الفصل الحادي عشر: ماذا يعني أن تكون مسيحياً
لقد كتبت هذا الفصل خصيصاً للذين فتحوا باب قلوبهم ونفوسهم ليسوع المسيح.. الذين سلموا أنفسهم له.. الذين بدأوا الحياة المسيحية، ولكن أن تصير مسيحياً شيء، وأن تكون مسيحياً شيء آخر، وها نحن نقتصر في حديثنا هنا عن: "ماذا يعني أن تكون مسيحياً؟"
لقد أخذت خطوة بسيطة ودعوت المسيح لكي يدخل مخلصاً لك ورباً، ولكن الله آنئذ صنع معجزة عظيمة إذ أعطاك حياة جديدة وولدت من فوق ودخلت ضمن عائلة الله وأصبحت ابناً لله.. ربما لم تشعر بأي تغيير عظيم عند ولادتك الروحية كما لم تشعر بشيء طبعاً عند ولادتك الجسدية، ومع ذلك فإنك عندما ولدت جسدياً صرت شخصية جديدة مستقلة، هكذا لما ولدت ثانية من فوق أصبحت روحياً خليقة جديدة في المسيح.
ولكن (ربما يخطر لك على بال): أليس الله أباً لجميع الناس؟ أليس جميع الناس أولاد الله؟. كلا! فإن الكتاب المقدس يميّز بوضوح وصراحة بين أبوة الله العامة التي تمتد إلى جميع الذين خلقهم وصنعهم وبين أبوته الخاصة المحدودة وهي تختص بالذين ولدهم ثانية في المسيح. إن الله خالق الجميع، ولكنه آب فقط لأولئك الذين قبلوا يسوع مخلصاً لهم. ويوضح الرسول يوحنا ذلك في بداءة إنجيله بقوله: "جاء (أي يسوع) إلى خاصته، وخاصته لم تقبله وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنون باسمه. الذين ولدوا.. من الله" (يوحنا 1: 11 – 13) وهذه العبارات الثلاث وأعني بها: "الذين قبلوه" و "المؤمنون باسمه" و "الذين ولدوا من الله" والذين ولدوا من الله هم أولئك الذين قبلوا المسيح في حياتهم والذين آمنوا باسمه.
فإذا أردنا إذاً أن نفهم ماذا يعني أن تكون مسيحياً – كما يعلمنا الكتاب المقدس – فعلينا أن نعرف امتيازات أولاد الله ومسؤولياتهم.
1ـ امتيازات أولاد الله
إن الامتياز العظيم والفريد من نوعه لأولاد الله الذين وُلدوا من الله، هو أنهم ينتسبون إلى الله.. ودعونا نتأمل هذه العلاقة.
1ـ أنها علاقة وثيقة:
رأينا فيما سلف كيف انفصلنا عن الله، فقد أبعدتنا خطايانا عنه وصارت فاصلة بيننا وبينه، ولكن هذا الفاصل قد تلاشى بعد أن كانت الخطايا أشبه بالغيوم التي تحجب نور وجهه أما الآن فقد انقشعت الغيوم وأشرقت الشمس.. ويمكننا أن نستخدم تشبيهاً آخر ورد كثيراً في رسائل بولس الرسول بأننا كنا تحت الدينونة العادلة لديان كل الأرض، ولكن الآن قد تبررنا في المسيح يسوع (الذي حمل إدانتنا والذي فيه اتحدنا بالإيمان).. أي أننا صرنا مقبولين لدى الله وأصبحنا أبراراً، وقد أصبح الدّيان أباً لنا.
"انظروا أية محبة أعطانا الآب حتى ندعى أولاد الله" (1 يوحنا 3: 1) "الآب" و "الابن" هما اللقبان المميزان اللذان أعطاهما المسيح لله ولنفسه؛ وهما اللقبان اللذان يسمح لنا باستخدامهما.. وبالاتحاد معه، يخوّل لنا أن نشاركه علاقته الوثيقة بالآب، ولقد أوضح أسقف قرطاجنة في منتصف القرن الثالث الميلادي في نبذته المسماة: "الصلاة الربانية" أوضح امتيازنا بقوله: "ما أعظم تسامح الرب! ما أعظم تنازله، وما أعظم جوده نحونا، كما يبدو من رغبته لنا في أن نصلي أمام لله بطريقة بها ندعوه "الله الآب" وأن ندعو أنفسنا "أولاد الله" كما أن المسيح هو ابن الله، الاسم الذي لم يكن أحد منا يتجاسر أن ينطق به في صلاة، لو لم يسمح لنا هو باستخدامه في صلواتنا".
والآن، أخيراً، نستطيع أن نتلو الصلاة الربانية بدون رياء فقد كانت قبلاً كلمات خرقاء جوفاء، أما الآن فإنها فياضة بالمعاني السامية الجديدة، وحقاً أن الله هو أبونا في السماوات الذي يعرف ما نحتاج إليه قبل أن نسأله، وهو الذي يعطي لأولاده عطايا جيدة (متى 6: 32، 7: 11) وقد تدعوه الضرورة إلى تأديبنا وإخلاصنا "لأن الذي يحبه الرب يؤدبه ويجلد كل ابن يسر به" (عبرانيين 12: 6، قابل أمثال 3: 12) ولكن مما يطمئننا هو أن عصا التأديب في يد الآب المحب، ولا شك أننا مع مثل هذا الآب الرحيم والحكيم القوي نتخلص من كل مخاوفنا.
2ـ علاقة أكيدة:
إن علاقة المسيحي بالله مثل علاقة الابن بأبيه أي أنها ليست علاقة وثيقة فحسب، بل أيضاً علاقة أكيدة فكيف نعرف أنها توطدت؟ إن عدداً كبيراً من الناس يعيشون في الآمال، وهم يرجون الأفضل ولكن هل يمكن التأكد من ذلك؟ نعم لأنها إرادة الله المعلنة لنا. فينبغي أن نتأكد من علاقتنا بالله، ليس فقط حباً في راحة الفكر وروح مساعدة الآخرين، ولكن لأن الله يريدنا أن نكون متأكدين، ويصرح يوحنا الرسول بأن هذه كانت غايته في كتابة رسالته الأولى، كما يقول: "كتبت هذا إليكم أنتم المؤمنين باسم ابن الله لكي تعلموا أن لكم حياة أبدية" (1 يوحنا 5: 13).
إلا أن الطريقة للتأكد، ليست أن نشعر بالتأكيد، فإن معظم المسيحيين الحديثي الإيمان، يقعون في هذه الغلطة في بدء حياتهم المسيحية، إذ يعولون كثيراً على احساساتهم السطحية الخارجية ففي يوم يشعرون بقربهم لله وفي يوم آخر يشعرون أنهم غرباء عنه وبعيدون ثانية، ويظنون أن مشاعرهم وأحاسيسهم تعبّر تعبيراً صادقاً عن حالتهم الروحية ولذلك يقعون في حالة مرعبة من عدم التأكد وتصبح حياتهم المسيحية كأنها أرجوحة ترتفع بهم تارة إلى أعلى عليين من السمو وتهبط بهم طوراً إلى أعماق الانقباض والكآبة، وليس هذا بالأمر المستحب، ويجب أن يتعلم الإنسان عدم الاستسلام لأحاسيسه ومشاعره لأنها تتغير وتتبدل مع تغير الأحوال وتبدل الصحة ونحن خلائق متقلبون في طبائعنا وميولنا وليس هناك من علاقة بين إحساساتنا المتقلبة وتقدمنا الروحي.
إن مشاعرنا لم تكن أساساً لمعرفتنا بأننا في علاقة مع الله، ولكن الأساس الصحيح هو ما قاله لنا بهذا الصدد، فالمحك الذي نطبعه على أنفسنا يأتي من الخارج وليس من الداخل، ولسنا في حاجة أن نبحث في داخلنا عن دليل الحياة الروحية، بل لنمد أبصارنا إلى فوق وإلى الفضاء، إلى الله وإلى كلمته، ولكن أين نجد كلمة الله التي تؤكد لنا بأننا أولاده؟
(أ) كلمة الله مكتوبة في كتبنا المقدسة:
إن الله يعد في كلمته المكتوبة، أن يعطي حياة أبدية لجميع الذين قبلوا المسيح "وهذه هي الشهادة أن الله أعطانا حياة أبدية وهذه الحياة هي في ابنه. من له الابن له الحياة. ومن ليس له ابن الله فليست له الحياة" (1 يوحنا 5: 11، 12) ولا يعتبر حدساً وغطرسة، أن نؤمن متواضعين بأن لنا حياة أبدية، بل بالعكس فإن الإيمان بكلمة الله هو التواضع لا الكبرياء، والحكمة وليست الغطرسة، وأن الشك هو عين الغباء والخطية لأنه يقول: "من لا يصدق الله فقد جعله كاذباً لأنه لم يؤمن بالشهادة التي شهدها الله عن ابنه" (ا يوحنا 5: 10) والكتاب مليء بمواعيد الله التي لا يألو المسيحيون المعقولون جهداً في حفظها واستيعابها في الذاكرة فإذا ما أصابه سوء وسقط في هوة الانقباض والشك يتمسك بحبال مواعيد الله.. وهاكم بعض الوعود التي تستحق الحفظ (يوحنا 6: 37، 10: 28 ، 1 كورنثوس 10: 13 ، عبرانيين 13: 5، 6 ، أشعيا 41: 10 ، يعقوب 1: 5 ، 1 يوحنا 1: 9).
(ب) كلمة الله مسموعة في قلوبنا:
اسمع هذه الأقوال: "لأن محبة الله قد انسكبت في قلوبنا بالروح القدس المعطى لنا" وأيضاً "عندما نصرخ يا أبا الآب.. فإن الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله" (رومية 5: 5، 8: 15، 16) ويعرف كل مسيحي معنى هذه، فإن شهادة الروح القدس في الخارج – كما تعلمنا الكتب المقدسة – تثبتها وتؤيدها شهادة الروح القدس في الداخل في اختبارنا، ولا أقصد بذلك أن نولي أية ثقة لإحساسنا السطحي ولكن أن ننتظر اقتناعاً عميقاً في قلوبنا حينما يؤكد لنا الروح القدس محبة الله ويدفعنا لأن نصرخ قائلين: "أبانا" ونحن نطلب وجه الله في الصلاة.
(ت) كلمة الله تظهر في حياتنا:
إن الروح الذي يشهد في الكتاب المقدس وفي الاختبار بأننا أولاد الله، يتمم شهادته بحياتنا وسلوكنا، فإن كنا قد ولدنا من فوق في عائلة الله فإن روح الله يسكن فينا، وسرعان ما يسكن فينا حتى يبدأ عمله في تغيير حياتنا ومنهاجها، ويستعمل يوحنا الرسول هذا المحك، فالإنسان الذي لا يطيع وصايا الله ويهمل واجباته نحو إخوانه ورفاقه لا يعتبر مسيحياً مهما كانت وظيفته، وإن العلامات المميزة لأولاد الله هي قداسة الحياة والمحبة العملية للقريب لا سيما للإخوة المسيحيين.
3ـ علاقة مضمونة:
لنفرض أننا دخلنا في العلاقة الوثيقة مع الله وتأكدنا منها بواسطة كلمة الله، فهل هي علاقة مضمونة، أم هل ممكن أن نولد في أسرة الله بعض الوقت، ونُرفَض منها في وقت آخر؟ إن الكتاب يؤكد لنا أنها علاقة دائمة، فيقول بولس الرسول: "فإن كنا أبناء فنحن ورثة أيضاً ووارثون مع المسيح" (رومية 8: 17) ورب سائل يقول: "ولكن ماذا يحدث حين أخطىء؟ ألا أزيف بنوتي وأتوقف عن أن أكون ابناً لله؟. كلا.. ويمكنك أن تفكر فيما يماثل ذلك في الأسرة البشرية، لنفرض أن شاباً تنكر لوالديه وأخذ يقسو عليهما حتى خيّمت على البيت سحابة من التوتر، فيمتنع الأب والابن عن الكلام مع بعضهما البعض فماذا يحدث؟ هل يكفّ الولد عن أن يكون ابناً؟ كلا.. فإن علاقتهما لم تتغير ولكن شركتهما هي التي فسدت فالعلاقة تتوقف على الولادة، بينما تتوقف الشركة على التصرف والسلوك، فسرعان ما يعتذر الشاب حتى يصفح عنه الأب فيستعيد الصفح الشركة وفي نفس الوقت تبقى علاقته كما هي فإن بدا الولد متمرداً أو عقوقاً، لكنه سيبقى ابناً لا يتغير.
وهكذا هو الحال مع أولاد الله، فعندما نخطىء لا نقطع أو نخسر علاقتنا معه كأولاد، مع أن شركتنا معه تفسد إلى أن نعترف بخطايانا ونتوب عنها، وحالما نعترف بخطايانا "فإنه أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم" (1 يوحنا 1: 9) "وإن أخطأ أحد فلنا شفيع عند الآب يسوع المسيح البار وهو كفارة لخطايانا.." (1 يوحنا 2: 1، 2) فعندما تسقط في الخطية اركع على ركبتيك واطلب باتضاع غفران أبيك في الحال واجتهد أن تحفظ ضميرك بلا عثرة أمام الله والناس.
وبعبارة أخرى يمكننا أن نتبرر مرة، ولكن نحتاج إلى غفران كل يوم، وعندما غسل المسيح أرجل التلاميذ أوضح لهم ذلك تماماً.. سأله بطرس أن يغسل يديه ورأسه كما يغسل قدميه، ولكن يسوع أجاب "الذي قد اغتسل ليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه بل هو طاهر كله" وإذا دُعي إنسان إلى وليمة عشاء في أورشليم، كان يغتسل قبل الذهاب إلى الوليمة، كما كانت العادة آنذاك، وعندما يصل إلى بيت صاحبه لا يحتاج إلى اغتسال آخر ولكن خادماً يلاقيه عند الباب ويغسل رجليه، وهكذا عندما نأتي إلى المسيح في توبة وإيمان نحن نقبل "الاغتسال" (الذي هو التبرير والذي يرمز إليه ظاهرياً بالمعمودية) ولا حاجة أبداً إلى تكرارها ولكن ونحن سائرون في الشوارع المليئة بالأقذار في هذا العالم نحتاج دوماً إلى غسل أرجلنا (أي الغفران اليومي).
2ـ مسؤوليات أولاد الله
يا له من امتياز عظيم عجيب أن تكون ابناً لله، إلا أن هذه البنوّة تتضمن التزامات أيضاً، ويقول الرسول بطرس "وكأطفال مولودين الآن اشتهوا اللبن العقلي العديم الغش لكي تنموا به" (1 بطرس 2: 2) وإن امتياز الابن لله هو صلة انتسابه كما أن مسؤوليته العظيمة هي النمو ولئن أحب كل إنسان الأطفال، لكن ما من عاقل يتمنى أن يظل في دور المهد والطفولة، وإنها لمأساة أن كثيرين من المسيحيين ممن ولدوا في المسيح لا ينمون.. بينما البعض يعاني من تضعضع الروح وتقهقره، ومن ناحية أخرى فإن قصد أبينا السماوي بأن "الأطفال في المسيح" يُحضرون إلى "إنسان كامل في المسيح" (1 كورنثوس 3: 1، كولوسي 1: 28) إذ يجب أن يتبع ولادتنا نمو وأن يقودنا التبرير الذي هو قبولنا قدام الله إلى عملية التقديس أي نمونا في القداسة.
هناك دائرتان رئيسيتان لنمو المسيحي، أولاهما هي دائرة الفهم وثانيتهما هي دائرة القداسة، فعندما يبدأ المسيحي حياته المسيحية تكون معرفته عادة قليلة محصورة ولم يعرف إلا القليل عن الله، ونرى لزاماً عليه أن ينمو في معرفة الله ومعرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح (كولوسي 1: 10، 2 بطرس 3: 18) وهي معرفة عقلية جزئياً كما أنها شخصية.. وللازدياد في المعرفة العقلية يقتضي لا أن نقرأ الكتاب المقدس فقط بل الكتب المسيحية السليمة، وإن إهمال النمو في الفهم هو بمثابة التعرض للرزايا واللعب بالنار، وكم في الطريق المسيحي من قتلى الجهل وعدم الفهم.
كما يلزم أن ننمو في القداسة في الحياة، ويتحدث كتبة العهد الجديد عن نمو إيماننا بالله ومحبتنا للناس، وتشابهنا للمسيح وكل واحد من أولاد الله يشتاق أن يكون مشابهاً أكثر فأكثر في أخلاقه وسلوكه وتصرفاته لابن الله الوحيد نفسه، فالحياة المسيحية حياة البر، ويجب أن نسعى لإطاعة وصية الله وعمل إرادة الله، وقد أُعطي لنا الروح القدس لهذه الغاية، وقد جعل أجسادنا هياكل لسكناه، وبقدر ما نسمح له أن يملأنا بقوته فإنه يخضع ويزيل رغائبنا الشريرة ويجعل أثماره تظهر فينا وهي: "محبة فرح سلام طول أناة لطف صلاح إيمان وداعة تعطف" (غلاطية 5: 16، 22، 23).
ولكن كيف ننمو؟ ما هي أسرار النجاح؟
هناك ثلاث مسؤوليات عظمى تقع على كاهل أولاد الله وهي:
1ـ واجبنا نحو الله:
مع أن صلتنا وانتسابنا للأب السماوي مضمونة مأمونة لكنها ليست مستقرة ثابتة، فإنه يطلب من أولاده أن ينمو في معرفته أكثر فأكثر، فقد اكتشفت أجيال المسيحيين بأن الطريق الوحيد إلى ذلك هو تعيين وقت خاص نصرفه أمام الله كل يوم وعساه ما يسميه البعض "تأملات هادئة" وهو أول شيء نقوم به في الصباح، وآخر شيء نعمله في المساء. وهي ضرورة لازمة لكل مسيحي يرغب في التقدم والنمو.. ومع أن أشغالنا كثيرة في هذا العصر إلا أنه يجب إعادة ترتيبها بحسب الأفضلية والأهمية بدرجة معها نعطي وقتاً لتأملاتنا الروحية، وهذا يعني التدقيق في تدريب النفس وترويضها وإن كتاباً مقدساً جميلاً وساعة منبه نستعين بها لتقودنا إلى طريق النصرة والنجاح.
وتشمل فترة الهدوء المنظمة قراءة الكتاب المقدس والصلاة وأقول قراءة الكتاب لأن الله يتكلم لنا فيه.. وأقول الصلاة لأننا بها نتكلم نحن مع الله، ومن الأهمية بمكان أن نقرأ الكتاب قراءة منتظمة، وهناك طرق كثيرة لقراءته منها أن نصلي قبل أن نقرأه طالبين من الروح القدس أن يفتح أبصارنا وبصائرنا، ثم أن نقرأ بعد ذلك ببطء وتأمل وتفكير.. اقرأ النص ثم أعد قراءته وتعلم كيف تصول وتجول في مراعي كلمة الله! كافح وصارع معها حتى تستوعب معناها! وقد يحتاج الأمر إلى ضرورة الاستعانة ببعض الترجمات أو التفاسير للكتاب، ومن ثم طبق على نفسك وظروفك، الرسالة التي جاءت في الأعداد التي قرأتها.. ابحث عن الوعود التي تتمسك بها وعن الوصايا التي يجب أن تطيعها وعن المُثل التي تتبعها وعن الخطايا التي ينبغي تجنبها.. ومما يساعدك على هذا أن تمسك بدفتر وقلم لتكتب ما تتعلمه في وقته وفوق الكل فتش عن الرب يسوع المسيح فهو الموضوع الرئيسي في الكتاب، فلا يكفي أن نجده معلناً هناك بل يجب أن نقابله شخصياً ونحن نقلب صفحات الكتاب.
وبديهي أن تأتي الصلاة بعد قراءة الكتاب أيضاً، وابدأها بالكلام مع الله عن نفس الموضوع الذي كلمك الله عنه! لا تغيّر الحديث، فإن كان قد كلمك عن شخصه ومجده، فاعبده وتمسك به وإن كان قد حدثك عن شخصك وخطاياك، فاعترف بها وارجع عنها.. اشكره من أجل أي – أو كلّ – بركة أعلنها لك في الجزء الذي قرأته، ثم صلِّ أن يعلمّك وأصحابك الدروس التي فيه! وعندما تصلي طالباً بركة الرب على الفصول الكتابية التي قرأتها، تجد نفسك مشتاقاً أن تتبعها بصلوات أخرى، وإذا كان كتابك المقدس هو معينك الأول في الصلاة، فإن مذكراتك وملاحظاتك اليومية معينك الثاني، وعليك أن تسلمه في الصباح كل أعمالك اليومية، وتراجع في المساء معه كل ما تم أثناء النهار معترفاً بخطاياك التي ارتكبتها، شاكراً من أجل البركات التي أخذتها، مصلياً من أجل الناس الذين قابلتهم.. واعلم أن الله هو أبوك فكن طبيعياً معه، واثقاً منه جريئاً أمامه، إنه يلتذ بكل شيء عن حياتك كبيراً كان أم صغيراً، ولن يمضي وقت طويل حتى ترى نفسك ملزماً أن تعمل لائحة بأسماء الأقارب والأصحاب الذين تحسب نفسك مسؤولاً عن الصلاة من أجلهم! ومن الحكمة أن تجعل هذه اللائحة مرنة يسهل زيادتها أو إنقاصها!
2ـ واجبنا نحو الكنيسة:
ليست الحياة المسيحية مراعاة مصالحنا الشخصية، فإن كنا قد ولدنا من فوق، ودخلنا ضمن أسرة الله فلن يكون الله أباً لنا فحسب ولكن يصير كل مؤمن مسيحي في العالم، مهما كان لونه أو جنسه أو مذهبه، أخاً أو أختاً لنا في المسيح.. ومن أهم أسماء المسيحيين وأعمقها في العهد الجديد، اسم "الأخوة".. يا له من حق مجيد! ولا فائدة في أن يظن أحد أن العضوية في كنيسة المسيح العامة كافية، بل يجب أن ننضم فعلاً إلى كنيسة معينة في البلد الذي فيه نقيم، وإن المكان لكل مسيحي هو أن يكون عضواً في كنيسته المحلية، يساهم في عبادتها وشركتها وشهادتها.. والمعمودية هي طريق الدخول إلى المجتمع المسيحي المنظور، وللمعمودية معانٍ أخرى أيضاً.. فإن كنت لم تتعمد بعد، أرجو أن تطلب من راعيك أن يعمدك، ثم اندمج في الشركة المسيحية حيث ترى الكثير هناك، مما يبدو غريباً عليك في أول الأمر، ولكن لا تقف متفرجاً بل واظب على حضور اجتماعات الكنيسة لأن هذا واجب مقدس، كما أن كل مذهب وكل كنيسة مسيحية تتفق على أن العشاء الرباني أو الشركة المقدسة خدمة رئيسية في الكنيسة لأننا بها نحيي موت مخلصنا في الشركة مع بعضنا البعض، وأرجو ألا يفهم من قولي أن الشركة هي مجرد حفلة في يوم الأحد، وقد أضيفت كلمة " فيلادلفيا" التي تعني "محبة الأخوة" من جديد في قاموس الأخوة المسيحية، وسيكتشف المسيحي أعماقاً جديدة في ميدان الأخوة المسيحية، حيث يكون ألصق أصدقاءه من المسيحيين، وفوق الكل يكون شريك الحياة مسيحياً أيضاً (2 كورنثوس 6: 14).
3ـ واجبنا نحو العالم:
إن الحياة المسيحية هي عمل عائلي، حيث يتمتع الأولاد بشركة حلوة مع أبيهم ومع بعضهم البعض، ولكن لا يخطر على البال أن هذا يخليهم من مسؤولياتهم، فما كان المسيحيون – ولن يكونوا – جماعة ممن يغترون في أنفسهم ويهتمون بمصالحهم النفسانية الذاتية وممن يهتمون بأمورهم الشخصية فقط، ولكن بالعكس، لأن كل مسيحي حقيقي يهتم في قرارة نفسه بأقرانه الذين هم خارج الكنيسة ويسميهم الكتاب "بالعالم" لأنهم لم يدخلوا بعد ضمن أسرة الله. وقد يدعوك الله إلى خدمة الإنجيل في بلادك أو يرسلك إلى حقل تبشيري.. ولا امتياز على الأرض أعظم من امتياز الخدمة.. فإن العالم متعطش إلى البشارة والكرازة.. وكم من ملايين من الناس لم يسمعوا بعد عن يسوع المسيح وعن خلاصه، وقد غطت الكنيسة في نوم عميق قروناً طويلة، فهل جاء الوقت لكي يستيقظ المسيحي ويربح العالم للمسيح؟ وربما يكون الله قد أعد لك عملاً خاصاً تعمله، فإن كنت طالباً تسير في غمرة الحياة نحو هدفك ومستقبلك، فمن الخطأ الفاحش أن تتسرع في شيء.. ولكن اطلب أولاً أن يكشف لك الله إرادته في حياتك ثم اخضع لها.
ومع أنه ليس بالطبع أن يُدعى كل مسيحي لكي يصير قسيساً أو مرسلاً، إلا أن الله يقصد أن يكون كل مسيحي شاهداً ليسوع المسيح وأن عليه مسؤولية خطيرة في السعي لربح النفوس، سواء أكان في بيته أم في كليته أم مع رفاقه أم في عمله! ولو أن المسيحي دمث الأخلاق كريم النفس أديب، ولكنه مستقر ثابت لا يتزعزع! وخير وسيلة تبدأ بها ربح النفوس هي الصلاة، فاطلب من الله أن يعطيك اهتماماً خاصاً بواحد أو اثنين من أصحابك، ومن الحكمة أن تحصر عملك في شخص أو اثنين من جنسك، ذكراً أم أنثى وفي مثل عمرك وصلِّ بانتظام وتحديد، لتغييرهما وتجديدهما مستفيداً بصداقتك لهما، ولا تبخل بوقتك عليهما وأحببهما من كل قلبك محبة خالصة.. وسيأتي الوقت الذي يمكنك فيه أن تصحبهما معك إلى خدمة أو اجتماع حيث يسمعان رسالة الإنجيل أو أن تعطيهما نبذات مسيحية للقراءة، أو أن تحدثهما ببساطة عما فعله يسوع من أجلك وعما تشعر به نحوه وكيف وجدته.. ولا حاجة لي إلى القول، إن أبلغ شهادة نؤديها، تصبح عديمة التأثير أو الفائدة، إذا ناقضتها حياتنا وقدوتنا، ولا شهادة أعمق أثراً وأبعد مدى من شهادة حياة جددها المسيح وغيَّرها.
هذه هي امتيازات ومسؤوليات أولاد الله الذين إذ يولدون ضمن الأسرة المقدسة أسرة الله، ويتمتعون بالآب السماوي في علاقة وثيقة وصلة متينة بكل تأكيد وضمان واطمئنان، يتدربون في ساعات تأملاتهم اليومية الهادئة، مخلصين في عضوية كنائسهم ونشيطين في سعيهم وجهادهم، جادّين في صلاتهم وشهادتهم الشخصية لربح نفوس أصدقائهم للمسيح..
ولكنهم يعرفون دائماً بأنهم ليسوا من هذا العالم، ومع أن عليهم كمواطنين مسيحيين، واجبات مقدسة نحو بلادهم وأوطانهم، فإنهم في الوقت نفسه غرباء ونزلاء على الأرض، سائحين وسائرين إلى البيت الأبدي في السماء، ولذلك لا تغمرهم المصالح الشخصية والمطامع العالمية والملذات الجسدية، كما لا تثقل كاهلهم التجارب والأحزان في الحياة الحاضرة، متذكرين بأننا "إن كنا نتألم مع المسيح فلكي نتمجد معه" (رومية 8: 17) وإن عيني المسيحي تتجهان دائماً نحو الأفق، منتظرة مجيء الرب الذي قال: "أنا آتي سريعاً" قائلة: "نعم تعال أيها الرب يسوع".
- عدد الزيارات: 10145