لماذا يتفوَّق بعض القادة؟ - الإبداع
الإبداع
أما المزيّة الثالثة التي يتفوَّق بها القواد فهي الإبداع. إنهم لا يخشون تجربة أشياء جديدة ومختلفة. وعندما تنظر إلى حياة الرسل لا تجد الرتابة التي تسيطر على الحياة في هذه الأيام. وهذا الفارق يعود إلى طبيعة الله التي تغاير الطبيعة الإنسانية.
ولكي نفسر هذا نقول أن الله هو إله تنوُّع ونظام بينما يحب الإنسان محاكاة غيره ولكن في فوضى. فالإنسان يجاهد ليكون كغيره. اذهب إلى أي مدينة وتطلَّع إلى المباني التي شيِّدت في عصرٍ ما فهي تبدو متشابهة. فالإنسان يجتهد في محاكاة أخيه الإنسان في كيف يتحدَّث وماذا يلبس أو يشتري. كما يمكن التعرُّف على الموسيقى بحسب العهود المختلفة إذ أن لها تشابهاً كبيراً.
كم نفرح إذ نرى الله يعمل بطريقة مختلفة. فهو يحب التنوُّع. أحس بالدهشة إذ أرى التنوُّع في حديقة الحيوانات. فالتمساح والزرافة والفيل تظهر حب الله للتنوُّع. الأزهار والطيور والأشجار تعلِّمنا الحقيقة ذاتها. يقول العلماء أنه لا يوجد ندفتان من الثلج متشابهتان. فعندما نفكر في كل هذا يتّضح لنا الفارق العظيم بين عملنا من أجل الله وبين أعمال الله نفسه. فإن أعمالنا تسير على وتيرة واحدة باهتة مملّة لسنة بعد أخرى. لا يزال، وللأسف، ينقصنا الإبداع والروح الخلاّق.
إن إبداع الرب ظهر لي بوضوح منذ وقت قريب وبطريقة ملحوظة ومدهشة وطريفة. كنت مع زوجتي في زيارة للإتحاد السوفييتي وبينما كنا نستعد للعودة كان علينا التوقيع على أوراق نتعهَّد بموجبها بأننا لن نخرج من روسيا أوراق نقد (روبل) وكان مصرَّحاً لنا بالاحتفاظ ببعض قطع النقد الصغيرة فقط على سبيل التذكار. أما الخروج من البلاد بأوراق نقد روسية فيعتبر جريمة يعاقب عليها القانون. وعليه فقد أبدلنا ما لدينا من روبلات بدولارات أميركية قبل التوقيع على ذاك التعهُّد. ثم جرى فحص جوازات السفر وجلسنا في المطار منتظرين إقلاع الطائرة لتخرج بنا إلى هلسنكي في فنلاندا.
اقترب بعد ذلك موعد سفر طائرتنا فدَعَوْنا لنقف في صف للتفتيش، وكان الأول سائحاً أميركياً ضخم الجثة. ففتشوا حقائبه ثم مرَّ أمام آلة كشف المعادن فرنّ جرس الآلة. فأفرغ جيوبه مما فيها ومرَّ ثانية أمام الآلة فرنَّ الجرس ثانية. ثم فك حزامه وحاول المرور وللمرة الثالثة رنَّ الجرس. وبدا عليه كأنه يتسلّى بذلك لدرجة أنه بدأ يقهقه ضاحكاً، وكان ضحكه مسموعاً في أرجاء المكان، وتكرر ذلك مراراً كما تكرَّر ضحكه.
وكنا حوالي أربعين شخصاً ننتظر دورنا في التفتيش بينما كان ذلك الأميركي الضحك ذو البنطال الضيق والقميص المفتوح يدور حول آلة كشف المعادن ويستمر رنين الجرس دون أن يعرف أحد السبب. وتضايق المفتِّشون بينما ضحك المسافرون، وكنا جميعاً في مأزق.
وفي خلال الفوضى كانت زوجتي واقفة، وهي التالية في الصف كي يفتِّشوا حقيبة يدها، دون أن تدري أن في قعر تلك الحقيبة كانت ثمانية روبلات روسية نسيت زوجتي أن تبدلها. لقد كانت على وشك أن يلقى القبض عليها وتعاقب بموجب القانون الروسي. ولكن المهزلة استمرت والرجل يدور والجرس يرن والجمع يضج بالضحك. تأخر إقلاع الطائرة دون أن يبدي الجمع أي اهتمام، فهم لم يروا من قبل شيئاً مماثلاً. بل كان ذلك أقرب إلى حفلة ترفيهية. وبالطبع لم يكن ذلك ليروق للمفتّشين، فالروس يعتبرون كثيراً قوانينهم وآلات التفتيش، التي أصبحت الآن سبباً لضحك سياح أميركيين.
وأخيراً قال المفتش بغضب "اذهبوا"، إذ لم يبقَ وقت لاستكمال التفتيش. وسارت زوجتي إلى الطائرة وهي تحمل في حقيبتها النقود الممنوعة. وصلنا هلسنكي فاكتشفنا تلك النقود وشعرنا بصدمة. عندئذ عرفنا لماذا كان جرس الآلة السوفييتية يظل يرنّ دون سبب ظاهر. لقد سمح الله بأن تعمل تلك الآلة بشكل مختلف ذلك اليوم لأنه أراد إنقاذ اثنين من أبنائه البسطاء من مأزق كانا على وشك الوقوع فيه. لقد عمل الله بطبيعته الخلاّقة المبدعة. ولا عجب فالإبداع هو جزء من كيانه.
كنت منذ وقت قصير أجلس في مكتب رئيس مجلس إدارة إحدى المؤسسات المسيحية، وكنا نتباحث في عمل الله حول العالم، فأراني رسالة وصلته حديثاً من أحد رجاله في حقل التبشير. كانت الرسالة مملوءة من الأخبار وتحتوي على كثير من التقارير المشجِّعة عن بركة الله في العمل. ولكن جملة واحدة في الرسالة كانت تزعج المدير والجملة تقول: "إننا لا نزال نتبع البرنامج ذاته الذي اتبعناه خلال السنوات الخمس الماضية ولا نزال نجني أفضل الثمار".
نظر الرئيس إليَّ وقال: "إذا كانوا اتّبعوا هذا البرنامج خلال السنوات الخمس الأخيرة، فمن الواضح أن العمل لم يتقدَّم. يجب أن تكون هناك طريقة أفضل وعليهم اكتشافها والعمل بها".
لقد فكرت طويلاً في هذا القول، وأنا الآن مقتنع بأن ذلك الرئيس كان على حق. لاشك أن هناك طريقة جديدة تأتي بنتائج أعظم من المؤكد أننا لم نعثر بعد على أحسن طريقة ممكنة ولكننا نسير في اتجاه الأحسن، لابد أن هناك مجالاً للتقدم وأنه لمن المؤكد أن الله يريد أن يكشف لنا عن تغيرات وتوجُّهات جديدة لحصاد عظيم في ملكوت الله.
إن الأسلوب الخلاّق الذي عمل به أولئك الرجال الأربعة المجهولون الذين أوصلوا صديقهم المفلوج إلى يسوع لا أزال أرى فيه تحدِّياً عظيماً. "وللوقت اجتمع كثيرون حتى لم يعد يسع ولا ما حول الباب. فكان يخاطبهم بالكلمة. وجاءوا إليه مقدّمين مفلوجاً يحمله أربعة. وإذ لم يقدروا أن يقتربوا إليه من أجل الجمع كشفوا السقف حيث كان، وبعدما نقبوه دلوا السرير الذي كان المفلوج مضطجعاً عليه. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: يا بُنيّ مغفورة لك خطاياك" (مرقس 2: 2- 5).
لدينا هنا أربعة رجال يواجهون مشكلة. فقد أرادوا حمل صديقهم المفلوج إلى يسوع ليشفيه لكن البيت الذي كان يسوع فيه كان مزدحماً جداً بالناس. لقد كان بإمكانهم القول: "نأسف يا صديقنا لأن ليس بإمكاننا عمل شيء لمساعدتك". ولكنهم لم يقولوا ذلك، فقد كان حبهم لصديقهم وشفقتهم عليه وتحمسهم للوصول به إلى يسوع داعياً لخطَّة إبداعية. فلقد ثقبوا فتحة في سطح البيت ودلّوا المفلوج من فوق. ماذا كان رأي يسوع؟ لم يقل لهم: "ما هذا التصرُّف؟ عملكم هذا لم يقم به إنسان من قبل. إنكم تشوشون الاجتماع وتقاطعون العظة، بل تعرّضون الحضور للخطر. فقد يسقط حجر على رأس أحد الناس". لم تُثْنهم صعوبة عن إتمام عملهم فامتدحهم يسوع، وسجّل ذلك الروح القدس من أجل تعليمنا.
كيف يمكنك العمل بروح الإبداع؟ إن الطريقة هي أن تحصر تفكيرك في نطاق الموضوع وأن تستمر في البحث عن طريقة أفضل. درِّب نفسك على أن تفكّر أن أية نظرية بعد نجاحها تصبح قديمة. فاحتفظ بذهن متوقّد وصلّ طالباً أن تُعطى الجسارة والشجاعة اللازمة لتجربة شيء جديد يلهمك به الله.
ولكن الشيء المهم والأساسي هو أن تحيا باستمرار في شركة حميمة مع يسوع المسيح. "فإنه فيه خلق الكل، ما في السموات وما في الأرض، ما يرى وما لا يرى، سواءً كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق" (كولوسي 1: 16). إن كل شيء في العالم الروحي غير المنظور خلق بواسطة يسوع المسيح، وكل شيء في العالم المادي المنظور خلق به أيضاً. ولذا يقول الكتاب المقدس عن المسيح أن الله به "عمل العالمين" (عبرانيين 1: 2). إن كلمة العالمين تشمل الكون كله ما يُرى منه وما لا يرى. هل تريد أن تكون خلاّقاً؟ إن عليك أن تُمضي وقتاً طويلاً في شركة مع الرب الذي هو الخالق الأعظم.
عندما سار يسوع في الأرض يعلم ويشفي المرضى أدهش جميع الذين التقى بهم. لقد وجدوه مختلفاً عن سواه من المعلّمين. قالوا عنه: "لم يتكلم قط إنسان هكذا مثل هذا الإنسان" (يوحنا 7: 46). رآه آخرون فتذمَّروا لأنه كان يعيش بطريقة مناهضة لتقاليدهم القديمة. ونحن الآن، أنت وأنا، ننظر إلى الماضي ونشكر الله لأجل حياة يسوع.
وطِبقاً لهذا النموذج إن علينا أن نحاول بكل قوانا كسر طوق التقاليد والخروج من القالب القديم. فعندما يرى الله أن لدى القائمين على عمله هذا الروح وهذه الرغبة فإنه سيمد إليهم يده بالبركة ويقول كما قال في الماضي "هأنذا صانعٌ أمراً جديداً" (أشعياء 43: 19).
هناك، إذن، ثلاثة أشياء يجب أن نسعى لنحصل عليها من الله. الأول هو روح التفوّق. والطريق لإكمال التفوّق بعد أن نتخذه مقياساً نسعى لبلوغه هو بأن نسلم أنفسنا للمسيح فنستريح بين يديه ونجعله يحيا حياته فينا. إنه الوحيد الذي عمل كل شيء حسناً. والشيء الثاني هو المبادرة. وهنا أيضاً يكون الرب نفسه مثلنا الأعظم. وإن أفضل طريق نسلكه فنلقي نجاحاً ونجني أكثر الثمر هو بأن نتعلم من الرب بينما نسعى لنعمل عمله. والثالث هو روح الإبداع. ومرة أخرى إن الشركة مع يسوع نفسه بقلوب مفتوحة هي خير سبيل نسلكه فتزداد في حياتنا روح الإبداع بمساعدة روح الله وتأييده.
- عدد الزيارات: 10948