي لا ينتج داخله أي صراع نفسي.

ولكن الواقع أن العالم الذي نعيش فيه مليء بالمعوقات التي تحول بين الفرد وبين تحقيق الكثير من مطاليبه، وقد أصبحت هذه المعوقات جزءاً هاماً من حياتنا اليومية. وتختلف المعوقات من حيث الدرجة فهي تتفاوت من مواقف تسبب الضيق المؤقت للفرد إلى مواقف أخرى يهزم فيها هزيمة منكرة، فيشعر نتيجة ذلك بالخيبة وفقدان الأمل. وكما أن هذه المعوقات تختلف من حيث الدرجة فهي تختلف من ناحية أخرى من حيث النوع، فهناك معوقات مادية تتصل بالبيئة من جو قارس وجبال عالية ومحيطات وصحارى شاسعة، وهناك معوقات اجتماعية تنتج خلال الحياة عن طريق تفاعل الفرد مع غيره أو بسبب المعايير الاجتماعية السائدة في المجتمع، وهناك معوقات أخرى تسود عالم الأطفال وتنشأ بسبب النواهي والقيود التي يفرضها الآباء على أبنائهم، وهناك معوقات تنشأ بسبب عاهات الحواس والبدن التي يتعرض لها بعض الأفراد مثل الصمم والعمى والكساح أو الشلل، إن هذه العاهات تعوق الفرد المصاب عن إشباع الكثير من دوافعه، فكم من المصابين بالصمم تمنوا أن يعملوا كموسيقيين. وكم من العميان تمنوا لو كانت لديهم الحاسة البصرية لكي يشتغلوا بالأعمال الفنية، وكم من المصابين بالشلل تمنوا لو كان بدنهم سليماً يمكنهم من العمل بالشئون الهندسية. فهذه كلها أنواع من المعوقات التي يتعرض لها الفرد في حياته وتسبب له نوعاً من الإعاقة عند رغبته في إشباع بعض الدوافع التي تثيرها مواقف معينة.

وهناك بجانب ما سبق أنواع أخرى من المواقف "الإحباطية" أو المعوقة تنشأ بسبب وجود الفرد في موقف يتطلب منه أن يختار بين أمرين، فهذا الموقف يتطلب من الفرد أن يفكر ملياً ويتردد قبل البت فيما يختار، وقد يحدث في ظروف خاصة أن يختار بين أمرين غير محببين لنفسه، وقد تصل موازنة الفرد قبل تفضيله موضوعاً على آخر، إلى نوع من الصراع الذهني يكون سبباً في حيرته ولكنه يزول بمجرد إيجاد حل للمشكلة المعروضة عليه.

ويوجد نوعان من الصراع أحدهما عناصره واقعة في دائرة شعورنا، لدرجة أننا ندرك المشكلة التي يدور حولها ذلك الصراع، وندرك طرفي الصراع، وهذا النوع من الصراع لا يتسبب عنه أي كبت أو عزل أفكار أو ميول أو رغبات من الشعور إلى اللاشعور، ذلك لأن المشكلة التي يقوم عليها الصراع تواجهنا ونستطيع بطريقة ما أن نصل إلى حلها.

ومن أمثلة هذا الصراع: شابة يتقدم إليها خطيبان، لهما من الصفات المشتركة ما يجعل تفضيل أحدهما على الآخر أمراً عسيراً، إنها تتعرض لصراع مؤقت في سبيل الوصول إلى قرار نهائي بتفضيل أحد الخطيبين ثم ينتهي الصراع عند هذا الحد.

أما النوع الخطير من الصراع فيحدث في مستوى لا شعوري، فكثيراً ما يجد الفرد نفسه نهب حاجات ونـزعات لا تسمح له ظروفه الاجتماعية بتحقيقها، وحينئذ تكبت هذه الحاجات دون شعور منه وترسب في حيز اللاشعور، ولا تبقى فيه خاملة، بل تظل في حركة ونشاط لأنها لم تتحقق، فهي دائماً تبحث لها عن منفذ تخرج منه، إلا أن النفس الشعورية تقف في أغلب الحالات حائلاً بينها وبين تحقيق رغباتها، وعلى هذا النحو يحدث الصراع النفسي الذي ينتج عنه الكثير من الأمراض النفسية والعصبية.

ومن أمثلة هذا الصراع ما يقوم في نفس الطفل، فالطفل ليس عنده سبب أو شبه سبب يمنعه من أن يأكل متى شاء، ويصيح متى شاء، ويفرغ أمعاءه بما فيها حيث شاء وفي أي وقت يشاء، أو أن يمص إصبعه، أو ينام أو يستيقظ أو يدمر هذا أو ذاك من الأشياء التي تقع تحت يده، ومع ذلك فهو خاضع لنظام خاص ومرغم على إتباع هذا النظام ضد إرادته، وعلى خلاف رغبته، وبلا سبب يستطيع أن يفهمه.

وهذا أول صراع ينشأ بين الطفل وبيئته، ويجاهد الطفل ويجالد في التغلب على إملاء البيئة فلا يستطيع، ويجد أن ذلك الذي يملي عليه شخص محبوب هو الأم التي يحبها ويرغب في إرضائها، فينتج ذلك من ذلك موقف غريب يواجه الطفل، وهو رغبته في إرضاء الأم، ثم رغبته في إرضاء نـزعاته الداخلية. وهكذا ينتقل ميدان الصراع فلا يبقى صراعاً بين الطفل والبيئة بل يصبح صراعاً داخليا بين رغبتين متنازعتين في نفس الطفل كلما جد موقف يدعو إلى ذلك، ولكن العقل لا يحتمل الصراع الظاهر طويلاً، ذلك لأن الصراع معناه انقسام العقل على نفسه، معناه نشوب نوع من الحرب الأهلية بين نـزعتين متضادتين وفي ذلك الخطر كل الخطر على كيان الشخص، ولذلك فلا يلبث الصراع أن ينتهي بحل، وتكون نتيجة الحل أن تتغلب إحدى النـزعتين المتعارضتين على الأخرى، فتخفي المغلوبة من الميدان وتخليه لغريمتها.

ولكن هل هذه الرغبة التي اختفت من الميدان قد انتهت وتلاشت كلية من الوجود؟! كلا فإنها قد تختفي إنما تكمن فقط، فهي تبعد من الشعور وتنحدر إلى اللاشعور، فتصبح منسية، ولكنها تبقى مستعدة لظهور وانتهاز الفرص، لتصل إلى نوع من التحقيق أو التعبير، وهكذا ينتهي الأمر كما تنتهي كل حرب أهلية بانتصار الفريق القوي وهزيمة الفريق الضعيف. فتظهر الأمة بصورة واحدة ويختفي الفريق المغلوب من الحياة الظاهرة للأمة. ولكنه يعمد إلى شتى الوسائل ليحارب خصمه ويسبب له المضايقات فيعمل في الظلام على تدبير المؤامرات وانتهاز الفرص للإيقاع بغريمه، وهذا ما نعنيه بالصراع النفسي.

وهناك مثل آخر يصور لنا الصراع النفسي. نراه في صورة جندي يحب وطنه، ويتجه بكل قواه للدفاع عنه، ثم يجد نفسه يحب فتاة تنتمي إلى العدو، فهذا الجندي يقع فريسة للصراع النفسي بين حبه لوطنه، وحبه لهذه الفتاة، وتكون نفسه إذ ذاك منقسمة على نفسها، جزء منها يتعارض مع الجزء الآخر. فالصراع النفسي يعود في الأصل إلى تعارض الدوافع النفسية، ويتحول إلى نـزاع داخلي لا شعوري يتسبب في كثير من الاضطرابات النفسية.

وما دام الصراع اللا شعوري هو السبب المباشر لكثير من الأمراض النفسية، فيجدر بنا أن نفهم شيئاً أكثر عن حقيقة هذا الصراع.

قسم "فرويد" عالم النفس المشهور "الجهاز النفسي" إلى ثلاثة أقسام، وأوضح أن لكل قسم منها خصائص ووظائف معينة، وسنتحدث فيما يلي عن هذه الأجزاء وهي:

[1] الأنا Ego. [2] الهو Id. [3] الأنا الأعلى Super- Ego.


الأنا The Ego:

يقول الدكتور "القوصى" في كتابه "علم النفس أسسه وتطبيقاته التربوية" هذه الكلمات: "وصل فرويد في أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحالي إلى وضع فرض يستعين به في تفسير الظواهر العقلية الشاذة، والظواهر العقلية اليومية، ويتضمن هذا الفرض أن جزءاً من الشخصية ويسميه "الأنا" هو الجزء المعروف لنا، والذي ندركه إدراكاً مباشراً، وهذا الجزء متصل بعالم الواقع، وهو يتضمن ذكرياتنا وعواطفنا. فأنا أقول "أنا" أحب ولدي، و"أنا" أحب عملي، و"أنا" أكره الكذوب، و "أنا" أحب صديقي، و"أنا" أحب العدل وأكره الظلم وأحب المساواة بين الناس و"أنا" أحترم من يفوقني عقلا ًومقدرة و"أنا" لا أغار منه. هذا "الأنا"، هو الجانب الظاهر من الشخصية، ونقصد بهذا أنه الظاهر لي "أنا" ويتأثر "الأنا" بالعوامل اللاشعورية من ناحية، وبعالم الواقع من ناحية أخرى، ففي عالم الواقع يجد المجتمع بتقاليده وقوانينه وعلاقاته وأفراده، ويجد فيه كذلك الأزمنة والأمكنة والأشياء ومختلف المؤثّرت التي ندركها بحواسنا ونتأثر بها، تأثراً يمكننا من استعادتها ومن التأثر بها في خبراتنا التالية.

وإذا تتبعنا الطفل من وقت ولادته إلى أن يكبر، وجدنا أن "الأنا" ينمو تدريجياً بتقدم السن، وذلك لتعدد الخبرات، ولاستمرار تبادل التأثير والتأثر بين الشخص والأشخاص الآخرين، وكذلك بينه وبين مختلف أجزاء البيئة التي يتعامل معها. ويلاحظ أن الطفل الصغير من الناحية النفسية عبارة عن مجموعة من الدوافع والنـزعات التي تتجه إلى التعبير عن نفسها عن طريق الاتصال بالعالم الخارجي، فيعبر دافع الجوع عن نفسه بالرغبة في الشبع عن طريق مص ثدي الأم، وبهذا يتصل الطفل بعالم الواقع اتصالاً يصحبه ارتياح وإشباع وسرور. وأحياناً يترتب على الاتصال بالعالم الخارجي تألم وعدم ارتياح. فإذا النتيجة ألم وعدم ارتياح، وهكذا يبدأ الطفل منذ اللحظة الأولى يتصل بأجزاء العالم الخارجي اتصالاً يوقفه على خصائص أجزاء هذا العالم، فهذه أشياء متحركة، وتلك ساكنة، وهذه حية وتلك ميتة، وهذه قوية وتلك ضعيفة، وهذه مؤلمة، وتلك سارة إلى غير ذلك من الخبرات التي تساعده على أن يكوّن لنفسه فكرة عن نفسه متميزة عن فكرته عن العالم الواقعي المحيط به. ولا يستطيع الطفل قبل مرور عامين من عمره أن يفرق بين ذاته وذوات الآخرين، ومعنى ذلك أنه يكون عاجزاً في تلك الفترة عن إدراك نفسه كذات متميزة عما يحيط بها. وفي منتصف العام الثالث تقريباً، يبدأ الشعور بأنه فرد مستقل، يتحدث إليه الناس ويتحدث هو بدوره إليهم، ويتوقف سلوكهم نحوه والفكرة التي يكوّنونها عنه على ما يصدر منه من تصرفات وأعمال، ما يتركه في نفوسهم من تأثير، وكنتيجة لتفاعله بهم يبدأ في تكوين فكرة عن نفسه يشتقها من موقف المجتمع منه، فما يحرزه الطفل في ذلك الدور من نجاح أو فشل وما يسمعه من مدح أو ذم، وما يلاقيه من رضى أو سخط ومن تشجيع أو تثبيط، يزيد في توضيح فكرته عن نفسه، إذ قد يرى أنه طفل ناجح أو يتبين أنه فاشل. وبالتدريج تتسع الدائرة التي يتعامل معها الطفل، وتزداد نتيجة لذلك خبراته ومعلوماته فيتبين منـزلته في الأسرة والمدرسة، كما تتضح له مكانة أسرته في المجتمع العام، وبتكرار التفاعل بين الفرد وتلك الوحدات الاجتماعية المختلفة يتكون "الأنا" أو "الذات" ونذكر هنا أن أقوى عوامل التفاعل الأولى هي "الأم" أو "الأب".

وسعيدة هي الأم التي تدرك مدى تأثيرها في حياة أولادها الصغار فتستخدم هذا التأثير لبركتهم وخيرهم في العالم الحاضر والأبدية ليتم فيها القول الذي كتبه بولس لتلميذه الحبيب تيموثاوس: "إذ أتذكر الإيمان العديم الرياء الذي فيك الذي سكن أولاً في جدتك لوئيس وأمك أفنيكي ولكني موقن أنه فيك أيضاً" 2 تي 1: 5.

وسعيد هو البأأب الذي يعرف قوة تأثيره على أبنائه فيستخدم هذا التأثير لمصلحتهم من الناحية الروحية والجسدية قبل أن يصل أولاده إلى سن العاشرة ويفلت منه زمام قيادتهم.

ونعود إلى الحديث عن "الأنا" فنقول أن الأنا هو الجانب النفسي الذي يواجه العالم الخارجي ويتأثر به تأثراً مباشراً، ويكاد يكون صورة للواقع الذي تقره البيئة، ولا يصح لنا أن نعتبره منطقياً معقولاً رزيناً في تصرفاته وأحكامه، يميل أن تكون تصرفاته في حدود المبادئ الخلقية التي يقرها عالم الواقع، وهو حلقة الاتصال بين الطاقة الغريزية والعالم الخارجي، "فالأنا" هو الذي يتصل بعالم الواقع لتحقيق النـزعات الغريزية بالصورة التي يراها خلقية معقولة، ولذلك كان دائماً في صراع مع الأمور والتصرفات التي لا تلائم طبيعة تكوينه.

وعلى ضوء ما تقدم يمكننا القول بأن "الأنا" شعوري، منطقي، خلقي، يتصل مباشرة بعالم الواقع، ويعمل كحلقة اتصال بين النـزعات الغريزية وعالم الواقع، و "الأنا" يغفل في ساعة النوم.


الهو The Id:

"الهو" هو القسم الثاني من الجهاز النفسي، وقد فضّل الدكتور اسحاق رمزي في ترجمته لكتاب فرويد "مقدمة التحليل النفسي" استخدام صيغة التذكير هذه على العكس من بعض الكتّاب الذين استعملوا صيغة التأنيث "الهي".

"الهو" هو القسم اللاشعوري في الجهاز النفسي، ومن خصائصه أنه لا يتجه وفق المبادئ الخلقية، وإنما يسير على قاعدة تحقيق اللذة والابتعاد عن الألم، ثم أنه لا يتقيد بقيود منطقية، ومن مركباته النـزعات الفطرية الوراثية والمكبوتة، فهو يشمل مجموعة النـزعات والرغبات والميول البدائية التي كتبها المرء بطريقة لاشعورية في مستهل حياته في أعماق النفس، لأنها لا تتفق مع العرف والتقاليد والتعاليم الدينية والأخلاقية.

إن "الهو" يشبه "الغرفة المظلمة" البعيدة الغور، العميقة غاية العمق، المخفية عن الشخص غاية الخفاء، ومع ذلك فهي زاخرة بالمحتويات العقلية من أفكار ورغبات ودوافع فطرية وراثية.

ويقول "دكتور فرويد" إن العناصر التي يتكون منها "الهو" لا تموت، بل تبقى حية مزدهرة تعمل في مكمنها الجديد في غير توافق أو انسجام، كما أنها من وقت لآخر تحاول التعبير عن نفسها بشتى الوسائل والطرق، ومن بين هذه الوسائل أو الحيل اللاشعورية ما هو معروف باسم الأحلام، وفلتات اللسان، والتبرير، والإسقاط وغيرها من الوسائل، ويجب أن نشير إلى أن بعض هذه الرغبات والانفعالات المكبوتة في اللاشعور تندمج مع بعضها بشكل تنظيمات أو تكوينات جديدة أطلق عليها "فرويد" اسم "العقد" وعلى هذا يصح لنا أن نعرّف العقدة Complex بأنها مجموعة متصلة من الرغبات والميول غير المشبعة أو أنها عبارة عن مجموعة من الذكريات والحوادث ذات الأثر الأليم في حياة الفرد المبكرة، فُصلت أو عُزلت من مجال الشعور إلى الحياة العقلية اللاشعورية، ونُسيت منها، غير أن هذه الأخطار والحوادث والذكريات المفصولة، وما كان يصاحبها من انفعالات غير سارة لا تتداعى ولا تتحطم بل تبقى في معزلها أو مرقدها الجديد حية لا تموت تتحرك في ذلك المكان العميق المسمى "بالهو".


الأنا الأعلى The Super Ego:

يبدأ الطفل منذ الثالثة من عمره في العمل على حل الصراع النفسي الذي ينشأ في أعماق اللاشعور بين رغباته غير المهذبة وبين تلك المعايير والتعاليم والأديان والمثل العليا التي يتلقنها من العالم الخارجي وعلى الأخص من والديه، وترجع أهمية سلطة الوالدين هنا إلى كونها سلطة ثابتة في السنوات الأولى، ووظيفة هذه السلطة توجيه السلوك فقد يرغب الطفل في القيام بعمل ما، فيمنعه والداه برغم تشوقه للقيام به، وقد يرغم الطفل على الإتيان بعمل ما رغم كراهيته له، ويتعرض الطفل في كل هذا للثواب والعقاب، والمدح والذم، والرضى والسخط، وبالتدريج يمتص الطفل تلك المعايير الأخلاقية ويبلورها في نفسه حتى تصبح "سلطة داخلية" تحل محل السلطة الخارجية في تنظيم وضبط تلك الرغبات المحظورة.

وهكذا يدخل في دائرة صراع جديد، فبعد أن كان التعارض قائماً بين الذات الشعورية للطفل "الأنا"، وبين تلك الرغبات المحظورة التي مركزها "الهو" نجد الصراع ينتقل إلى داخلية نفسه ويصبح تعارضاً بين تلك الرغبات البدائية وبين ذلك الجزء الجديد الناشئ في نفس الطفل المسمى "الأنا الأعلى". ويمكن تشبيه ذلك الجزء من الجهاز النفسي "بالرقيب الداخلي" الذي يقف حائلاً دون اندفاع تلك الرغبات والميول غير المهذبة والمكبوتة في اللا شعور.

وفي كلمات قليلة يمكننا أن نعرّف الصفات الأساسية للأنا الأعلى بأنه الناقد الخلقي الأعلى الذي يُشعرُ الأنا بالخطيئة وهو شديد التمسك بالمبادئ الخلقية والمثل العليا، وهو المسيطر على "الأنا" والذي ينظم العلاقة بينه وبين الطاقة الغريزية، ومع هذا كله فهو يبقى في مستوى لا شعوري ولذا تواضع علماء النفس على تسمية "الأنا" بالنفس الحسية و "الأنا الأعلى" "بالضمير أو الذات المثالية".


الصراع النفسي:

صار مفهوماً لنا أن جانب الشخصية الظاهر لنا والذي يمثلنا أمام أنفسنا، ونحب أن يمثلنا أمام الناس هو "الأنا"، غير أن الأنا يتعرض لعوامل ثلاثة كل منها قوى غاية القوة.

فالأنا يتعرض من الناحية الأولى لعالم الواقع بقوانينه وتقاليده ومنطقه، ومستوياته الخلقية، والعلاقات الإنسانية السائدة فيه، كما يتعرض لما في عالم الواقع من المثيرات والمغريات وأغلب هذه المغريات تستدعي استجابة من النـزعات الغريزية.

ولذا فإن الأنا يتعرض من الناحية الثانية لإلحاح النـزعات الغريزية المختلفة التي تريد أن تعبر عن نفسها عن طريق الأنا، فهذه نـزعة عدوانية. وتلك نـزعة جنسية، وغير ذلك من نـزعات أخرى كلها تتدافع للتعبير عن نفسها. وتجد من عالم الواقع ما يمنعها من قوانين وما يجذبها من مغريات ومثيرات،وكل من المنع والإستثارة يحدث عن طريق الأنا.

ثم يتعرض الأنا بالإضافة إلى هاتين القوتين الهائلتين، قوة عالم الواقع وقوة عالم الهو، إلى قوة ثالثة هي قوة "الأنا الأعلى" الذي يقوم بمنع "الأنا" من الاستمتاع بكثير من لذات إشباع الدوافع النفسية الملحة، ويقوم الأنا الأعلى بهذا المنع متعاوناً في ذلك مع ما في المجتمع من تقاليد ومثل وآداب، ومقاوماً ما في المجتمع من مثيرات ومغريات.

ويقوم الأنا الأعلى بإشعار الذات بحقارتها لمجرد إحساسها إحساساً خفياً بالرغبة في تحقيق دوافعها المختلفة وهذا قد يفسر ما يسمى الشعور بالإثم أو الشعور بالخطيئة.

ولهذا كله كانت مهمة الأنا أن يحصل على حالة اتزان بين مجموعات القوى الثلاث، ولذا فهو يسمح لبعض الرغبات بالتنفيذ ويقاوم البعض الآخر بناء على فهمه للواقع وحدوده. والأنا، قبل أن يسمح لأمثال هذه النـزعات بالتعبير عن نفسها، لا بد له أن يقدّر النتائج التي تترتب على هذا التعبير وأثر ذلك في عالم الواقع، وهكذا نرى أن الأنا يهمل هذه الدوافع حتى يأتي الوقت المناسب لإشباعها، وقد يضطرها إلى التنازل عن بغيتها نظير مقابل، أو تعديلها على الأقل حتى تتوافق مع العالم الخارجي، أو تعديله حتى يتوافق معها.

فعلى الأنا أن تعبر عن نـزعاتها ودوافعها الغريزية تعبيراً يتفق مع ما في المجتمع من تقاليد ونظم بشرط أن لا يثير سخط الأنا الأعلى. فإن أراد المرء أن يعبر عن نـزعاته الجنسية مثلاً فعليه أن يفعل ذلك في الحدود التي يعترف بها المجتمع بقوانينه وشرائعه وتقاليده بصورة لا تثير في الإنسان تأنيباً داخلياً أو شعوراً بالخطيئة والإثم.

ولا يستطيع "الأنا" أن يقوم بهذا الدور إلا إذا كانت لديه القوة الكافية للتحكم في رغبات "الهو" حينئذ يسير الجهاز النفسي سيراً طبيعياً دون أن يتعرض للخطر، أما إذا كان الأنا ضعيفاً فلن يستطيع أن يوفق بين رغبات "الهو" وبين عالم الواقع، أي أنه لن يستطيع أن يتحكم في الشهوات والنـزعات المكبوتة فيعمد إلى إجراء لا شعوري هو "كبت" رغبات "الهو" إذ يعجز عن إشباعها على نحو يتفق مع مطالب الواقع، ومن هنا تنعزل الرغبات المكبوتة في الأعماق اللاشعورية للنفس حيث تعمل على الانتقام لنفسها، وتتفاعل وتتصارع مع "الأنا" ويتكون عن طريق هذا التفاعل وذلك الصراع ما نسميه "بالعقد النفسية".

ومع الصراع بين "الأنا والهو" ينشب صراع آخر بين "الأنا والأنا الأعلى" وقد سبق القول أن الأنا الأعلى ينشأ نتيجة اتصال "الأنا" بالتعاليم والأديان والنظم والمثل العليا، وأنه "ذات مثالية" وأنه رقيب على "الأنا" يحاسبه على كل صغيرة وكبيرة، فالأنا الأعلى أو كما يسميه علماء النفس أيضاً "الضمير اللا شعوري" إذا لاحظ شذوذا ً في تصرف الأنا، أو أنه آتى ما ينافي الآداب والأخلاق فإنه يصب عليه التقريع واللوم والعقاب وكثيراً ما يوقفه عند حده قبل أن يرتكب ما يشتط في أحكامه على "الأنا" إذا كان على جانب كبير من القوة، فيظهر عمل "الأنا" البريء بمظهر المجرم العظيم.

وهنا تظهر نتائج هذا الصراع النفسي الرهيب في صور شتى.

الصورة الأولى من صور الصراع النفسي- الشعور بالقلق:

ويظهر هذا الشعور في عدم الاستقرار والارتعاش، وقضم أظافر اليد، وامتصاص الأصابع، وكثرة الحركة، وكثرة الشكوى، وسرعة الاستثارة.

وليس أدل على صدق هذه الصورة من ذلك الحديث الذي دار بين كاتب كبير وصديقه وقد جاء هذا الحديث كما يلي:

قال: ماذا ترى في الحياة؟

قلت: كما تراها.....

قال: لم تجب....

قلت: لا أستطيع أن أجيب. إن لكل إنسان فلسفته، منهجه. أترى حياتي هي حياتك؟ هل تستطيع أن تقيس الأمور بالمقياس الذي أقيسها به؟

قال: إن ثقافتنا واحدة... تعلَّمْنا في معاهد واحدة. عشنا فترة طويلة معاً. ألا ترى هذا كافياً حتى يقرب ما بين مناهجنا في الحياة؟

قلت: ليس كافياً، لأنني أنا... ولأنك أنت.

سكتتُ برهة، وأحسستُ كأنه يسرح بخاطره بعيداً عني... ثم قال: ما هي القيم الأخلاقية والاجتماعية والدينية؟... وأحسَّ أنه أسرفَ فتوقّفَ لحظة ثم استطرد: وعلى الجملة ما هي القيم التي تحكم الحياة؟ مم نشأت؟ من نفوسنا؟ من المجتمع؟ من وراثاتنا؟ من أهوائنا؟ من تعليمنا؟ من الأوساط التي عشنا فيها؟

قلت: من هذا كله.....

قال: اسمع... لقد قمت بتجربة... إنني لا أفهم الحياة، لا أدرك على التحديد هدفها، ومع ذلك فإنني أتحرك فيها بقيود لا حصر لها... قلت في نفسي: لماذا لا أجرب الانطلاق.. الانطلاق المسعور.... لماذا لا أتحلل فترة من الوقت من كل القيود؟

إنني أخاف.... أحاذر، أقلق... أحسب لكل شيء ألف حساب... لا أحب أن أُغضب أحداً، كما لا أحب أن أُغضب المجتمع أو الناس.... كل هذه الأشياء تخيفني، لأنني أعتقد أن عقابها لا قبل لي على تحمله... أرأيت كيف يعيش الإنسان في خوف من شبح يطارده ويقف في وجهه بالليل والنهار... كذلك كنتُ أنا... ما هو العلاج حتى نتخلص من هذا الشبح... أن تمسك سكيناً وتغمدها في صدره، لكي تقيس قوتك بقوته، فإما غاصت السكين وتبين أن الشبح خرافة، تهاوى أمامك وانتهى أمره، وإما عرفت فعلاً أنه أقوى منك ولا سبيل لك عليه...

لست أدري إذا كان تفكيري واضحاً أمامك أم لا... الحب مثلاً شيء جميل، ولكني لم أحصل عليه، أو حصلت عليه ثم تبين أنه شيء تافه... إنه قيمة من القيم الكبرى في الحياة... ماذا لو عبثتُ به وسخرت منه وبددته واسترحت من خياله أو من وهمه المقدس... السمعة الحسنة في المجتمع شيء عظيم أيضاً. وقيد عظيم أيضاً.. ماذا لو حطمت هذا القيد، واستهنت به ومرغته في التراب.. ترى ماذا تكون النتيجة؟ إنني أعرفها بالوهم، بالسماع، بالتخيل، بالقراءة، ولكن هذه جميعاً لا تكفي، أريد أن أعرفها بالواقع، بالتجربة الشخصية.

السُّكْر شيء كريه... لم أقرب الخمر، كنت أهابها، أهرب منها، لأن الأمثلة أمامي كثيرة، ولكن هل من المحتم أن ما حصل لغيري لا بد أن يحصل لي أيضاً؟... لأجرب بنفسي... إنني أريد أن أحطم هذا القيد.

خطيئة الجسد شيء خطير جداً، هكذا قرأتُ وفهمت ووعيت أنها تقف أمامي كالغول، لا بد أن أغمد السيف فيها بنفسي فإما قتلتها وبددتها من طريقي، واندفعت محرراً من هذا القيد وإما عدت إلى تزمتي وآثرت هذا القيد عن فهم ورضا.

هل فهمت؟ قد تقول إن عقلي اختلط، أو أن ضيقي بالحياة بلغ مداه... استمع إلى النهاية.

بدأت التجربة... سكرتُ، لعبتُ الميسر... عبثتُ بكل المقدسات التي يدين بها المجتمع.. سخرتُ من الحب والاستقامة السمعة الحسنة.. شعرتُ أنني حطمتُ كل القيود وانطلقتُ.. عشتُ سنة كاملة على هواي أنا.. لم أشعر أبداً، أو بتعبير أدق تحديتُ كل قيد.

وعند هذا الحد توقف قليلاً.. تأملتُ وجهه فإذا العرق يتصبّبُ منه قلت: هل أنت متعب؟

قال: كلا ولكنني مضطرب... أنا قلق.

قلت: مضطرب وقلق... حسبتُ أن التجربة التي قمت بها منحتك الهدوء الذي تنشده.

قال: لا تقاطعني.. لا تتعجل. لست أحب منك هذه السخرية.

قلت: سخرية... لم يخطر ببالي.

قال: أنا أعرفك أكثر من نفسك.. إن الإنسان لا يعرف نفسه تماماً.. الآخرون يرونها خيراً مما يراها.

قلت: أنا إذن أعرفك أكثر مما تعرف نفسك.

قال: ومن أجل هذا تضايقت من ملاحظتك للعرق المتصبب من جبيني.

قلت: استمر.

قال: لم أعد في حاجة إلى الاستمرار.. ألا ترى الحصان الذي دخل ميدان السباق، وانتهى شوطه؟ أنا هو!!

قلت ضاحكاً: مثل الحصان؟...

قال: ليس عندي استعداد للضحك، قل ما يعجبك.. إنني أتصبب عرقاً، لأنني تعبت من التجربة، كان الشوط طويلاً وأصبحت في حاجة إلى الراحة.

سألته: راحة من الانطلاق؟

قال: نعم راحة من الانطلاق.

قلت: أصبحت تحن إلى القيود.

سكت ولم يجب، ولكنني أحسست أسى مراً يطوف بوجهه الأسيف، ثم قال: نعم... من عجب أن أمرنا في الحياة هكذا.. لا الانطلاق يسعدنا ولا القيود تسعدنا... ولكنني أشعر الآن بفيض كبير من السعادة لأني تخلصت من تجربتي المجنونة.

هذه صورة صادقة للقلق الناتج عن الصراع النفسي تجسم لنا الإنسان في صراعه بين دوافعه، ومثله العليا، بين رغباته المنحرفة والقيم الدينية والاجتماعية التي تحيط به وترينا في وضوح أن الإنسان إذا سعى إلى التحرر من قيود الدين والمجتمع والمثل العليا فإنه بغير شك سيسقط فريسة للقلق والاضطراب فلا يجد في تحرره سعادة نفسه.

وقديماً حاول ملك حكيم أن يجد السعادة في إشباع دوافعه ونـزعاته بلا قيد ولا شرط ولكنه في النهاية وقع فريسة للصراع النفسي، واتجه في صراعه اتجاهاً تشاؤمياً تبدى في ثنايا سِفْرِه الجليل المسمى "سفر الجامعة".

إصغ إلى ذلك الملك وهو يحدثك عن محاولاته للحصول على السعادة عن طريق التحرر من القيود وإشباع كافة الدوافع. إنه يقول "قلت أنا في قلبي هلم أمتحنك بالفرح فترى خيراً". ثم يستطرد فيحدّثنا عن الوسائل التي اتبعها للحصول على هذا الفرح المنشود.

إنه جرب الضحك:

أجل حاول سليمان الملك أن يجد سعادته في الضحك ولعله جعل شعاره ذلك الشعار المعروف "اضحك يضحك لك العالم"، لكنه بعد أن ضحك واهتز من كثرة الضحك أحس بالكآبة الخرساء تخيم على حياته في الداخل فردد قوله المشهور "أيضاً في الضحك يكتئب القلب وعاقبة الفرح حزن" أم 14: 13، بل زاد على ذلك قائلاً "الحزن خير من الضحك لأنه بكآبة الوجه يصلح القلب" جا 7: 3 ووصل إلى نتيجته المعروفة "للضحك قلت مجنون وللفرح ماذا يفعل" جا 2: 2.

إنه جرب الخمر:

الآن استمع إلى حديثه "افتكرت في قلبي أن أعلل جسدي بالخمر وقلبي يلهج بالحكمة وأن آخذ بالحماقة حتى أرى ما هو الخير لبني البشر حتى يفعلوه تحت السموات مدة أيام حياتهم" جا 2: 3.

ولكنه بعد أن ارتشف كؤوس الخمر حتى ثمل، أفاق لنفسه وقرر هذا القرار الحكيم "لمن الويل لمن الشقاء لمن المخاصمات لمن الكرب لمن الجروح بلا سبب ازمهرار العينين. للذين يدمنون الخمر الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج. لا تنظر إلى الخمر إذا احمرت حبابها في الكأس وساغت مرقوقة. في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان. عيناك تنظران الأجنبيات وقلبك ينطق بأمور ملتوية. وتكون كمضطجع في قلب البحر أو كمضطجع على رأس سارية. يقول ضربوني ولم أتوجع. لقد لكأوني ولم أعرف متى أستيقظ أعود أطلبها بعد" أم 29- 35 وهكذا قرر الملك فشل الخمر في منحه السعادة المنشودة.

ثم جرب إشباع دافع الامتلاك:

إسمعه وهو يصور لنا محاولته بأسلوبه "فعظمت عملي. بنيت لنفسي بيوتاً غرست لنفسي كروماً. عملت لنفسي جنات وفراديس وغرست فيها أشجاراً من كل نوع ثمر. عملت لنفسي برك مياه لتسقى بها المغارس المنبتة للشجر. قنيت عبيداً وجواري وكان لي ولدان البيت. وكانت لي أيضاً قنية بقر وغنم أكثر من جميع الذين كانوا في أورشليم قبلي. جمعت لنفسي أيضاً فضة وذهباً وخصوصيات الملوك والبلدان" جا 2: 4- 8. فهل شبع الملك الباحث عن السعادة بهذا كله؟ هل أبهجته حدائقه الغناء، وأسعدت قلبه مناظر الجنات التي تجري فيها المياه؟ كلا! إنه يردد بعد أن قام بكل هذا الجهد العظيم كلماته المليئة بالكآبة والتعاسة "ثم التفت أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي وإلى التعب الذي تعبته في عمله فإذا الكل باطل وقبض الريح ولا منفعة تحت الشمس" جا 2: 11.

ثم انجرف في طريق الشهوات والملذات الحسية:

لقد أراد أن يجرب الانطلاق من القيود، أن يمتع نفسه بكل شيء في هذا الوجود عله يجد في ذلك سعادة نفسه.. ها هو يحدثنا عن اختباره في الكلمات "اتخذت لنفسي مغنين ومغنيات وتنعمات بني البشر سيدة وسيدات فعظمت وازددت أكثر من جميع الذين كانوا قبلي في أورشليم وبقيت أيضاً حكمتي معي. ومهما اشتهته عيناي لم أمسكه عنهما لم أمنع قلبي من كل فرح" جا 2: 8- 10؟

وتعال لتقرأ معي عن طعام هذا الملك الحكيم "وكان طعام سليمان لليوم الواحد ثلاثين كر سميذ وستين كر دقيق. وعشرة ثيران مسمنة وعشرين ثوراً من المراعي ومئة خروف ما عدا الأيائل والظباء واليحامير والإوز المسمن" 1مل 4: 22و 23.

فهل تجد في أرضنا إنساناً استمتع بما استمتع به سليمان؟! تعال معي لترى كيف اندهشت ملكة سبأ من نظام بيته "وسمعت ملكة سبأ بخبر سليمان لمجد الرب فأتت لتمتحنه بمسائل. فأتت إلى أورشليم بموكب عظيم جداً بجمال حاملة أطياباً وذهباً كثيراً جداً وحجارة كريمة وأتت إلى سليمان وكلمته بكل ما كان بقلبها. فأخبرها سليمان بكل كلامها. لم يكن أمراً مخفياً عن الملك لم يخبرها به. فلما رأت ملكة سبأ كل حكمة سليمان والبيت الذي بناه وطعام مائدته ومجلس عبيده وموقف خدامه وملابسهم وسقاته ومحرقاته التي كان يصعدها في بيت الرب لم يبق فيها روح بعد. فقالت للملك صحيح كان الخبر الذي سمعته في أرضي عن أمورك وعن حكمتك. ولم أصدق الأخبار حتى جئت وأبصرت عيناي فهوذا النصف لم أخبر به. زدت حكمة وصلاحاً على الخبر الذي سمعته" 1 مل 10: 1- 7.

لقد عاش سليمان في رفاهية لا نظير لها، ولم يمنع نفسه من الاستمتاع بكل ما تقع عليه عيناه "وكانت له سبع مئة من النساء السيدات وثلاث مئة من السراري" 1 مل 11: 3.

ولكن انطلاقة هذا الرجل، أوجدت في نفسه صراعاً نفسياً دفعه إلى النـزعة التشاؤمية التي نلمسها بصورة واضحة في سفر الجامعة وها هو يسجل قراره الأخير بعد أن اختبر كل ما الحياة في الكلمات "فكرهت الحياة لأنه رديء عندي العمل الذي عمل تحت الشمس لأن الكل باطل وقبض الريح فكرهت كل تعبي الذي تعبت فيه تحت الشمس" جا 2: 11و 18.

وحتى بعد أن جرب طريق العلم والفلسفة ظل على تشاؤمه ومرارة قلبه فكتب يقول "أنا ناجيت قلبي قائلاً ها أنا قد عظمت وازددت حكمة أكثر من كل من كان قبلي على أورشليم وقد رأى قلبي كثيراً من الحكمة والمعرفة. ووجهت قلبي لمعرفة الحكمة ولمعرفة الحماقة والجهل، فعرفت أن هذا أيضاً قبض الريح. لأن في كثرة الحكمة كثرة الغم والذي يزيد علماً يزيد حزناً" جا 1: 16- 18.

وهكذا يظهر التشاؤم، ونغمة الحزن والكآبة في حديث رجل وقع تحت سيطرة صراع نفسي، ولولا حكمة الله التي معه، ولولا مواعيد الله له، ولولا أن الله جعله مثلاً على الزمن لمن يريد أن يختبر الحياة لتحطمت حياته وضاع في معركته مع نفسه.

الصورة الثانية من صور الصراع النفسي- العدوان:

وهذه الحالة تصاحب حالات القلق الشديد إذ تبدو رغبة الفرد في القيام بسلوك عدواني يأخذ أشكالاً مختلفة من تخريب وإتلاف واعتداء بالأيدي والأقدام، وقد يعتدي الفرد على مصدر الإحباط كما يضرب الطفل زميله الذي سرق لعبته، أو يتحول العدوان إلى شيء آخر أو شخص آخر لا صلة له بمصدر الإحباط، كما يعتدي الزوج على زوجته لأن رئيسه في العمل قد آذاه واستبد به مع أن زوجته المسكينة لا دخل لها في هذا الإيذاء.

وفي حياة "لورد بايرون" الشاعر الانجليزي الماجن، نرى صورة للصراع النفسي الفظيع الذي كان يتأجج في جوانب نفسه وكيف أن هذا الصراع دفعه إلى الإساءة إلى زوجته اللطيفة الجميلة المتدينة لا لسبب إلا أنه يرى في وجهها الملائكي البريء ما يذكره بآثامه وشروره ومعاصيه.

كان "بايرون" آية من آيات الجمال، شعره الذهبي الصقيل ينهدل في خصلات متموجة فوق جبينه، وعيناه الرماديتان تتحركان بين أهداب طويلة غزيرة، شفتاه قرمزيتان، وأنفه دقيق حاد، لكنه ولد بقدم معوجة كان لها أكبر الأثر في حياته كلها. ونشأ عن تلك العاهة عرج ملحوظ في سيره.

ولم تغدق الأم على ذلك الابن المسكين عطفها ورعايتها، بل دفعتها ظروفها الصعبة إلى أن تكون حياتها سلسلة غضبات جنونية تتعالى خلالها صرخات يسمعها السائرون في الطريق. ثم يتبع ذلك تحطيم الصحون وتمزيق الثياب، وذاق بايرون الصغير الأمرين، وتفتحت عيناه على مشاجرات حامية الوطيس، وبدل قبلات الأم الناعمة قاسى الكلمات الخشنة الموجعة. ومنذ طفولته انصب في أذنيه سيل الإهانات الجارحة التي تكمن في القلوب فلا تستطيع الأيام محوها.

وكبر بايرون. وكتب ديواناً من الشعر أقبل الناس على قراءته، واشتروا مئات النسخ منه. وتألق اسمه فجأة في سماء الشهرة وأصبح لورد بايرون موضوع حديث الناس وسعى الكل إلى معرفته، وفتحت أبواب القصور أمامه، وخضعت النساء لسحر جماله. فقال جملته المأثورة "استيقظت ذات صباح فوجدت نفسي شهيراً".

ولكن الشهرة، وما سبقها من نقد وُجه إلى شخصه من أحد الصحفيين، وغير ذلك من الظروف الصعبة التي أحاطت به جعلته يصبح إنساناً قاسي القلب، ميت العاطفة والإحساس.

ثم جاءت قصة زواجه من "أنابيلا ميلبانكي" الابنة الوحيدة لسير رالف ميلبانكي شقيق ليدي ملبورن، وقد نشأت هذه الفتاة بين أيد قوية حكيمة فنالت قسطاً عظيماً من الثقافة، وتشبعت بالمبادئ المسيحية السامية، واشتهرت بين الناس بالتقوى والحكمة والهدوء، هذا مع جمال أخاذ وهبها الله إياه.

وهكذا تبدأ قصة هذا الزواج.

في اليوم الخامس والعشرين من شهر مارس 1812، حضرت أنابيلا حفلة راقصة في بيت قريبة لها تدعى "كارولين" كانت على صلة آثمة بالشاعر بايرون، ووجدت "أنابيلا" أن الجو الذي يسود المكان لا يناسب خلقها الهادئ، ولا يتفق مع تدينها، فجلست عن كثب ترقب الجميع. وفجأة دخل بايرون فأحاطت به السيدات وتهافتن على خطب وده والتقرب إليه، فلما جاء دور أنابيلا رفضت التعارف به خشية أن تنضم إلى زمرة المعجبات... ثم حدث أن قابلته بعد بضعة أيام فوجدته خجولاً، وتبادلا الحديث، فكان أول ما قاله أن أبدى دهشته الشديدة من أن تقبل "أنابيلا" الاتصال بمجتمع كهذا "لا يقوى فرد فيه على مواجهة ضميره أو مناقشته الحساب". ولم تمضِ دقائق قليلة حتى فتح لها قلبه وحدّثها بآلامه، وبكراهيته لمثل هذه المجتمعات، وحبه للهدوء والوحدة. وأعجبها حديثه وتبينت فيه شخصاً آخر يختلف تمام الاختلاف عما سمعته من قبل، وانتهى الأمر عند هذا الحد. وعادت "أنابيلا" إلى الريف الوديع لتستأنف حياتها الساكنة، ولكنها لم تنْسَهُ. فلما كتبت بضع قصائد صغيرة أرسلتْها إلى قريبتها "كارولين" وطلبتْ منها أن تستطلع رأي الشاعر الجميل فيما نظمته وكانت الإجابة لبايرون "إن أنابيلا فتاة ممتازة، فمن كان يظن أن مظهرها الهادئ يخفي قوة كهذه، وتنوعاً في التفكير، ولكنني لا أريد أن أستزيد من معرفتها، فهي أسمى من أن تتصل بشخص ضالّ مثلي، ولو كانت أقل كمالاً مما هي عليه لأعجبتني كثيراً".

ومرت الأيام... وفكر بايرون في الزواج لكي يضع حداً لعلاقته الآثمة "بكارولين"، وطلب يد "أنابيلا" التي رفضت في أول الأمر محكّمةً عقلَها لما كانت تسمعه عن مجونه وآثامه. ثم خيل إليها أنها وصلت إلى موطن الداء في ذلك الشاعر الآثم الفاجر، وعزَتْ أخطاءَه جميعاً إلى سوء تربيته الأولى، وأقنعت نفسها أن شروره ما هي إلا قشرة زائفة تخفي تحتها صفات نبيلة طيبة، وأن بايرون ليس سوى ملاك ضل السبيل وعليها أن تنقذه من ضلاله فترد إليه إيمانه بقوة تقواها، وتشفي جروح قلبه بحبها، أو تزيل عنه بإخلاصها تلك القشرة التي كونتها الأيام السوداء. وبدافع أملها الخادع بدأت تراسله فارتفعت الكلفة بينهما. فتقدم ثانية إليها وفي هذه المرة قبلت الزواج منه دون تردد. ولكن الشاعر الماجن أساء إلى عروسه الطيبة المتدينة من أول لحظة، وبدت مشاعره العدوانية تظهر حين ركبا العربة التي سارت بهما إلى رحلة شهر العسل، فما كادت العربة تسير حتى انفجر بايرون ضاحكاً وقال لعروسه في سخرية لاذعة: "لقد ذهبت ضحية خيالك وأوهامك! أتظنين- وأنت على هذا الذكاء- أن في استطاعة امرأة أن تصلحني؟ يكفي أن تكوني زوجتي لأكرهك، ولو كنت زوجة آخر لأعجبتِني أكثر!" ثم تمهل قليلاً واستطرد "ستعرفين أنك اقترنت بشيطان مريد".

ونـزلت أقواله على قلبها الحار نـزول الصقيع، وتحطمت كبرياؤها، ومرت أيام شهر العسل في مرارة قاسية، وخيم على العروسين حزن واكتئاب، ورأت من أخلاق زوجها عجباً، تارة يثور فيصب على رأسها جام غضبه، وتارة أخرى يهدأ فيعطف عليها ويطلب منها الصفح والغفران، وما تكاد تُسعد بعطفه لحظة حتى ينقلب وحشاً كاسراً، وفي خلال غضباته يحدّثها بأمور جديدة عليها فيرتعد قلبها المؤمن الطاهر من مجرد سماعها، ويرى بعينه الثاقبة مظاهر إيمانها، فيثور ويحاول أن يحطمه، وفي المساء يجلس معها الساعات الطوال، يقنعها بوجهة نظره في الأديان، ويردد على أسماعها ما تلقاه في اسكتلندا على يد باترسون وماي جراي.

ودخلت الشكوك إلى قلب أنابيلا، في أن هناك علاقة محرمة بين بايرون وبين أخته أوجستا، فقد كان بايرون يدافع عن العلاقة المحرمة بكل قواه، وفي الليل كانت أنابيلا ترى من أحواله عجباً، فالهواجس تطارد نومه، والأرق يلازمه، فينهض من فراشه، ليتفقد غدّارته وخنجره، ثم يجول في البيت وحيداً، ليعود إليها عند مطلع الفجر.

وتملّك أنابيلا الرعب الشديد، فانكبّت على الكتاب المقدس تقرؤه كل ليلة لتعيد آياته هدوء قلبها المفقود.

ونـزلا في لندن، وسكنا في بيت أنيق في شارع بيكاديلي. وتطلبت الحياة الجديدة نفقات كثيرة، فتراكمت على بايرون الديون. واشترى بايرون نصيباً في مسرح "دروري لين" وبذلك دخل عضواً في مجلس إدارته. ومهّد له المركز الجديد فرصة الاتصال بالممثلات، فانغمس في الملاذ مرة أخرى ليهرب من شبح الخطيئة الذي يطارده دائماً. وعندما يعود من سهراته كل ليلة ويرى وجه أنابيلا يمتلئ بالتقوى، والصبر، والحزن، يتحرك ضميره من مرقده، فيثور على نفسه، ويصب جام غضبه على رأس من تحرك ذلك الضمير في هدوء وسكون، على زوجته الطيبة أنابيلا. وهكذا يدفعه الصراع النفسي الذي يدور داخله إلى هذا التصرف القاسي الشاذ.... وكم من زوجات بريئات عفيفات طاهرات يتألمن من معاملة أزواجهن القاسية الفظيعة لا لسبب إلا لأن وجوههن المليئة بالطهارة، وتصرفاتهن الخالية من اللوم تثير صراعاً نفسياً رهيباً في نفوس أزواجهن، فيدفعهن هذا الصراع إلى العدوان الرهيب على زوجاتهم المخلصات. لأنهم لا يعرفون كيف يوفقون بين ضرورة الإخلاص لزوجاتهم وبين رغباتهم الشريرة الفاسدة.

الصورة الثالثة من صور الصراع النفسي- الاستكانة:

إن الإحباط الذي يستجيب له أغلب الناس بالعدوان قد يؤدي ببعض الأفراد إلى نوع من الجمود والبلادة وعدم الاكتراث وانعدام النشاط، وعدم الانتباه، إذ يجد المرء أن المقاومة لا تجدي فيعمد إلى الانسلاخ من الموقف واصطناع نوع من الغباء بدلاً من الالتجاء إلى الغضب والمهاجمة. ويدل الجمود والبلادة على أن الفرد قد تمكن من ضبط ميوله العدوانية ولكن هذا لا يعني أن الرغبة العدائية المستترة قد انعدمت أو تلاشت.

الصورة الرابعة من صور الصراع النفسي- الالتجاء إلى عالم الأوهام والخيال:

يلجأ الفرد إلى عالم الخيال والأوهام إذا تكاثرت عليه المشاكل فيبدأ في البحث عن مهرب منها في عالم الخيال والوهم لا في عالم الحقيقة الذي فشل فيه، وليس هذا النوع من السلوك قاصراً على الأطفال، فإن صور الممثلات الجميلات المعلقة على جدران المعسكرات لأظهر دليل على أن الجنود عز عليهم إشباع رغباتهم في عالم الحقيقة فراحوا يلتمسون ذلك في عالم الخيال.

كذلك أُجريت تجارب على نفس المجموعة من الجنود وقت كان يطبق عليهم نظام تغذية المجاعات فتبين أنهم فقدوا اهتمامهم بالنساء أو أنهم عمدوا إلى صور الأغذية الشهية المطهية ينتزعونها من المجلات ويعلقونها على الجدران.

إن الصراع النفسي هو سبب قوي من أسباب الأمراض النفسية والعصبية التي تصيب الكثيرين.

هذا يأتي بنا إلى سبب ثالث من أسباب الأمراض النفسية وهو الإحساس بالخطيئة: ينشأ الشعور بالذنب من التربية الخاطئة المبنية على غير قواعد الشرف والصحة، والتي أساسها "التخويف" المجرد من الإقناع، والنتيجة الحتمية للتربية الخاطئة هي أن يسلك الشاب سلوكاً مقلوباً وطرقاًَ ملتوية في إشباع الغريزة الجنسية، أو يرتكب خطية النجاسة في السر، أو ينحرف مع العادة السرية التي تستنـزف الكثير من قواه، ثم يستيقظ ضميره ليصليه بنار اللوم والتأنيب، ويقوي هذا الندم فيه ويكون عنده ما يسمى "بالإحساس بالخطيئة" أو "الشعور بالذنب" وهذا الشعور من شأنه أن يقتل روح الفرد، ويهدم كيانه ويصيبه بالانهيار العصبي.

ويقول "و. ج. مكبريد" مؤلف كتاب "الخوف": إن الشعور الخفي بالذنب هو سبب الهم، وما يشبهه من حالات التبرم، أو المخاوف اللا إرادية، والمرء الذي تثقل ضميره بالذنوب يعيش في حالة متصلة من الحيرة والقلق.

والإحساس بالذنب قد يكون شعورياً، وقد يكون لا شعورياً، فقد ينشأ عن عمل شرير إجرامي يكون الفرد شديد التنبه له، وهذا التنبه المباشر هو الذي يجعله خائفاً من ضميره ومن القانون على السواء.

ومن الناحية الأخرى قد يكون الإحساس بالخطيئة إحساساً لا شعورياً غامضاً توجد جذوره في عمل محرم من أعمال الطفولة يكون قد كون في العقل الباطن عقدة الشعور بالذنب.

وعقدة الشعور بالذنب تخلق في الإنسان إحساساً بالتوتر، والصراع، والتنافر، والذلة أمام الآخرين في أغلب الأحيان.

ولقد قص علينا العلامة شتيكل في مؤلفه "فن العلاج النفسي التحليلي" حالة مريض كان سر مرضه نـزعة لا شعورية يكنها المريض في قرارة نفسه تدور حول قتل زوجته، وتتلخص الحالة فيما يلي.

"المريض رجل يبلغ من العمر 45 عاماً يشكو من نوبات ربو ثقيلة الوطأة، قدم إلى "فينا" ليعرض نفسه خصيصاً على الأستاذ شتيكل، وعلى أثر وصوله لفينا، انتابته نوبة ربو قاسية حال نـزوله بالفندق، فاستدعى شتيكل ليعوده في غرفته، فلما ذهب إليه وجده يعاني حشرجة نوبة شديدة كادت تزهق أنفاسه، وبمجرد أن رأى المريض شتيكل طلب منه أن يحضر له إسطوانة غاز الأكسجين لمساعدته على التنفس ولكن شتيكل أفهمه أنه لا حاجة له بها إذ لا خطر على حياته البتة من هذه النوبات وكل ما هو مطلوب منه في الوقت الحاضر أن يجعل حركات التنفس من شهيق إلى زفير هادئة منتظمة، ثم أخذ شتيكل يتنفس أمامه ليضرب له المثل طالباً منه أن يقتدي به ويقلده، وأفهمه أنه بذلك ستنفرج أزمته ويصبح تنفسه مريحاً لدرجة محسوسة تمكنه من الحضور بلا عناء إلى عيادته في اليوم التالي، فأجابه المريض بأن ذلك من رابع المستحيلات لأن نوبات الربو التي اعتادت أن تنتابه تمكث لديه مدة طويلة لا تقل عن أربعة أيام، ولكن شتيكل أصر على وجوب حضوره إليه إذ ليس من عادته أن يزور المرضى في منازلهم. وأكد له أن نوبة الربو في هذه المرة لن تمكث لديه أكثر من يوم واحد، وأنه لن يجد حاجة إلى استدعاء طبيب أو لأخذ حقنة ضد الربو، وكل ما هو مطلوب منه هو أن يكون هادئ البال حتى تمر النوبة بسلام.

وقال العلامة شتيكل: "وقد لاحظتُ على وجه المريض إمارات الاستغراب والتشكك في صدق ما أقول ولكن على الرغم من ذلك فإنه استطاع الحضور إلى عيادتي، وكانت حالته على خير ما يرام، ولا عيب في تنفسه إلا مجرد أزيز خفيف لم يعقه عن الكلام". فقص على شتيكل تاريخ مرضه ومختلف العلاجات الطبية التي جربها بلا جدوى. واستمرت عمليات التحليل النفسي ثلاثة أيام، كان المريض خلالها يعاني كابوس أحلام ثقيلة الوطأة، فكان يرى نفسه في الرؤيا كمن يحمل أثقالاً أو صندوقاً ضخماً يحاول أن يصعد به جبلاً، أو يحاول أن يدرك قطاراً وهو مثقل بالأحمال والأمتعة الكبيرة فيفوته القطار، وهكذا. وبالجملة فإن أحلامه كانت تدور حول عبء ثقيل يحمله مما يدل على أنه يعاني في قرارة نفسه شعوراً قوياً بإثم أو جرم أثقل كاهله.

وقد ظلت عملية التحليل بضعة أيام في ركود حيث كانت خواطر المريض وذكرياته في نضوب تام، فتحمل الأستاذ شتيكل الموقف السلبي من جانب المريض ولكن إلى حين وفي النهاية صارح مريضه بأنه إن لم يفتح مغاليق قلبه ويبوح له بما يضمره في نفسه من أسرار، فإنه سيضطر إلى نبذ حالته والتنحي عن معالجته، وأكد له المريض أنه ذكر له كل ما لديه دون أن يخفي عنه شيئاً، ولكن شتيكل بين له أنه لا يصدقه، وعندئذ بدت على المريض دلائل التأثر النفسي والانفعال، ثم أخذ يجهش بالبكاء واستمر يبكي بمرارة نحو نصف ساعة، حتى قارب أن يحل الموعد المضروب للزائر التالي الذي كان منتظراً دوره في غرفة الاستقبال، ولكن العلامة شتيكل رأى أن لا يضيع هذه الفرصة السانحة وأرسل لذلك الزائر يعتذر عن مقابلته لانشغاله بحالة طارئة وضرب له موعداً آخر. وقال شتيكل تعليقاً على هذا التصرف من جانبه، أن من الخطأ البين أن يدع المحلل مثل هذه الفرصة الفذة تفلت من بين يديه، فيصرف المريض من أمامه لمجرد انقضاء ميعاد جلسته وهو على حافة الاعتراف، على أن يعود في فرصة أخرى يحتمل معها أن يتغير موقفه، ففي مثل هذه الحالات المستعجلة يتعين على المحلل النفسي أن يكون صديقاً ومنقذاً للمريض فيقدر أهمية الأزمة النفسية التي يجتازها حق قدرها ولو ضحى في سبيل ذلك بشيء من وقت المرضى ممن هم أقل حاجة واضطراراً إلى عملية الإنقاذ من تلك الحالة الفذة المستعجلة التي تحت يده والتي يخشى عليها من فوات الوقت.

ثم استطرد العلامة شتيكل يقول أن المحلل المحنك يعرف بفضل طول خبرته أن أغلب المرضى النفسيين يرجئون أهم اعترافاتهم وأخطرها شأناً إلى اللحظات الأخيرة عندما يقترب موعد انصرافهم.

فلما انقشعت نوبة البكاء أخذ المريض يفيض في ذكر متاعبه وآلامه النفسية، ويكشف لمحلله القناع عن ذلك السر الرهيب الذي يطويه في صدره، وهو يتلخص في أنه متزوج للمرة الثانية، وأن زوجته الحالية هي أخت زوجته الأولى المتوفاة، وكانت له علاقات غرامية حال حياة زوجته السابقة وقد أصيبت هذه الزوجة قبل وفاتها بنوبة التهاب رئوي حاد ظلت معها خمسة أيام وقد ارتفعت حرارتها خلالها ارتفاعاً كبيراً، مع عسر شديد في التنفس دعا إلى استخدام الأوكسجين، فكان عليه أن يقوم بإعطائها أنبوبة الأوكسجين من فمها، وفي فترة من الفترات خطر بباله أن زوجته لو توفيت فإنه يصبح في حل من التزوج بأختها الصغرى التي تعلق قلبه بها، وبينما هذا الخاطر يجول برأسه، عرته هزة اضطراب نفسي ارتبكت معها يده الممسكة بجهاز غاز الأوكسجين فلم تحكم استخدامه مما أدى إلى إفلات الغاز وتسربه إلى الخارج حتى نضبت الاسطوانة دون أن تستنشق زوجته منه قطرة واحدة، ولما تبين ما صنعت يده خرج مهرولاً قاصداً الذهاب ليحضر أسطوانة أخرى، ولكنه عوضاً عن ذلك وجد نفسه قد ذهب إلى منـزل الدكتور الذي جاء حضوره بعد فوات الأوان حيث كانت زوجته في دور الاحتضار.

وأول نوبة ربو انتابته كانت في ذكرى مرور العام الأول على وفاة زوجته، فلما عرض نفسه على الطبيب عزا النوبة إلى فعل البرد، لأنه قضى في ذلك اليوم ساعات طويلة في البكاء على قبر زوجته في طقس شديد البرودة.

هذه هي حكاية المريض التي كانت جاثمة على صدره كالكابوس الثقيل، وقد كشف التحليل عن تقمصه في شخص زوجته المتوفاة إلى درجة أنه أحضر بمنـزله جهازاً للأوكسجين المضغوط ليستعمله كلما انتابته نوبات الربو.

وعلى أثر اعترافه المتقدم وإفصاحه عن السر الدفين الذي كان مصراً على كتمانه، وتحطيم المقاومة التي كان يبديها في بدء العلاج، أصبحت طريق التحليل سهلة واضحة.

ولا يغرب عن البال أنه قال أن لا تخلو حالة من حالات المرض النفسي ن عنصر المقاومة القائمة على تعمد الكتمان، وإن نجاح العلاج يتوقف على النجاح في رفع حواجز المقاومة وإقناع المريض بالكلام والإعراب عما يكنه في صدره من الأسرار.

وفي السجل المقدس نجد صورة للإحساس بالخطيئة، في المزمور السادس، إذ نجد هناك تصويراً رائعاً لحالة داود وهو يحس بإثمه، ويشعر بثقل جريمته، فيقول وكأنه ينطق بمرثاة أليمة "يا رب لا توبخني بغضبك ولا تؤدبني بغيظك. ارحمني يا رب لأني ضعيف. اشفني يا رب لأن عظامي قد رجفت. ونفسي قد ارتاعت جداً وأنت يا رب فحتى متى. عد يا رب. نجّ نفسي خلصني من أجل رحمتك. لأنه ليس في الموت ذكرك في الهاوية من يحمدك. تعبت في تنهدي. أعوم في كل ليلة سريري بدموعي أذوب فراشي. ساخت من الغم عيني. شاخت من كل مضايقي" مز 6: 1- 7.

وأي تصوير أقوى وأكثر تأثيراً من هذا التصوير، لإنسان أثقله الإحساس بخطيته، وملأه الخوف من تأديب الله الشديد له، فتوسل إليه أن لا يوبخه ولا يؤدبه بغيظه، وزاد إحساسه بجرمه فانتقل من دائرة جسده فارتجفت عظامه، ثم ملأ الخوف نفسه من جديد حتى ردد كلماته الحزينة "نفسي قد ارتاعت جداً" وانتقل الشعور من نفسه إلى عينيه ففاضت دموعه مدراراً حتى أذابت فراشه، وساخت من الغم عينه.

وفي المزمور الثاني والثلاثين نرى تأثير الإحساس بالخطيئة في كلمات داود حين يقول "طوبى لرجل لا يحسب له الرب خطية ولا في روحه غش. لما سكت بلت عظامي من زفيري اليوم كله. لأن يدك ثقلت على نهاراً وليلاً. تحولت رطوبتي إلى يبوسة القيظ. أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت أعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي" مز 32: 1- 5.

والآيات الرائعة ترينا إنساناً سيطر عليه الإحساس بالخطيئة، يحس الألم في عظامه مع أن الألم الحقيقي في نفسه، ويحس اليبوسة في حلقه، مع أن الجفاف الحقيقي في قلبه، إنه يبدو مجهداً، مريضاً، قلقاً، خائفاً... لأنه يشعر بثقل خطيته، وعظم إثمه، ولا يجد راحة من هذه الحالة المريرة إلا بالاعتراف لإلهه ها هو يناجيه ويناديه "أعترف لك بخطيتي ولا أكتم إثمي. قلت اعترف للرب بذنبي وأنت رفعت آثام خطيتي".

وفي المزمور الثامن والثلاثين يعود داود فيصور لنا صورة أخرى للإحساس بالذنب إذ يكتب قائلاً "يا رب لا توبخني بسخطك ولا تؤدبني بغيظك. لأن سهامك قد انتشبت في ونـزلت على يدك. ليست في جسدي صحة من جهة غضبك. ليست في عظامي سلامة من جهة خطيتي لأن آثامي قد طمت فوق رأسي. كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل. قد أنتنت قاحت حبر ضربي من جهة حماقتي. لويت انحنيت إلى الغاية. اليوم كله ذهبت حزيناً. لأن خاصرتيّ قد امتلأتا احتراقاً وليست في جسدي صحة. خدرت وانسحقت إلى الغاية. كنت أئن من زفير قلبي" مز 38: 1- 7.

فيالرهبة وفظاعة الشعور بالإثم حين يسيطر على الفرد، فلا يعرف الطريق الصحيح للغفران، هذا الطريق الذي رسمته المسيحية بحروف من الدم القاني الذي سكبه المسيح المجيد على صليب الجلجثة وقال فيه رسول الأمم بعد أن اختبر قوته "الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا حسب عنى نعمته" أفسس 1: 7.

إنه طريق سهل واضح- يبدأ بالاعتراف لله بالخطية كما يقول يوحنا الرسول "إن قلنا إنه ليس لنا خطية نضل أنفسنا وليس الحق فينا إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" 1 يو 8 و 9.

ففي الاعتراف الشخصي لله راحة القلب المتعب، فهو "أمين" لا يفشي أسرار من يعترف له، وهو بكل يقين أفضل من أي محلل نفسي لأنه "يعرف خفيات القلب" مز 44: 21.

وقد قال عنه موسى "قد جعلت آثامنا أمامك خفياتنا في ضوء وجهك" مز 90: 8، وهو مع هذا كله عادل أخذ عقاب خطايانا في صليب المسيح... وإن اعترفنا له بخطايانا يريحنا من عذاب الإحساس بها، ويغفرها لنا، ويطهرنا من كل إثم.

لذلك قال صاحب الأمثال "من يكتم خطاياه لا ينجح ومن يقر بها ويتركها يرحم" أم 28: 13. فهل اختبرت أيها المتعب المثقل في صراعك النفسي المرير قوة الدم الغافرة. المطهرة ، المحررة؟

وهل ترغب من قلبك أن تعرف طريق النصرة الواضح الصحيح.

هيا إلى شخص الفادي المحب الحنون الكريم، واسمعه وهو يناديك، وينادي أمثالك من المتعبين المثقلين "تعالوا إلي يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم. احملوا نيري عليكم وتعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب فتجدوا راحة لنفوسكم" مت 11: 28. واستمع إلى ذلك المرنم وهو يردد كلماته الحلوة في أذنيك.

 

هل أتعبتك أثقال الآثام سلم قلبك للمسيح
هل ابتغيت حياة السلام سلم قلبك للمسيح
هيا انـزع الشـك الآن واقبــله بلا توان
فتنعـم بالغفــران سلم قلبك للمسيح
  • عدد الزيارات: 56241