Skip to main content

الفصل الثالث عشر: عصابة باراباس تأسر نوسترداميس

انتهت مارثا من قصتها، بعد منتصف الليل، وتركتني بعد أن طلبت لي بركة الله. على أنها لم تذهب إلى الفراش، بل ظلت تقوم ببعض المطالب لهذا البيت الكبير!د

واستيقظتُ متأخراً، وعلمت أنها قامت في الصباح الباكر وراقبت العبيد والخدم وهم يعملون في مهامهم المختلفة بالنسبة لبيت قد يستضيف بالعشرات والمئات. علمت أنها بدأت تُعِدّ للعشاء الكبير الذي وعدَت به. تناولت شيئاً من الطعام واستأذنت في الانصراف. كان لعازر قد خرج في ميعاده، ومريم كانت في خلوتها المعتادة أمام الله!

حاولت مرثا أن تستبقيني فقلت لها إني سأذهب إلى مدينة أفرايم لكي أراه هناك.

انطلقت في طريقي حتى تركت مدينة بيت عنيا، وتركت طريق أورشليم وسرت في طريق قيل لي انه يخترق برية يهوذا ويصل إلى مدينة أفرايم. كانت الطريق خشنة مملوءة بالأشواك والأحجار وكان السر متعباً، يبدو أني ضللت لأني وجدت أني لا أسير في الطريق المرصوف. الرمال تحيط بي. وبغتة وجدت أحدهم يقبض على عنقي من الخلف ويسأل: "إلى أين أنت ذاهب؟" التفتُّ فوجدت عملاقاً ضخم اللحية كبير الشفتين بارز الأنف. قلت: "إني ذاهب إلى مدينة أفرايم لأقابل المعلم الناصري". فضحك ضحكة هازئة ثم قال: "بل أنت ذاهب لتتجسسَّ على عصابة باراباس. هيا معي... هيا. لا تُلزِمني أن أستعمل القسوة معك". قلت له: "صدقني يا أخي أني أبحث عن المعلم الناصري. لا تؤخِّرني". وحاولتُ أن أفلت منه فلكمني على وجهي قريباً من الأذن وقال: "لعل هذه تكفي... لا تكثر من الكلام الفارغ".

وفي مكان لا يبدو أن أحداً يقيم بالقرب منه هبطت الأرض تحت أقدامنا ووجدت شيئاً يشبه غرفة كبيرة جلس فيها عدد من رفقاء الرجل الذي قبض عليّ، وسمعت صوت أنين من خلف ركن المكان. قلت للرجل: "لماذا تأتي بي إلى هذا المكان؟". فقال: "قد وقعتَ أيها الرجل بين رجال السيد باراباس، وأظنك تعرف أنه رجال باراباس لا يعرفون الهزل. لقد قبضوا على باراباس واثنين من رفقائنا دوماس وهاران بدسيسة خسيسة. شخص ادَّعى أنه يريد الذهاب إلى أفرايم وتساهلنا وتركناه. سيُصلب باراباس وزميلنا لأننا كنا أغبياء وصدقناه".

ثم التفت إلى أحد الرجال المحيطين وقال: "قِّيده في العمود وجهّز السوط"...

والتفت إليّ وقال: "إذا لم تكن حكيماً فلا تلومنَّ إلا نفسك. أولاً أفرِغ ما في جيبك"... ولم ينتظروا بل خلعوا عني كل ملابسي وأفرغوا ما فيها من نقود ذهبية وفضية ومجوهرات وحوالات مصرفية جائزة عند التجار باسم "حامله" وقال: "يبدو أنك من كبار الأغنياء. لك أن تطمئن أننا لن نقتلك". وبعد أن قيَّدوا يديَّ خلف ظهري ساقوني في دروب مظلمة حتى وصلنا إلى كهف كبير، علمت أن له فتحة باب يطلُّ على البرية، ولكنه مثَّبت بصفائح حديدية. قال لي ساخراً: "يؤسفني أني لا أستطيع أن أقدم لك إلا السرير الذي صنعه الله، ولعلك تؤمن به! على أني سأعطيك شيئاً يحميك من البرد. أما الطعام فلا تنسَ أننا في البرية، فقد تقضي يومين أو ثلاثة بدون طعام... أو بطعام لا يتفق مع مركزك السامي "!!

قال اللص هذا الكلام وتركني!

انطرحت على الأرض واستغرقت في نوم عميق... لم أتضايق من الأرض الخشنة أو من الطعام التافه أو من الجوع... بل لم تضايقني لسعات السياط. لم أتضايق من كل ما لقيت من المشاق والهوان من عصابة باراباس، إنما تضايقت أني لم أستطع الوصول إلى الناصري!

كم مرَّ وأنا في الكهف؟ لا أعلم. هل مرّ عليّ أسبوعان أو ثلاثة أو شهر. خُيّل إليّ أني قضيت أجيالاً!!

وفي أحد الأصباح قلت: لماذا لا أستغيث بالناصري؟ ورفعت عيني وصرخت بقلب جريح: "أيها الناصري الحبيب. لقد آمنتُ بك. وقد خرجت لأراك. اهدِ يا سيدي أقدامي إليك".

ما أن فرغت من طلبتي هذه حتى سمعتُ صوت ضوضاء، ودخل المكان رجل عظيم الخلقة يتبعه عدد من العمالقة أمثاله ومعهم سجاني، الذي تقدم وقطع قيودي وأعاد إليّ ثيابي ثم قال: "لقد أمر الزعيم أن أردَّ لك ما أخذتُه منك. ها هو. خذه وانصرف، وسيرافقك أحد رجالنا إلى الطريق. اذهب إلى حال سبيلك، وانسَ أنك وقعت بين رجال باراباس، واشكر السماء أن الزعيم لم يأمر بقتلك". قلت: "هلاَّ دللتني على ذلك الزعيم لأشكره ولأوكد له أني ما جئت إلى طريقك متجسسّاً، بل كما سبق أن قلتُ لك إني جئت أبحث عن المعلم الناصري "!!

نظر إليّ الرجل الضخم وقال: "مالك أنت والناصري؟ ومنذ متى عرفتَه؟".

قلت: "لقد سمعتُ عنه من الرعاة، ومن سمعان الشيخ، وذهبت إلى مصر أبحث عنه هناك، ومكثت أزيد من ثلاثين سنة هنا وهناك وأصل إلى المكان بعد أن يكون قد تركه".

قال: "وهل تحب أن تسمع شيئاً جديداً عن السيد الناصري؟". قلت: "بالطبع أرغب، فإذا أطلقتموني حراً فسأبحث من هذا اليوم عنه. لن أشكو لأنكم أسرتموني هذه المدة إلا أنكم عطلتموني عن متابعة بحثي "!!

قال الرجل: "لا داع للشكوى. سأعوضك عما خسرتَه من أسرك هنا". ثم أشار إلى أحد رجاله فذهبوا بنا في طريق إلى غرفة فسيحة ملحقة بالكهف، فيها مقاعد. بالطبع لم تكن أنيقة لكنها كانت مريحة!!

جلس الرجل وجلست أمامه، فقال: "أنا سمعان بن هوشع المعروف بباراباس. من عائلة فريسية متدينة موغلة في الوطنية. وقد رأيتُ بعينيَّ طغيان دولة الرومان ومظالمهم الشنيعة، كما رأيت مساندتهم لبيت هيرودس الأدومي الأصل في حكم اليهودية بالقهر والسيف. ومع أنهم أحاطوا هذه الحرية بقيود كثيرة، ويكفي أن تعلم أن رئيس الكهنة، المفروض اختياره من نسل هرون بسلسال طبيعي، صار لعبة في يدهم، فغيَّروا وبدّلوا حسب أهوائهم. لذلك وبحماسة الشباب كوَّنّا فريقاً من الشباب أمثالي، وجعلنا مهمَّتنا محاربة روما بكل وسيلة مشروعة أو غير مشروعة... بالطبع الوسيلة المشروعة غير ممكنة في ظل حكومة الطغيان. وكنا في حاجة إلى مال وقد زوَّدنا أهلونا سراً بالكثير، ولكنه لم يكفِ، فاضطُررنا أن نضع ضرائب غير رسمية على كثيرين من الأغنياء. وبعض هؤلاء أو على الأصح غالبيتهم دفعوا كارهين... بل أنهم كانوا يساندون حكومة الاحتلال. واتضح لنا أن الكثيرين منهم كانوا يدسّون لنا... وكان من أثر ذلك أن أحرقنا مزارع البعض ونهبنا متاجر آخرين... ووصل الأمر إلى القتل. وانضم إلينا عدد من العاطلين... لا أريد أن أبرىء نفسي، فقد انحدر المستوى، ولو أني ظللت أحافظ على الهدف الأصلي، إلا أنه أصبح هدفاً جانبياً. وقامت عصابتي بالسلب والنهب والقتل وهدم البيوت وإحراق المزارع والمتاجر، وأصبح اسمي يثير الرعب والفزع.... ولما كانت المصالح الشخصية تتحكم في معظم الناس، لم يؤيد حركتنا أحدٌ من أصحاب المصالح، ومع أن هؤلاء كانوا قلَّة إلا أنهم كانوا يملكون السلطة أو يقفون إلى جانبها. ولم ينضم إلينا سوى الرعاع الذين لا يمكن أن يجدوا سبيلهم إلا في الفوضى. من أجل هذا أبغضتَنا الطبقة الحاكمة بشدة، وسلَّطت علينا كل قوات الشرطة والأمن، وقام رجال المخابرات بتدبير الكمائن. وكان أن قام أحد الجواسيس بإرشاد فريق المطاردة إلى حيث كنا مختبئين. وقد قبضوا عليّ وعلى دوماس وعلى هاران وزجُّوا بنا في سجن القلعة. وقرر الوالي أن يعلِّقنا على صلبان تحقيراً لنا.

لقد كنت أحمل الجنسية الرومانية، وكان يجوز لي أن أطالب بأن أُقتل بالسيف، ولكنهم رفضوا كل ملتمس وقرروا صلبي وزميلي. ولم تفلح كل المساعي في إصدار عفو عني فبقينا في القلعة، كلٌ منّا في غرفة ضيقة مقيَّدين بالحديد، لا يتسع المكان لنا للنوم إلا واقفين تقريباً. كانت أياماً قاتمة سوداء، وقد بلغ الضيق حدَّه حتى أننا كنا ننتظر يوم صلبنا لنتخلَّص من هذه الحياة الكريهة، برغم ما كنا نعلمه من آلام الصلب!!

وجاء يوم... لا أنسى هذا اليوم، يوم الجمعة. هل كان هو العيد أو قبله بيوم أو بعده بيوم؟ لا أعلم. لقد اختلطت التواريخ عند ذوي الشأن، فاختلفوا في تحديد اليوم. وأنت أيها الغريب لا يهمُّك أن تعرف إلا أنه يوم الجمعة في موسم الفصح.

جاء رجل الشرطة وأمر، ففتحوا زنزانتي وأمر فحلّوا قيودي وسار بي إلى حارس الباب ووشوش في أذنه كلاماً. ظننت أنه يقول أنه سيأخذني لأُصلب، وإذ بحارس الباب يمدُّ يده ويصافحني قائلاً: "أهنئك، فقد صدر الأمر بالإفراج عنك "!!

نظرت إليه وقد بان الغضب على وجهي وقلت: "هل تسخر مني؟ احذر لنفسك. إني لاأزال باراباس، وأستطيع أن أقبض على عنقك بيدي هذه وأرسلك إلى الجحيم في لحظة". فضحك وقال: "لا داع للغضب. أنت ترى يديك محلولتين، والباب مفتوحاً أمامك. هيا انطلق إلى حيث تريد "!!

رأيت أن الرجل يتكلم جاداً، لكني لم أصدق بعد أني حر. لا يمكن أن يطلقوني حراً! لقد قرر الوالي تعليقي على خشبة. ما الذي حدث؟ وقرأ الحارس ما دار في ذهني وأجاب على السؤال الذي لم تنطق به شفتاي، قال: "لقد أخذ شخص آخر مكانك. اذهب تجده هناك على جبل الجلجثة. لقد ذهبوا منذ وقت. وإذا كنت تريد معرفة من الذي فداك فاركض لتتلذذ برؤيته". قلت: "ومن هو هذا المسكين الذي حلَّ محلي؟" فقال: "انه يهودي معلم، اسمه يسوع الناصري".

وثب قلبي في داخلي، إني أعرفه... لقد حدَّثني دوماس عنه، أنه رآه وهو صبي في المهد يوم أن طاردَته عصابتنا بقيادة دوماس، وأن دوماس حالما رآه خرّ على الأرض خاشعاً. بل حدَّثني عن مصري كان راجعاً إلى اليهودية وأنه رفع خنجره ليغرزه في صدره، ولكنه رأى الصبي يتجلى أمامه فسقط الخنجر من يده... وحدثني دوماس عن أعمال عظيمة قام بها هذا الناصري. حدثني عن العيون العمياء التي أعطاها البصر، والآذان الصماء التي منحها السمع، والأجسام البرصاء التي طهرها من البرص، بل قال لي انه أقام موتى... ابن أرملة في مدينة نايين كانوا يحملونه ليدفنوه، أقامه بكلمة".

قلت: "أقول لك إني عندما قبض عليّ رجالك كنت خارجاً من بيت الكاتب لعازر الذي أقامه الناصري بعد أن قضى أربعة أيام في القبر". وقال باراباس انه لم يسمع عن إقامة لعازر. قلت: "لأنك كنت في السجن".

وأكمل باراباس حديثه فقال: "تركت حارس باب السجن وركضت حتى وصلت مقطوع الأنفاس ورأيت الناصري يسر وكأنه يحمل على عاتقه خطايا العالم كله: المرض والحزن والألم والجوع والعري والجروح والدموع والموت... خُيّل إليّ أن هذه كلها وُضعت على عاتقه. وكان يسير خلفه رجل علمت أن اسمه سمعان القيرواني يحمل صليب الناصري!

ثم رأيت الجنود أخذوا الصليب من سمعان ثم قبضوا على الناصري ومدَّدوه على الخشبة وبدأوا بقساوة بربرية... أوه... أوه... وضعتُ يديَّ على عينيّ. لم أستطع أن أستمر ناظراً. لقد قتلتُ كثيرين، لكني لم أكن متوحشاً نظير أولئك الجنود. دقُّوا المسامير الغليظة الخشنة في يديه. وفي نفس الوقت كان جنود آخرون يدقون المسامير في يدي دوماس، وهاران زميليَّ في السجن. كان الجنود يدقون المسامير في الثلاثة في وقت واحد. كان زميلاي يقذفان الشتائم واللعنات والتجاديف. لقد لعَنا الجنود والحكام وقائد القلعة والوالي، كما لعنا المجمع والهيكل ورؤساء الكهنة، لعنا بيت هيرودس... بل لعنا اسم الله. ماذا كانا يخشيان؟

أما الناصري فكان يرسل أنيناً عميقاً دون أن ينطق بكلمة....

وبعد أن فرغ الجنود من دقّ المسامير ربطوا الأجسام... وانتبهتُ إلى الناصري: ربطوا جسده بحبال إلى الخشبة، ثم أقاموها ودفعوا بها إلى الحفرة التي أعدُّوها، فتمزَّقت أوصاله وسال عرقه غزيراً وشحب وجهه وصدرت منه كلمات سمعناها كلنا: "يا أبتاه، أغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون". سقطتُ على وجهي وأنا أقول: "أنا يا رب. أنا الذي كان يجب أن يحتمل هذا المصير. لا أجسر أن أطلب منك الغفران. لا أستحقه. كلا.... لا أستحقه".

كدت أهجم على الجنود. قلت في نفسي أين رجالي؟ أين أسلحتي لكي أهجم على أولئك الجنود القساة. ثم نظرت إلى الجمهور الواقف يتفرج. رأيت عدداً كبيراً من الناس العاديين ومن الكهنة ومن الرؤساء. وقد فزعتُ عندما رأيت تصرُّفهم أكثر مما فزعت من الجنود وهم يدقون المسامير. كانوا يهزون رؤوسهم وهم يقولون: "آه يا ناقض الهيكل وبانيه في ثلاثة أيام". ورأيت رؤساء الكهنة يقولون "لينزل الآن عن الصليب فنرى ونؤمن...... لقد زعم أن الله أبوه، فليطلب من أبيه أن يخلصه".

وصرخت بأعلى صوتي، ولكن صوتي ضاع في الضوضاء. انزل أيها الناصري، انزل عن الصليب، ثم اطلب أن تنزل صاعقة تحرق هذا الجمهور الجاحد الشرير. كيف تقول: يا أبتاه اغفر لهم؟ لا يا رب، لا يا رب لا تغفر! لا تغفر!

سقطت مرة أخرى على الأرض... لم أسمع كلام الناصري. سمعت زميليّ يعيّران الناصري. يقولان: "تُرى هل هم صادقون أنك أيها الناصري مضلّ؟ هل كنت تدجّل على الناس؟ إن كنت ابن الله فانزل عن الصليب. خلّص نفسك وخلصنا".

اندهشت وأنا أسمع دوماس يتفق مع زميله في تعيير الناصري. كان دوماس يذكر أعمال الناصري الطيبة، فهل نسيها؟ لقد غضبت عليه. لقد كان دوماس رجلاً حتى في أعماله اللصوصية، لكنه في تصرفه هنا ظهر حقيراً. على أنه يبدو أنه راجع نفسه.

رأى السيد يحتمل بصبر الألم والجحود. رآه يطلب من الله أن يغفر، ورآه يتقبل الاهانات من الجمهور منه ومن زميله. عاد إلى نفسه وذكر أعمال الناصري، فوبَّخ نفسه وصمت، ولكن زميله لم يصمت، بل اشتدت كلماته، فصرخ فيه: "اصمت أيها اللص. اصمت أفلا أنت تخاف الله، إذ أنت تحت هذا الحُكم بعينه؟ أما نحن فبعدلٍ لأننا ننال استحقاق ما فعلت أيدينا".... ثم صمت برهة ونظر إلى المعلم الناصري. لم ير مذنباً محكوماً عليه بالصلب، لكنه رأى ملكاً يسير نحو ملكوته. نعم انه يسير في طريق قاس، لكنه سيصل إلى عرشه، فقال: "اذكرني يا رب متى جئت في ملكوتك". لقد فتح الله عيني دوماس فرأى يسوع لا مذنباً سيموت، ولكن ملكاً يسير نحو عرش ملكه. بل إلهاً ورباً.... يموت برغبته لا مرغماً. يموت عن غيره... لقد فهم دوماس الأمر وهو معلّق. أما أنا فقد فهمته أكثر لأنه مات وسمعت الناصري يقول لدوماس: "الحق الحق أقول لك انك اليوم تكون معي في الفردوس".

طوبى لك يا دوماس. ربي اجعل هذا الغفران أيضاً من نصيبي!

وبينما أنا غارق في دموعي أحسست أن الشمس تغيب مع أننا كنا في الظهيرة.

فتحت عينيَّ فإذا الدنيا ظلام... وإذا زلزلة هزت المكان. انشق حجاب الهيكل. الجبال قذفت أحجارها والصخور تشققت والقبور تفتحت، وأبصرت أجسام الراقدين تتحرك وتقوم... وأبصر الناس هؤلاء الأحياء يسيرون في طرقات المدينة وسمعت السيد في الساعة التاسعة يقول: "قد أُكمل... يا أبتاه في يديك أستودع روحي". وأسلم الروح.

ثم مضى باراباس يقول: "انصرفت الجماهير، فرفع قائد المئة رأسه إلى السماء وقال: "حقاً كان هذا الإنسان باراً. حقاً كان هذا الإنسان ابن الله".

لم أستطع أن أفهم الصليب. كنت أعرف أن الناصري كان يمكنه أن يخلص نفسه، فلماذا لم يفعل ذلك؟ كنت أعلم أنه يستطيع أن ينتقم من خصومه ومن المسيئين إليه، فلماذا لم ينتقم؟ كنت أعلم أنه يستطيع أن يشكوهم لله فلماذا طلب الغفران؟ كنت أعلم أنه في إمكانه أن ينزل عن الصليب ويعيش، فلماذا ظلَّ على الصليب إلى أن مات؟

كان الصليب لغزاً. لم أستطع أن أقبل أن ينتصر الباطل على الحق، وأن يفوز الظلام على النور، وأن يهزم الموت الحياة. نعم، لم أستطع أن أفهم الصليب. ظللت في مكاني إلى أن مال النهار إلى المغيب.

رأيتهم يدلُّون المعلم ويلفوُّنه بأكفان ويضعون شيئاً من الطيب. شيخان فعلا ذلك. كنت أعرفهما. كانت لهما صلة بعائلتي: الرئيس نيقوديموس والرئيس يوسف الرامي. اثنان من كبار الرؤساء. وقد اندهشت أنهما وهما الفريسيان يكرمان جسده

ظللت طوال السبت في البيت، وفي صباح الأحد انطلقتُ ميمِّماً القبر الذي دُفن فيه الناصري- وفي طريقي سمعت امرأة تركض وهي تحدث نفسها: "لقد سرقوا الجثمان ولست أعلم أين وضعوه". وبعد فترة مرَّت جماعة من النسوة وهن يقُلن: "لقد رأينا القبر فارغاً، وظهرت لنا ملائكة قالوا إن السيد قام كما قال". لقد سبق المعلم وقال للتلاميذ انه سيموت، ولكنه بعد ثلاثة أيام يقوم... وقام يسوع من الموت.

فلما تحققتُ أنه قام بدأ لغز الصليب يتفتَّح. كان ينبغي أن يموت السيد، فان أجرة الخطية هي موت. ولقد سمعت من دوماس الكلمات التي قالها له المصري إن الملائكة أعلنت أنه ولُد مخلص هو المسيح الرب، وأن المعمدان أشار إلى يسوع وقال: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم". حاولت أن أرى المعلم فلم أوفَّق، لكني تيقَّنتُ ممن رأوه أنه قام، فركعت وقلت: "أيها الناصري، آمنت يا سيدي فاقبلني ضمن رعيتك". وإذ ذاك ملأ السلام قلبي، وأحسست أني أصبحت إنساناً جديداً.

لست أنا باراباس القديم القاتل، أنا باراباس المؤمن الذي مات المسيح عني... نعم عني أنا فعلاً. كان ينبغي أن أموت أنا، ولكنه مات نيابة عني. ونيابة عن دوماس، وأرجو أن يكون هاران أيضاً قد آمن.

شخص حكم عليه المجمع الكبير بالضلال، وطلب من الحاكم الروماني أن يصلبه. لم أُتعب نفسي بالسؤال عن هذا الأمر. كنت مشغولاً بموضوع الصليب، بلغز الصليب، وسرّ الصليب. عُدت إلى المدينة وقضيت الليلة في بيتنا، أقصد بيت الأهل، وكانوا ينتظرونني. وقد أخبروني عن سر إطلاق سراحي. قالوا لي إن الوالي بعد أن تحقق من براءة ساحة الناصري أراد أن يطلقه، وبذل كل مسعى في ذلك، ولكن أصوات رؤساء اليهود ارتفعت على صوت العقل وهم يصيحون: اصلبه! اصلبه! وكانت العادة أن يفرج الوالي في العيد عن سجين، فعرض الوالي أن يفرج عن يسوع، وخيّرهم بين يسوع وبيني. وكان أهلي ينتظرون أن يطلق الوالي يسوع، ولكنهم اندهشوا وهم يسمعون: أطلق باراباس. يا للعجب! يطلبون صلب المحسن الكبير والإفراج عن القاتل المجرم الذي طالما جعل أيامهم خوفاً ولياليهم رعباً. والعجب أنهم يدَّعون أنهم أبناء الله، وأنهم عبيد الله.

وها أنا جئت اليوم لأحوّل مكان العصابة إلى هيكل للمؤمنين، ولأحوّل من اللصوص خداماً للمسيح، ولأكرس حياتي لخدمة المسيح"!!

ابتسمت وقلت: "باراباس، هل تعلم من هو المصري الذي أشرع دوماس خنجره في وجهه؟ انه أنا يا باراباس. صرخت بدون صوت: أنقذني أيها الناصري، ورأيت الخنجر يسقط الى الأرض. وكنت أظن أن دوماس سيكفُّ عن شروره.... على كل حال شكراً لله أنه آمن... وأنك أنت آمنت!!

أما أنا فقد آمنت من قديم، وها أنا منطلق أبحث عن سيدي لأراه بالعيان، وأفرح بهذه الرؤية".

قبَّلت باراباس وانطلقتُ إلى المدينة- على أني قبلما أتركه قدمتُ له حبة لؤلؤ سوداء طلبت منه أن يحتفظ بها على سبيل التذكار، فقبلها ووعد أن يحتفظ بها طوال حياته تذكاراً لارتباطنا معاً في الوقوف مع الناصري!!

  • عدد الزيارات: 3609