Skip to main content

الفصل الأول: الله في اختبار الفرد

يبدأ المزمور الثالث والستون، وهو مزمور لداود لما كان في برية يهوذا بهذه الكلمات الجليلة "يا الله إلهي أنت. إليك أبكر. عطشت إليك نفسي يشتاق إليك جسدي في أرض ناشفة ويابسة بلا ماء" مزمور 63: 1

وبنفس الأسلوب يعبر المزمور الثاني والأربعون وهو قصيدة لبنى قورح عن ذات الإحساس، إحساس الاشتياق إلى الله فيقول "كما يشتاق الإيل إلى جداول المياه هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله. عطشت نفسي إلى الله إلى الإله الحي. متى أجئ وأتراءى قدام الله" مزمور 42: 1 و 2

وفي كلمات هذين المزمورين نجد نغمة واحدة تعزف على قيثارة القلب الإنساني عندما ينحني من الآلام وتحيط به ضيقات الحياة فتدفعه للإلتجاء إلى الله؟!

لكن هل هذا هو اختبار كل إنسان في هذا الوجود؟

في الواقع أن البشر ينقسمون في موقفهم تجاه الإيمان بالله إلى ثلاثة أنواع، نوع ينكر وجود الله، هؤلاء هم دعاة الإلحاد الذين يحتجون لدعوتهم بأدلة يحسبونها علمية حتى ليقول بعضهم: إن العلم والإيمان نقيضان لا يجتمعان. ونوع يؤمن بوجود الله على أساس التلقين، وأساس الشعور، أو أساس التعاليم التي يحفظونها دون تفكير وهذه أسس لا تصلح لبناء الإيمان السليم. أما النوع الثالث فهم أولئك الذين يؤمنون بالله على أساس من الفهم، والإدراك، لحقيقة الوحي وحقائق هذا الوجود، وهذا هو الإيمان الاختباري الذي يقي الإنسان الزلل في هذا العصر الذري، المادي، الشرير.

وفي هذا الفصل سوف نتحدث عن الله في وجوده الأزلي، وفي صلة هذا الوجود باختبار الفرد، والحديث عن الله هو أقدس حديث وأخطر حديث، ولكنه حديث ضروري جداً، فكم من مرات نسأل الآخرين أو نتساءل بيننا وبين أنفسنا قائلين: من هو الله؟ وماذا يشبه الله؟ وكيف نتيقن من وجود الله؟

وتلمع هذا الأسئلة في ذاكرتنا بصورة ملموسة عندما تنزل بنا نائبة من نوائب الدهر، أو يغزو أجسادنا مرض من الأمراض! وقد يتناسى الإنسان هذه الأسئلة في غمرة الحياة ومعركة العيش، لكنه يعود فيسمع من تحت صخب النهار، ومن بين الأصوات الصارخة في معركة الحياة، صوتاً خافتاً يحاول دائماً أن يصل إلى أذنيه، وخصوصاً عندما يتعب فيحتاج إلى القعود، أو عندما يأوى إلى ركن هادئ يجفف عن وجهه عرق الجهاد، أو عندما يجلس في هدأة الليل يرعى أشياء هذه السماء.

أجل! فعندما يرعى الإنسان السماء، يرعى نجومها، يرعى جلالها، يرعى جمالها، يزداد هذا الصوت الخافت في آذانه، ثم يزداد حتى يصير دوياً عالياً: هذه السماء ما هي؟ وهذه النجوم ما أعدادها؟ وما أبعادها؟ وما فتات من النور مبعثر في هذه القبة البلقاء بعثرة الرمال في الصحراء. وكيف تحور هذه القبة وكيف تدور؟ وما شروق لها وما غروب؟ وما هذه المواعيد التي تضربها فلا تخلف عنها أبداً؟ وعندئذٍ يقوده إمعان النظر، ورفع البصر، إلى أن يمعن الفكر، فيرد كل هذه المعاني وهذه الصور إلى ذلك الصانع الواحد:

إلى الله العزيز الحكيم ... فهذه يده ... وتلك إرادته وحكمته وقدرته. لكن بعض الذين طمست أبصارهم. وأظلت عيونهم لا يرون في هذا الوجود العجيب، وفي هذه الخليقة الرائعة يد الله، بل يدعون أنها الصدفة المحضة التي أوجدت ما يرون!!

ومع أن هذا الكتاب ليس كتاباً علمياً. لكننا سنحاول فيما يأتي من حديث أن نورد البراهين العلمية والفلسفية المؤكدة لحقيقة وجود الله، عسى أن تكون هذه البراهين واسطة في هداية نفس مخلصة إلى يقين الإيمان بالله.


البراهين العلمية والفلسفية على حقيقة وجود الله

في عام 1947 كتب أ. كريسي موريسون الرئيس السابق لأكاديمية العلوم بنيويورك كتاباً أسماه "الإنسان لا يقف وحده" وذكر المؤلف الأشهر في كتابه الثمين عدة أسباب لإيمانه الشخصي بالله نوردها في إيجاز وتركيز مع ذكر ما ينطبق عليها من آيات الكتاب المقدس البينات، ومع الجديد من المعلومات.

قال كريسي موريسون، أنا أؤمن بوجود الله على أساس سليم من البحث العلمي وأسجل فيما يلي أسباب هذا الإيمان.

1- أنا أؤمن بوجود الله، لأن الناموس الرياضي الذي لا يتبدل، والتناسق العجيب في عالمنا الفذ، والروعة الظاهرة في نظام الحياة تؤكد هذا الوجود:

إن الناموس الرياضي الذي لا يتبدل يؤكد في وضوح صريح بأن العالم لا يمكن أن يكون قد وجد بمجرد المصادفة ... خذ عشرة قروش وارقمها من واحد إلى عشرة ثم ضعها في جيبك واخلطها ما استطعت، ثم حاول أن تخرجها من جيبك دون أن تنظر بحسب ترتيب أرقامها: الأول أولاً والثاني ثانياً وهكذا، على أن تعيد كل قرش تخرجه من جيبك بعد إخراجه ثم تخلطها جميعاً وتخرج القرش الذي يليه، ونحن نعلم أن الاحتمال الرياضي لإخراج القرش الأول أولاً هو واحد من عشرة، ولإخراج القرشين الأول والثاني بهذا الترتيب هو واحد من مئة، ولإخراج القروش الثلاثة الأولى على التوالي هو واحد من ألف وهكذا، فالاحتمال الرياضي لإخراج القروش العشرة تباعاً من واحد إلى عشرة يبلغ رقماً لا يصدق يصل إلى نسبة واحد من عشرة ملايين، وهذا المثل الحسابي يبين كيف تتكاثر الأعداد ضد المصادفة. إذ لا بد للحياة فوق أرضنا من شروط جوهرية عديدة بحيث يصبح من المحال حسابياً أن يكون العالم قد وجد بمجرد المصادفة.

فبحق قال داود في المزمور "السموات تحدث بمجد الله. والفلك يخبر بعمل يديه. يوم إلى يوم يذيع كلاماً وليل إلى ليل يبدي علماً. لا قول ولا كلام. لا يسمع صوتهم. في كل الأرض خرج منطقهم وإلى أقصى المسكونة كلماتهم. جعل للشمس مسكناً فيها. وهي مثل العروس الخارج من حجلته. يبتهج مثل الجبار للسباق في الطريق. من أقصى السموات خروجها ومدارها إلى أقاصيها ولا شيء يختفي من حرها" مزمور 19: 1 – 6 وتبدو هذه الكلمات في روعتها وصدقها الكامل عندما نتأمل هذه الأرض التي نعيش عليها، فلقد أمكن تقسيم الكرة الأرضية إلى أقسام دائمة، ووضع خطوط طول وخطوط عرض لها، وتحديد حجمها وسرعتها في مدارها حول الشمس وقد وجد أن سرعتها ثابتة للغاية لدرجة أن اختلاف ثانية واحدة في مدى قرن من الزمان يمكن أن يقلب التقديرات الفلكية رأساً على عقب. وتدور الكرة الأرضية حول محورها مرة في كل أربع وعشرين ساعة، أو بمعدل نحو ألف ميل في الساعة، ولو أنها دارت بمعدل مائة ميل في الساعة فقط لصار نهارنا وليلنا أطول مما هما الآن عشر مرات، ولأحرقت شمس الصيف الحارة نباتاتنا في كل نهار، وتجمد كل نبت في الأرض في الليل الطويل.

وفوق ذلك فإن كرتنا الأرضية مائلة بزاوية قدرها 23 درجة، ولو أنها لم تكن مائلة بهذا القدر لكان القطبان في حالة غسق دائم، ولصار بخار الماء المنبعث من المحيطات يتحرك شمالاً وجنوباً مكدساً في طريقه قارات من الجليد.

وتعال بنا لنتأمل القمر، وهو الكوكب الذي يصحب أرضنا، فحركاته محددة، وسياق تغيراته يتكرر كل 18 سنة، وهو يبعد عنا مسافة 240.000 ميل، ولو أنه يبعد عنا خمسين ألف ميل مثلاً بدلاً من المسافة الشاسعة التي يبعد بها فعلاً، فإن المد الذي يحدث بالمحيط، كان يبلغ من القوة بحيث أن جميع الأراضي التي تحت منسوب الماء، كانت تغمر مرتين في اليوم بماء متدفق يزيح الجبال نفسها، ومعنى هذا أن الكرة الأرضية كانت تتحطم من هذا الاضطراب، وكان المد الذي في الهواء يحدث الأعاصير كل يوم.

ولنتقدم الآن خطوة لندخل إلى هيكل الحياة! هل قلت الحياة؟ لكن ما هي الحياة؟ إن الواقع يؤكد لنا أنه لم يستطع إنسان ما أن يدرك كنه الحياة، لأن الحياة لا وزن لها، ولا حجم، ولا طول، ولا عرض، ولا كثافة، ومع ذلك فما أكبر القوة المذخرة في الحياة، فالجذر النامي يقدر أن يشق الصخر الجامد، والنملة التي تدب بأقدامها المتناهية الصغر تقدر أن تتسلق الجبل الشامخ، وقد سيطرت الحياة على كل عناصر هذا الكون الفسيح.

والحياة كمثال، تشكل الكائنات الحية، وهي كفنان ترسم كل ورقة في كل شجرة، وتلون الأزهار، والتفاح، والغابات، وريش الطيور، وتضع اللمعان في عيني الطفل الصغير وتملأ فمه بالضحكات، وهي كموسيقى تعلم كل طير كيف يشدو بأغانيه، وتلهم حتى الحشرات أن تدعو بعضها بعضاً بموسيقى أصواتها ... والحياة هي الكيميائي الأكبر فهي التي تهب لكل فاكهة مذاقها، ولكل وردة عطرها، وتحول الماء وحمض الكربونيك إلى سكر وخشب، وتطلق الأوكسجين حتى تستطيع الحيوانات أن تتنفس نسمات الحياة!!

لكن هل هذا كل ما في أرضنا، قف الآن لحظة في معمل الطبيعة السحري، لتفكر في الهواء الذي تستنشقه والذي يحفظ الحياة في الأرض، فلو كانت قشرة الأرض أسمك مما هي بمقدار بضعة أقدام لامتصت ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين، ولما أمكن وجود حياة النبات. وهناك احتمال بأن قشرة الأرض والمحيطات السبعة قد امتصت كل الأوكسجين وأن ظهور جميع الحيوانات التي تستنشق الأوكسجين قد تأخر انتظاراً لظهور النباتات التي تلفظ الأوكسجين. وهذا ينطبق بشكل يثير التفكير على ما ورد بسفر التكوين الإصحاح الأول، فبعد أن اجتمعت المياه في مكان واحد وظهرت اليابسة قال الله "لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبذر بذراً وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه بزرة فيه على الأرض وكان كذلك" تكوين 1: 11 ثم بعد ذلك قال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها. بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها. وكان كذلك تكوين 1: 24 فما سبب خلقه الحيوانات بعد النباتات؟ إن سبب هذا بحسب التعليل العلمي إيجاد النباتات التي تلفظ الأوكسجين وهو عنصر ضروري للحياة لتأثيره في عناصر الدم، وفي أجزاء الجسم، وبدونه تتوقف عمليات الحياة، وكما أن الأوكسجين ضروري لحياة الإنسان والحيوان، كذلك تعتمد حياة كل نبات على المقادير التي تكاد تكون متناهية الصغر من ثاني أوكسيد الكربون الموجود في الهواء، فكيف وجد هذان العنصران الضروريان لحياة النبات والحيوان؟ لكن نوضح هذا التفاعل الكيماوي المركب بأبسط طريقة ممكنة نقول: إن أوراق الشجر هي رئات وأن لها القدرة في ضوء الشمس على تجزئة ثاني أوكسيد الكربون العنيد إلى كربون وأوكسجين، فهي تلفظ الأوكسجين وتحتفظ بالكربون متحداً مع هيدروجين الماء الذي يستمده النبات من جذوره، ويحوله بكيمياء سحرية إلى سكر، أو سيلولوز، ومواد كيميائية أخرى عديدة، وهكذا يغذي النبات نفسه وينتج فائضاً يكفي لتغذية كل حيوان على وجه الأرض، وفي الوقت نفسه يلفظ لنا الأوكسجين الذي نتنسمه والذي بدونه تنتهي الحياة في الأرض بعد دقائق.

ولو كانت هذه المقايضة غير قائمة بين الحيوان والنبات، فإن الحياة الحيوانية أو النباتية كانت تستنفذ في النهاية كل الأوكسجين أو كل ثاني أوكسيد الكربون، ومتى اختل التوازن ذوي النبات أو مات الحيوان. فمن ذا الذي أوجد هذا التوازن الرائع في الحياة سوى المبدع العزيز الحكيم؟ ولنذكر أنه لو كان الهواء أرق مما هو فإن بعض الشهب التي تتهاوى كل يوم وتحترق في الهواء الخارجي بالملايين كانت تضرب في جميع أجزاء الأرض وتشعل كل شيء قابل للاحتراق، وتمزق جسم أي إنسان تصطدم به وهي تسير بسرعة تتراوح بين ستة أميال وأربعين ميلاً في الثانية، لكننا نرى أن الهواء سميك بالقدر اللازم بالضبط لمرور الأشعة ذات التأثير الكيميائي التي يحتاج إليها الزرع، والتي تقتل الجراثيم وتنتج الفيتامينات دون أن تضر بالإنسان.

ولنفحص الآن "النتروجين" وهو مع كونه غازاً جامداً يعمل كمخفف للأوكسجين، بيد أن هناك سلسلة من المواد الكيميائية التي يعد النتروجين جزءاً منها، والتي يطلق عليها بصفة عامة اسم "النتروجين المركب" وهو عنصر هام لنمو النباتات الغذائية التي بدونها يموت الإنسان جوعاً. والوسيلة الأولى التي يدخل بها النتروجين في التربة الزراعية هي عن طريق نشاط جراثيم معينة تسكن في جذور النباتات البقلية مثل البرسيم والفول والحمص وغيرها، وهذه الجراثيم تأخذ نتروجين الهواء وتحيله إلى نتروجين مركب، وحين يموت النبات يبقى بعض هذا النتروجين المركب في الأرض لإخصابها.

أما الوسيلة التي يدخل بها النتروجين إلى الأرض، فهي عن طريق عواصف الرعد، فكلما ومض برق خلال الهواء وحد بين قدر قليل من الأوكسجين والنتروجين فيسقطه المطر إلى الأرض كنتروجين مركب، ومن عجب أن هذا ما يقرره سفر أيوب في القول "من فرع قنوات للهطل وطريقاً للصواعق ليمطر على أرض حيث لا إنسان ... ليروي البقلع والخلاء. وينبت مخرج العشب" أيوب 38: 25 – 27 فحيث لا إنسان ينبت العشب للحيوان، يرتب الله طريقاً للصواعق التي تولد النتروجين المركب لينبت مخرج العشب !!

لكن حيث وجد الإنسان، وطال وقت زرع الأرض حتى فقدت ما بها من نتروجين، ووضح للناس أن الموت جوعاً هو احتمال قد يقع في المستقبل، أرشد الخالق القدير الإنسان إلى الطرق التي أمكنه بها إنتاج النتروجين المركب من الهواء، وهكذا زال ذلك الخوف من حدوث المجاعات.

والسؤال الذي يواجه الشخص العاقل بعد أن يفكر في هذه الحقائق الرائعة، هو: من الذي أوجد هذا التوازن العجيب في عناصر الخليقة حتى بلغ هذا التوازن من الكمال إلى حد أنه لم يعتوره أي تغيير على مدى القرون والأزمان؟ ومن ذا الذي أوجد هذا الإتقان الرائع في هذا الكون الجميل!؟

إن الإنسان المفكر لا يستطيع أن يجيب عن هذا السؤال إلا بتلك الكلمات التي سجلها أشعياء النبي حين قال "ألا تعلمون ألا تسمعون. ألم تخبروا من البداءة. ألم تفهموا من أساسات الأرض الجالس على كرة الأرض وسكانها كالجندب الذي ينشر السموات كسرداق ويبسطها كخيمة للسكن ... ارفعوا إلى العلاء عيونكم وانظروا من خلق هذه من الذي يخرج بعدد جندها يدعو كلها بأسماء. لكثرة القوة وكونه شديد القدرة لا يفقد أحد" أشعياء 40: 21 – 26

يقيناً أننا "بالإيمان نفهم أن العالمين أتقنت بكلمة الله" عب 11: 3 فنردد مع صاحب المزمور "ما أعظم أعمالك يا رب كلها بحكمة صنعت ملآنة الأرض من غناك" مزمور 104: 24.

2- أنا أومن بوجود الله لأن حكمة الغريزة في الحيوان، والعقل الموهوب للإنسان يؤكدان هذا الوجود:

عندما تكلم أيوب محاولاً أن يعلل آلامه بكلمات لا تتفق مع قصد الله، أجابه الرب من العاصفة موجهاً نظره إلى هيكل الطبيعة والأعاجيب التي فيه كما يرى الدارس لهذا السفر في الإصحاح الثامن والثلاثين، ثم انتقل به في الإصحاح التاسع والثلاثين إلى التأمل في مملكة الحيوان فسأله قائلاً "أتعرف وقت ولادة وعول الصخور أو تلاحظ مخاض الأيائل. أتحسب الشهور التي تكملها أو تعلم ميقات ولادتهن يبركن ويضعن أولادهن. يدفعن أوجاعهن تبلغ أولادهن تربو في البرية. تخرج ولا تعود إليهن. من سرح الفراء حراً ومن فك ربط حمار الوحش الذي جعلت البرية بيته والسباخ مسكنه يضحك على جمهور القرية. لا يسمع زجر السائق. دائرة الجبال مرعاه وعلى كل خضرة يفتش؟ أيرضى الثور الوحشي أن يخدمك أن يبيت عند معلفك. أتربط الثور الوحشي برباطه في التلم أن يمهد الأودية وراءك. أتثق به لأن قوته عظيمة أو تترك له تعبك أتأتمنه أنه يأتي بزرعك ويجمع إلى بيدرك؟ جناح النعامة يرفرف أفهو منكب رأوف أم ريش لأنها تترك بيضها وتحميه في التراب وتنسى أن الرجل تضغطه أو حيوان البر يدوسه. تقسو على أولادها كأنها ليست لها. باطل تعبها بلا أسف. لأن الله قد أنساها الحكمة ولم يقسم لها فهماً ... أمن فهمك يستقل العقاب وبنشر جناحيه نحو الجنوب أو بأمرك يحلق النسر ويعلى وكره؟ يسكن الصخر ويبيت على سن الصخر والمعقل. من هناك يتحسس قوته. تبصره عيناه من بعيد. فراخه تحسو الدم وحيثما تكن القتلى فهناك هو، أيوب 39: 1 – 30

ويقيناً من ذا الذي يتأمل حكمة الغريزة في الحيوان ولا يقول مع أيوب "ها أنا حقير فماذا أجاوبك. وضعت يدي على فمي" أيوب 40: 8

قف لحظة لتتأمل أنثى فراشة تدخل من خلال نافذة حجرتك! فإن هذه الفراشة لا تلبث حتى ترسل إشارة خفية إلى الذكر وقد يكون الذكر على مسافة بعيدة عنها ولكنه يتلقى تلك الإشارة ويجاوبها مهما أحدثت أنت من رائحة لتضليلهما! ترى هل لتلك المخلوقة الضئيلة محطة إذاعة لاسلكية؟ وهل لذكر الفراشة جهاز استقبال عقلي؟ ومن أين له السلك اللاقط للصوت؟ لقد اخترع الإنسان الراديو، ولكن الفراشة لا تزال متفوقة عليه من هذه الوجهة إذ أنها تتصل بذكرها دون حاجة إلى أسلاك.

وقد قام البروفسور هنري بيجلي الأستاذ بجامعة بنسلفانيا بدراسة طويلة لمعرفة الحمام الزاجل وكيفية طيرانه، حتى كشف عن ناحية علمية دقيقة أفادت العلوم وأماطت اللثام عن لغز ذلك الطير النادر، فقد كان يظن أن الحمام يعرف المغناطيسية الأرضية، وتحول ظنه إلى يقين عندما وضع في أجنحة الحمام صفائح مغناطيسية رقيقة فاختلط عليه الأمر وفقد طريق العودة إلى مراكزه، ثم تبين له أن المغناطيسية الأرضية ليست العامل الوحيد في مقدرة الحمام على تعرف طريق العودة إلى مراكزه، بل أن للقوة المتولدة من دوران الأرض علاقة كبيرة بمعرفته للطريق، فالحمام يشعر بجذب هاتين القوتين المتحدتين معاً ومن ثم يسير على هديهما فلا يضل الطريق مطلقاً.

وتعجب فوق ذلك عندما تعلم أن الجراد البالغ من العمر سبع عشرة سنة في ولاية نيوانجلاند يغادر شقوقه تحت الأرض، حيث عاش في ظلام، ويظهر بالملايين في شهر مايو من سنته السابعة عشرة ويضبط موعد ظهوره باليوم تقريباً دون سابقة ترشده. وهناك أشياء عجيبة أكثر من هذه يعرفها المتخصصون في دراسة غرائز الحيوان، فمن أين للحيوان هذه الحكمة في غريزته لو لم تكن من الله الخالق الحكيم!!

لكن حكمة الحيوان، ليست شيئاً بالقياس إلى عقل الإنسان فبحق قال أليهو لأصحاب أيوب وهو يرى صمتهم بإزاء حججه "قلت الأيام تتكلم وكثرة السنين تظهر حكمة، ولكن في الناس روحاً ونسمة القدير تعقلهم" أيوب 32: 7 و 8

فالعقل هو هبة الله لبني الإنسان، ومما يدعو إلى أشد العجب أنه في أنواع الحياة الحيوانية التي لا تحصى لا يوجد أي مظهر للعقل، بل توجد الغرائز وحدها، ولذا فإن أي حيوان لم يسجل لنفسه قدرة على هندسة قصر منيف، ولم يستطع أن يعد إلى عشرة، أو أن يفهم مسألة حسابية بسيطة، لأنه لا يملك سوى غريزته ... والغريزة ليست إلا لحناً واحداً على قيثارة، بينما العقل البشري يحتوي كل الأنغام لكل الآلات الموسيقية في فرقة كاملة.

فقد استطاع الإنسان بعقله المفكر أن يخرج قطعاً موسيقية متحدة النغم نسميها "سمفونيات"، وأن يتسلط على الهواء، فركب الطائرات التي جعلت سرعته أعظم من سرعة الطير، وهو الذي اخترع الراديو فأوصل صوته عبر المحيطات، وعرف المقاييس الهندسية فبنى الأهرامات، وصنع لنفسه عيناً أحد من عين النسر هي الميكرسكوب وقرّب لنظره أبعد الكواكب بواسطة التلسكوب .. وهو بهذا العقل العجيب يتعلم الحساب، والكيمياء، وعلم الأحياء، والجغرافيا، ويعرف مع هذا كله شتى اللغات، وهو الذي اكتشف بتفكيره وملاحظته الأمصال الواقية من الأمراض، وأخيراً قدر أن يفتت الذرة وهي أصغر قالب في بناء هذا الكون العظيم.

وهذا العقل الجبار الذي يتمتع به الإنسان هو أكبر دليل على أن هناك عقلاً أسمى وراء عقله، هو عقل الله القادر على كل شيء.

3- أنا أومن بوجود الله لأن ظاهرات عوامل الوراثة، ودراسة جسم الإنسان والضوابط الموجودة في الحياة تؤكد هذا الوجود:

يرنم داود لله في المزمور التاسع والثلاثين قائلاً "لأنك أنت اقتنيت كليتي. نسجتني في بطن أمي. أحمدك من أجل أني قد امتزت عجباً (والترجمة الحرفية أحمدك لأني خلقت بشكل رائع مخيف) عجيبة هي أعمالك ونفسي تعرف ذلك يقيناً. لم تختف عنك عظامي حينما صنعت في الخفاء ورقمت في أعماق الأرض رأت عيناك أعضائي وفي سفرك كلها كتبت يوم تصورت إذ لم يكن واحد منها، مزمور 139: 13 – 16

ويظهر هذا الكلام في ملء صدقه عندما نتأمل تكوين الإنسان، فمع أن الإنسان في تكوينه يشبه فصائل "السيميا" وهي فصائل الأورانجتان والغوريلا والشمبانزي، إلا أن هذا الشبه ليس برهاناً على أننا من نسل القرود، أو أن تلك القرود هي ذرية منحطة للإنسان.

ولا شك في أن نظرة مفكرة في علم وحدات الوراثة (الجينات) يقطع الطريق على أتباع نظرية التطور، ويؤكد لنا وجود الخالق العظيم، فهذا العلم يرينا أن كل خلية ذكراً كانت أو أنثى تحتوي كرموزومات (والكروموزوم Chromosomهي وحدة المادة العضوية والعامل في نقل الصفات الوراثية) وتحتوي الخلية كذلك على جينات (والجينات Genes هي العامل الرئيسي الحاسم فيما يكون عليه كل كائن حي أو إنسان) وتحتوي كذلك على السيتوبلازم (والسيتوبلازم Cytoplasm هي المادة البروتوبلازمية التي حول نواة الخلية) وتبلغ الجينات من الدقة أنها وهي المسؤولة عن المخلوقات البشرية جميعاً التي على سطح الأرض من حيث خصائصها الفردية، وأحوالها النفسية وألوانها، وأجناسها، لو جمعت كلها ووضعت في مكان واحد لكان حجمها أقل من حجم جوزة صغيرة .... أفلا يدهشك بحق أن خواص ألفي مليون من البشر تحشد في مكان صغير كهذا؟! إن الأمر المتفق عليه هو أن "الجينات" تحفظ التصميم، وسجل السلف، والخواص التي لكل كائن حي، وبناء على قانون. وحدات الوراثة لم تحمل شجرة بلوط قط عنباً، ولم تلد لبوة فأراً،. ولم يلد حوت سمكة! وحقول القمح المتماوجة هي قمح في كل حبة من. حباتها، لأن قانون الوراثة يقرر قطعاً كل نوع من الحياة من البداية إلى النهاية، ويجعل جميع طوائف الكائنات الحية تنفصل بعضها عن بعض بهوات سحيقة لا يمكن عبورها. حتى أن الحيوانات المتقاربة ينفصل بعضها عن بعض كذلك بموجب هذا القانون.

وهذا ينطبق تماماً على ما جاء في سفر التكوين إذ نقرأ هذه الكلمات "وقال الله لتنبت الأرض عشباً وبقلاً يبزر بزراً وشجراً ذا ثمر يعمل ثمراً كجنسه بزره فيه على الأرض وكان كذلك" تك 1: 11 "وقال الله لتخرج الأرض ذوات أنفس حية كجنسها. بهائم ودبابات ووحوش أرض كأجناسها. وكان كذلك" تك 1: 24 "وعاش آدم مئة وثلاثين سنة وولد ولداً على شبهه كصورته" تك 5: 3

فهل تثير تفكيرك هذه المعلومات الجديدة؟ تعال معي لكي ندرس معاً ذلك الجسم البشري العجيب، الذي يقضي طالب الطب في دراسته حوالي سبع سنوات!! إن بصمات الأصابع في أيدي سكان الأرض تختلف في كل واحد عن الآخر، حتى أضحت هذه البصمات دليلاً قوياً على تحقيق شخصية الفرد. فكيف جاء هذا الفرق في خطوط البصمات إن لم يكن وراء خلقة الإنسان يد الخالق المبدع الحكيم؟

ثم انظر إلى عملية الهضم في جسم الإنسان، فهي عملية عجيبة تدعو إلى التأمل الكثير، فنحن نضع في هذا المعمل المسمى "المعدة" أنواعاً من الطعام، دون مراعاة للمعمل نفسه أو تفكير في كيفية معالجة كيمياء الهضم له، فنحن نأكل شرائح اللحم، والحنطة، والسمك، والفاصولياء، وندفعها بقدر من الماء، ونأكل معها خبزاً، وبقولاً وقد نضيف إلى كل ذلك كبريتاً، وعسلاً أسود، ومن بين هذا الخليط تختار المعدة تلك الأشياء ذات الفائدة، وذلك بتحطيم كل صنف من الطعام إلى أجزائه الكيماوية دون مراعاة للفضلات وتعيد تحويل الباقي إلى بروتينات جديدة تصبح غذاء لمختلف الخلايا وتختار أداة الهضم، الجير والكبريت، واليود والحديد، وكل المواد الأخرى الضرورية وتعنى بعدم ضياع الأجزاء الجوهرية، وبإمكان إنتاج الهرمونات، وبأن تكون جميع الحاجات الحيوية للحياة حاضرة في مقادير منتظمة ومستعدة لمواجهة كل ضرورة، وهي تخزن الدهن، والمواد الاحتياطية الأخرى للقاء كل حالة طارئة مثل الجوع، وتفعل ذلك كله بالرغم من تفكير الإنسان أو تعليله، وهكذا يقدم هذا المعمل المنظم لكل خلية من بلايين الخلايا التي تبلغ من العدد أكثر من عدد الجنس البشري كله على وجه الأرض غذاءها اللازم لها وحدها، ويعطي لكل خلية المواد التي تحتاج إليها لتحويلها إلى عظام، أو أظافر، أو لحم، أو شعر، أو أسنان كما تتلقاها الخلية المختصة في إتقان عجيب.

وفي حالة العدوى بجراثيم معادية يحتفظ هذا الجهاز الرائع بجيش قائم باستمرار على أهبة الاستعداد لملاقاة الغزاة، وإنقاذ حياة الإنسان من الموت قبل الأوان.

وفوق هذه الروعة في خلقة جسم الإنسان نجد قانون الضوابط والموازين في الحياة، فالحشرات الوافرة النسل لا تكبر لأنه ليس لها رئات كرئات الإنسان، ولولا هذا لسيطرت الحشرات على هذه الأرض، وعصير الليمون يعالج مرض الأسقربوط اللعين، والتهابات الجسم يعالجها البنسلين، والقطط تأكل الفيران!! والذرة يحفظها قانون الضوابط من الملاشاة والتحطيم، وهكذا نرى أن الضوابط تتحكم في أصغر أجزاء هذا الكون الفسيح مؤكدة وجود ذلك الذي قال عنه الكتاب "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته"!!

ويلذ لنا أن نذكر هنا كشف عالمان جليلان هما سبالانزاني Spellanzani وباستير Pasteur، فقد أجرى هذا العالمان عدة تجارب حطما بها الاعتقاد بالنشأة الذاتية للكائنات الحية من مواد عديمة الحياة، ولم يدع عملهما أي شك في انه لا وجود لحياة إلا عن طريق وجود حياة سابقة!! وبناء على هذا الكشف العلمي الدقيق، يمكننا أن نردد مع يوحنا البشير قوله عن رب المجد "كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة والحياة كانت نور الناس".

4- أنا أومن بوجود الله لأن القوى الروحية الموجودة في الإنسان وقدرته على تصور وجود الله برهان غذ على حقيقة هذا الوجود:

لنترك ميدان العلم، ولنتقدم لنسمع صوت الفلسفة، فالواقع أن مسألة وجود الله هي مسألة وعي قبل كل شيء فالإنسان له وعي يقيني بوجوده الخاص وحقيقته الذاتية ولا يخلو من وعي يقيني بالوجود الأعظم ولحقيقة الكونية لأنه متصل بهذا الوجود بل قائم عليه.

ومع ذلك فليس في مقدور الإنسان أن يعرف الله معرفة محددة بالمقاييس والموازين، وآلات الاختبار، فهو كالنغم الموسيقي الرائع الذي يثير في الأسماع بهجة ورضى، ويحرك في النفس العواطف والأحاسيس ولكنك لو ذهبت تطلبه بفكرك في طبقات الأثير ترد كل ذبذبة فيه إلى ضوابط من الفن وقواعد من العلم لأعيتك مذاهبه ولا ننهي بك المطاف إلى غير طائل!!

وإذاً فيكفي أن يتصور الإنسان وجود الله، لأن تصور هذا الوجود ينبثق من قدرة علوية في الإنسان لا يشاركه فيها سائر الأحياء هي قدرة التخيل، وبها يستطيع الإنسان دون غيره من الأحياء أن يجد الدليل على أشياء لا يراها، وأن الآفاق التي تفتحها هذه القدرة أمام عينيه لهي آفاق لا حدود لها، والحق أن تخيل الإنسان إذا مادنا من مراتب الكمال وصار حقيقة روحية، استطاع أن يتبين من خلاله دلائل النظام والقصد في الكون، تلك الحقيقة العظمى: إن قدرة السماء في كل مكان، وكل شيء؛ وأن الله في كل مكان وعند كل شيء وهذا هو الإيمان لأن "الإيمان هو الثقة بما يرجى والإيقان بأمور لا ترى" عب 11: 1

ويمكننا أن نضيف إلى ما تقدم أن وجود القوى الروحية في الإنسان هي في ذاتها برهان قوي على حقيقة وجود الله؛ فالإنسان يتميز بقدرة على الشعور على البعد أو ما يسمى الاتصال التلباثي Telepathy؛ والتوجيه على البعد أو ما يسمى الـ Telergy؛ والاستيحاء الباطني أو ما يسمى Automatism وما إلى ذلك من قوى روحية كامنة فيه. وفوق هذا كله، ففي الإنسان وازع أخلاقي هو قوة الضمير، وهو برهان رائع على وجود الله القدوس القدير! لأنه من أين استوجب الإنسان أن يدين نفسه بالحق كما نعرفه إن لم يكن في الكون مقياس للحق يغرس في نفسه هذا الإحساس؟ ومن أين تقرر في ضمير الإنسان أن الواجب الكريه لديه أولى به من إطاعة الهوى المحبب إليه وإن لم يطلع أحد على دخيلة نفسه، إن لم يكن هناك إله قدوس وضع في الإنسان الإحساس بضرورة القداسة في الحياة؟!

إن صوت العلم، وصوت الفلسفة يتحدان في التدليل على حقيقة وجود الله، حتى إننا يمكننا أن نردد للذين ينكرون هذه الحقيقة كلمات الرسول القائل "لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم الذين يحجزون الحق بالإثم إذ معرفة اله ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم لأن أموره غير المنظورة ترى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته حتى إنهم بلا عذر" رومية 1: 18 – 20. يقيناً "قال الجاهل في قلبه ليس إله. فسدوا ورجسوا بأفعالهم" مزمور 14: 1 فالذي ينكر وجود الله هو جاهل بأدلة العلم، هو جاهل بحقائق الوجود، هو جاهل ببراهين العقل. هو جاهل وكفى، وإنكاره لوجود الله ناشيء عن فساد في حياته الأدبية لوث ضميره، وطمس عينيه. وأعمى بصيرته، وأظلم عقله.


الله في إعلانات الكتاب

هل يكفي أن نعتمد على العلم في معرفة الله والتيقن من وجوده؟ إن العلم بأدلته الجامعة القاطعة، يكشف النقاب عن الله القدير الجبار، ولكنه يشيع إحساساً بالحقارة في قلب الإنسان وفي ذات الوقت يعجز عن أن يعطينا إعلاناً واضحاً عن صفات الله العلي العظيم.

فالعلم يثبت أن الشمس أكبر من الأرض بمقدار مليون وربع مرة! فكم يكون الفرد بالنسبة إلى الأرض؟ وكم يكون بالنسبة إلى الشمس؟ وكم يكون بالنسبة إلى المجموعة الفلكية في هذا الكون الفسيح!؟ إلا ذرة كربون حقيرة لا تكاد ترى إلى بالمجهر!! وهل يعتني الله العظيم القدير بهذا الإنسان الضئيل الحقير؟ بحق ردد داود في المزمور "أيها الرب سيدنا ما أمجد اسمك في كل الأرض حيث جعلت جلالك فوق السموات ... إذ أرى سمواتك عمل أصابعك القمر والنجوم التي كونتها فمن هو الإنسان حتى تذكره وابن آدم حتى تفتقده" مزمور 8: 1 و 3- 5

وأمام هذا الإحساس بالضعة والحقارة، تملأ الشكوك عقل الإنسان من جهة عناية الله به! وإذاً فلا بد من رسالة من السماء تريح قلب الإنسان؛ وتعلن له حب الله وحنانه ورعايته؛ وتخرجه من ظلمات الشكوك إلى نور اليقين؛ وهذا الإعلان السماوي هو الوحي، كلمة الله الموحى بها منه، وهو السبيل الوحيد للإعلان الصحيح عن صفات الله، وعن موقفه وشعوره من جهة الإنسان.

فماذا يقول الكتاب المقدس عن الله؟

1- إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الله روح:

وهذا ما قاله المسيح له المجد في حديثه مع المرأة السامرية "الله روح. والذين يسجدون له فبالروح والحق ينبغي أن يسجدوا" يوحنا 4: 24، وماهو الروح! إن المعنى الوحيد لهذه الكلمة نجده في كلمات الرب يسوع التي تحدث بها لتلاميذه الخائفين "انظروا يدي ورجلي إني أنا هو. جسوني وانظروا فإن الروح ليس له لحم وعظام كما ترون لي" لوقا 24: 39 فالروح ليس له جسد هيولي، ومع ذلك فإن له وجوداً وقدرة!! ومهما يكن الأمر فليس في وسعنا نحن الذين نعيش في عالم المادة أن نتصور الله بالصورة الحقيقية، لأن مقاييسنا ومعاييرنا مرتبطة بهذه الأرض.

2- إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الله كائن أزلي:

هذه هي اللغة التي نجدها في ثنايا الكتاب، فهو يرينا أن الله فعل، والله أحب، والله تضايق مع المتضايقين، والله فرح، وهذا يؤكد لنا أن الله كائن أزلي موجود، يشعر، ويحس، ويفكر، ويحب، ويغفر، ويعطف علينا في آلامنا وتجاربنا.

3- إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الله قدوس بار:

من سفر التكوين إلى سفر الرؤيا، تظهر لنا قداسة الله، وكم من مرات نسمع في ثنايا الوحي المقدس "كونوا قديسين لأني أنا قدوس" ونقرأ كلمات حبقوق "عيناك أطهر من أن تنظرا الشر ولا تستطيع النظر إلى الجور" حب 1: 13، وقداسة الله هي التي دبرت موت المسيح، لأنها تتطلب الحكم العادل ضد الخطية، وفي ذات الوقت ترتب للإنسان طريق الخلاص، ولأن الله الذي نعبده إله قدوس بار، أرسل لنا ابنه الحبيب الوحيد، لكي يفتح لنا الطريق للاقتراب منه، ولكننا إذا تجاهلنا الوسيلة التي عينها لخلاصنا، وفشلنا في طاعة وصاياه. فإننا لن نستطيع أن نطلب منه الرحمة في يوم العقاب.

4- إن الكتاب المقدس يعلن لنا أن الله محبة:

وهذا ما سجله يوحنا التلميذ الحبيب قائلاً "الله محبة" 1 يو 4: 8، لكن فلنحذر الفكر القائل: بأنه ما دام الله محبة، فكل شيء سوف يكون جميلاً، وأنه لن يدان أحد من أجل خطاياه لأن الله محبة!! فهذا فكر خاطيء يتعارض مع قداسة الله التي تتطلب دينونة الخطية. فمحبة الله رتبت طريق الفداء "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" يو 3: 16، لكن قداسة الله لا بد أن توقع على الخاطىء غير التائب العقاب.


الله في اختبار الفرد

إذا كان العلم يثبت وجود الله، والكتاب يعلن صفات الله، فإن اختبار الفرد هو الدليل الملموس في حياة الإنسان لحقيقة وجود الله ويقيناً أن قضية إثبات وجود الله هي قضية اختبارية فوق أنها قضية علمية وفلسفية ..

يحدثنا التاريخ عن ملحد انجليزي اسمه مستر برادلاف أرسل رسالة لرجل الله الأشهر الدكتور تشارلس برايس يتحداه فيها أن يناظره علناً في موضوع وجود الله، لكن الدكتور برايس رد عليه هذا التحدي بتحدي من نوع آخر إذ كتب له رسالة قال فيها ما يلي:

"يا مستر برادلاف! إن المناظرة ما هي إلا مصارعة ذهنية ينطبق عليها القول المأثور، اقنع الإنسان ضد إرادته يبقى على رأيه لا يتحول عنه، فدعنا من المناظرة الكلامية، وبدلاً منها فسأحضر معي إلى صالة المناظرة التي يقع عليها اختيارك مئة شخص يشهدون بأن الإيمان بالله قد رفعهم من الحضيض الأدبي إلى المجد الروحي، وأحضر أنت معك مئة شخص يشهدون بأن الإلحاد قد غير حياتهم، وسما بعواطفهم، وأسعدهم، وإن لم تستطع إحضار مئة شاهد فأنا اكتفي منك بخمسين، وإن لم تستطع إحضار خمسين أكتفي منك بعشرين يشهدون والسرور يشع من عيونهم ويبدو في نبرات صوتهم – كما يشهد المؤمنون بالله – بأن الإلحاد رفع قدرهم وخلص حياتهم، وضمن مستقبلهم، وإن لم تستطع إحضار عشرين أكتفي منك بعشرة فقط, لا بل أخفض الرقم إلى واحد فقط ما مستر برادلاف يشهد بنفس هادئة مطمئنة مقدرة فرحة متأثرة بأن الإلحاد أسبغ عليه كل هذه النعم" وأمام هذا التحدي القائم على الاختبار الشخصي، تنحى مستر برادلاف عن المناظرة، وانتصرت قوة الإيمان بالله على منطق الإلحاد السقيم .. فهل لك اختبار شخصي مع الله؟ وهل أدركت ما يفعله الله للفرد؟ تعال بنا لنرى ماذا يفعل الله للفرد!

1- إن الله يعرف الفرد:

وهذا هو ما يؤكده اختبار داود الذي سجله في قوله "يا رب قد اختبرتني وعرفتني. أنت عرفت جلوسي وقيامي فهمت فكري من بعيد ... لأنه ليس كلمة في لساني إلا وأنت يا رب عرفتها كلها" مزمور 139: 1 – 3 بل هذا ما قاله الرب لموسى "لأنك وجدت نعمة في عيني وعرفتك باسمك" خر 33: 17، وما قاله السيد له المجد "خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني" يو 10: 27، ولما يتيقن الفرد من أن الله يعرفه بالذات، ويرعاه ويهتم به، يستريح قلبه!!

أجل لقد عرف الرب سمعان بطرس باسمه، وعرف شمشون قبل أن يولد، وعرف موسى قبل أن يأتي إلى الأرض، وعرف مريم المجدلية وشاول الطرسوسي، وهو يعرف كل فرد في هذا الوجود، ويفرح برجوع الخاطيء التائب "إنه هكذا يكون فرح في السماء بخاطيء واحد يتوب أكثر من تسعة وتسعين باراً لا يحتاجون إلى توبة" لوقا 15: 17 بل هو يعرف أعمال كل فرد "أنا عارف أعمالك ومحبتك وخدمتك وإيمانك وصبرك" رؤ 2: 19

يحدثنا رجل من رجال الله عن موظف من موظفي الإحصاء ذهب إلى منزل امرأة فقيرة ليسجل عدد أفراد عائلتها وكان للمرأة ستة عشر ولداً وبنتاً قال موظف الإحصاء للمرأة: كم عدد أولادك يا سيدتي؟ أجابت: بناتي هن رفقة، وراحيل، وثامار، وراعوث، وابيجايل و... وأرادت أن تستمر لكن الرجل قاطعها قائلاً: أريد جملة العدد لا أسماء الأفراد وابتسمت الأم التي تعرف أولادها وقالت: أنا هنا أعرف كل واحدة وكل واحد باسمه فينبغي إن أردت معرفة عددهم أن تنصت لي.

وهذا هو ذات ما يفعله الله، بل أقل مما يفعله الله لأنه قال "هل تنسى المرأة رضيعها فلا ترحم ابن بطنها حتى هؤلاء ينسين وأنا لا أنساك هوذا على كفي نقشتك، أسوارك أمامي دائماً" أش 49: 15 و 16 "اسمعوا لي يا بيت يعقوب وكل بقية بيت اسرائيل المحملين على من البطن المحمولين من الرحم. وإلى الشيخوخة أنا هو وإلى الشيبة أنا أحمل. قد فعلت وأنا أرفع وأنا أحمل وأنجي. بمن تشبهونني وتسوونني وتمثلونني لنتشابه" أش 46: 3 – 5

2- إن الله يعين الفرد:

هذا هو الحق الذي أعلنه موسى في كلماته "ليس مثل الله يا يشورون. يركب السماء في معونتك والغمام في عظمته الإله القديم ملجأ والأذرع الأبدية من تحت" تث 23: 26 و 27 وهذا ما نقرأه في كلمات يعقوب لابنه يوسف ساعة احتضاره "يوسف غصن شجرة مثمرة. غصن شجرة مثمرة على عين. أغصان قد ارتفعت فوق حائط. فمررته ورمته واضطهدته أرباب السهام. ولكن ثبتت بمتانة قوسه وتشددت سواعد يديه. من يدي عزيز يعقوب من هناك من الراعي صخر إسرائيل. من إله أبيك الذي يعينك ومن القادر على كل شيء الذي يباركك" تك 49: 22 – 25

ومع هذه الكلمات الحلوة، نقرأ شهادة بولس أمام اغريباس حين قال "فإذ حصلت على معونة من الله بقيت إلى هذا اليوم شاهداّ للصغير والكبير" أعمال 26: 22، فالله إذاً يعين الفرد، ويناديه "لا تخف أنا أعينك" أش 41: 13، فثق في هذه المواعيد وردد مع داود مزموره الحلو "الرب راعي فلا يعوزني شيء" مزمور 23: 1

3- إن الله يدبر كل ظروف الفرد:

اجتاز يعقوب في حياته ثلاثة اختبارات هامة، الاختبار الأول هو اختبار بيت إيل، والاختبار الثاني هو اختبار محنايم، والاختبار الثالث هو اختبار فنيئيل، وفي اختبار بيت إيل أدرك يعقوب أن الله يدير كل ظروف الفرد وسمع صوت الله قائلاً "أنا معك وأحفظك حيثما تذهب وأردك إلى هذه الأرض لأني لا أتركك حتى أفعل ما كلمتك به" تك 28: 15، وفي اختبار محنايم لاقاه ملائكة الله فعرف أن الله يحرسه بقوى غير منظورة، وفي اختبار فنيئيل تصارع مع الله وجهاً لوجه، وحطم الله الذات التي فيه ونجى نفسه!!

وهناك اختبار رائع في حياة إبراهيم يوم سأله ابنه وهو في طريقه إلى الذبح "هو ذا النار والحطب ولكن أين الخروف للحرقة؟" فقال إبراهيم "الله يرى له الخروف للحرقة يا ابني"، ولما وصل إبراهيم للحظة الصفر وأنقد الله ولده، وأراه كبشاً ممسكاً في الغابة بقرنيه قدمه عوضاً عن ابنه، دعا اسم ذلك الموضع "يهوه يرأه" واسم "يهوه" هو اسم الرب الذي لا يترفع عن خلائقه ويتركهم لشأنهم، بل يرى أعواز شعبه ويتنازل ليخلصهم، وقد ورد هذا الاسم الجليل مقترناً بالأعمال التي يعملها الله لكل فرد يتكل عليه ويثق فيه. فلنتأمل إذاً في هذه الأعمال العظيمة.

1- يهوه رأفا: أي الرب الشافي خر 15: 26 وهذا هو الاسم المريح لكل طريح على فراش المرض "الرب يعضده وهو على فراش الضعف مهدت مضجعه كله في مرضه" مز 41: 3

2- يهوه نسى: أي الرب رايتي خر 17: 8 – 15 وهذا هو الاسم المعزي لمن يضايقه العدو.

3- يهوه شالوم: أي الرب سلام قض 6: 24، وهذا هو الاسم المفرح لكل خائف ومضطرب.

4- يهوه رعا: أي الرب راعي مزمور 23: 1، وهذا هو الاسم الجميل لكل غريب ونزيل.

5- يهوه تصدقينو: أي الرب برنا أرميا 23: 16 وهذا هو الاسم البهيج لكل شاعر باحتياجه إلى بر الله.

6- يهوه يرأه: أي الرب يرى ويدبر تك 22: 14، وهذا هو الاسم الحلو لكل من لا مخرج له في ضيقات الحياة.

7- يهوه شمه: أي الرب هناك: حزقيال 48: 35، وهذا هو الاسم المبارك لكل من يتوقع مجيء ملكوت الله على الأرض.

فهل بعد كل هذه الإعلانات تحس بوحدتك في هذه الأرض، أو تشعر بأن الله معك في كل الطريق؟!

أصغ إلى كلمات أشعياء المشجعة "لماذا تقول يا يعقوب وتتكلم يا إسرائيل قد اختفت طريقي عن الرب وفات حقي إلهي. أما عرفت أم لم تسمع. إله الدهر الرب خالق أطراف الأرض لا يكل ولا يعيا. ليس عن فهمه فحص. يعطي المعيي قدرة ولعديم القوة يكثر شدة. الغلمان يعيون ويتعبون والفتيان يتعثرون تعثراً. وأما منتظرو الرب فيجددون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور يركضون ولا يتعبون يمشون ولا يعيون" أش 40: 27 – 31 وقل اليوم مردداً مع أيوب "بسمع الأذن قد سمعت عنك والآن رأتك عيني لذلك أرفض وأندم في التراب والرماد".

  • عدد الزيارات: 11289