الفصل الثاني عشر: أصدقاء وخصوم
قضيتُ الليل في بيت زكا. نِمت على سرير مريح في غرفة الضيوف، وأصرّ زكا أن ينام على سرير مقابلي. تمددنا على الفراش ولكننا لم نستغرق في النعاس إلا قرب الفجر. كان يحدّثني عن الناصري وعن آياته وتعاليمه. كان يؤكد لي أنه هو هو المسيا الذي تنبأ عنه الأنبياء. وهو الذي كان يشتهي القديسون أن يروه. هو انتظار الشعب ورجاؤهم. قلت: "لكني لاحظت أن كثيرين يقاومونه". أجاب: "أنا أعلم ذلك. إنهم لم يعرفوه... كنا ننتظر مسيحاً ملكاً له جند وأسلحة يأتي فيجلس على عرشه ويسحق قوات العدو، ولكنه جاء وديعاً ومتواضعاً. على أن الذين راقبوه جيداً أدركوا أنه السيد حقاً، وأنه يملك أعظم قوة في الأكوان. لقد هزمتني محبته وسحقتني سحقاً. ومع أني لا أفهم بعد كل شيء فاني أتأمل في إعلانه أنه سيموت، وأن الرؤساء سيقتلونه- وأنه سيقوم. إني أتأمل في هذا الإعلان الذي كرره أمام بعض أخصائه وأسأل عن معناه، كما أسأل عن معنى موته وقيامته. إن هناك أشياء غامضة تحيط به. فأنت تراه إنساناً كسائر الناس يأكل ويشرب وينام ويجوع ويتعب ويحزن ويتألم، ولكنك إذ تتبعه تكتشف أنه لا يمكن أن يكون مجرد إنسان. وهل يمكن لإنسان أن يتسلَّط على المرض والبَرَص والريح والهواء والموت؟ إنني وقد تابعتُ ما قام به أوافق الكثيرين الذين تساءلوا: من هو هذا؟ ومع أني لا أفهم تماماً معنى أنه "الله ظهر في الجسد". إلا أني سجدت له على اعتبار أنه هو الله. على الأقل هو الملاك الذي ظهر في البرية لموسى، والذي أعلن عن نفسه "أنا الرب إلهك". وأنا لا أريد أن أتوغل في الحديث. يكفي أن أؤمن بقلبي ولو لم أفهم تماماً بذهني. وأنا أفهم أن محبته أذابت قلبي وطردت خطيتي. ومع أني لم أفهم معنى موته كفارة عن خطايا العالم، إلا أني لا أُتعب نفسي في البحث والتدقيق. يكفي أن أقول إني مؤمن بما قاله الملاك للرعاة: "ولُد لكم في مدينة داود مخلّص هو المسيح الرب".
لكن الفريسيين أبغضوه لأنه كشف رياءهم. وهم جماعة متكبّرة تطلب أن الناس تمجّدهم وتحيّيهم. تطلب الأماكن الأولى في المجالس والتحيات في الأسواق، وتحتقر الشعب والعشارين. وجاء الناصري يحب العشارين والخطاة ويجلس معهم على الأرض، لا كما يفعل المراؤون، ويعلن أن الله آب سماوي لجميع الناس، وأنه أرسل ابنه ليخلص الخطاة، وقال: "لا يحتاج الأصحاء إلى طبيب بل المرضى". وقال إن الله يهتم بهؤلاء أكثر مما يهتم بالأبرار الذين لا يحتاجون إلى التوبة. وأنه نظير الراعي الأمين يترك القطيع كله ليبحث عن الخروف الضال. من أجل هذا أبغضوه!
على أن البعض ممن عرفوه أحبوه وأعلنوا ولاءهم له. فقد سمعتُ أن نيقوديموس ويوسف الرامي ويايرس من زعماء الفريسيين اعترفوا بأنه نبي، وقد سمعتُ أن الكاتب لعازر وبيته يحبون السيد، ويكرمونه وأن بيت عنيا مفتوح له"....
قلتُ: "لقد سبق لي أن جلست مع نيقوديموس ومع يايرس. لم أتعرَّف بعد بيوسف الرامي مع أني سمعت عنه. على أن اسم الكاتب لعازر غريبٌ على أذني".
قال: "لعازر من طائفة الفريسيين الممتازين. هو من خلفاء عزرا الكاتب ولكنه صنف ممتاز... ممتاز جداً. يكون من حسن حظك أن تتعرف إليه. إنه يعيش مع أختيه مرثا ومريم. وقد بلغني أنه كان في العائلة شخص آخر اسمه سمعان، وقد أُصيب بالبَرَص، فهو يعيش في محلة البُرص. لا أعلم هل هو زوج مرثا أو أبوها... أنصحك أن تذهب إلى بيت عنيا وتسأل أي واحد في الطريق عن بيت لعازر الكاتب أو مرثا أو مريم، بل يمكنك أن تسأل عن بيت سمعان الأبرص. انه بيت كبير جداً يمكنه أن يستضيف أزيد من خمسين شخصاً في وقت واحد لعدة أيام".
شكرت زكا، وخرجت ميمماً بيت عنيا. يظهر أني ضللت الطريق، فلم أصل إليها إلا بعد الغروب بوقت، فوجدت الجميع في بيوتهم، والظلام يعمُّ المكان. لم أجد فرداً واحداً في الطريق لأسأله عن بيت لعازر الكاتب. وظللتُ أسير في الشارع الكبير، وفي مواجهتي رأيت بيتاً كبيراً يظهر شيء من الضوء في نافذة مرتفعة منه، فتجاسرت وطرقت الباب. وإذا بصوت من الداخل يقول: "من يطرق الباب؟"
أجبت: "غريب يرغب أن يهتدي إلى بيت لعازر الكاتب". وكان الجواب أن هذا الباب بابه. وإذ ذاك سمعت حواراً بين من سأل وبعض من الدار. لم يمض إلا القليل حتى سمعت صوتاً حلواً يقول: "مرحباً بالضيف الكريم.... جئت أهلاً ونزلت سهلاً. أعدّوا العشاء للضيف". وجلسنا على مائدة حافلة بكل طعام طيب.
جلس لعازر معي، ووقفت مرثا تخدم مع عبيد الدار. أما مريم فجلست في مقعد منخفض قريب.
ورويتُ لهم قصة خروجي من القرية التي عاش فيها آبائي وأجدادي. لم نكن نعرف شيئاً عن إله أو دين، إلى أن فتح أحدهم ذهننا فخرجتُ أبحث عن الله... ظللت سنين طويلة أجول بلاد العالم إلى أن عرَّفوني على ذاك الذي قيل فيه "الله لم يره أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو خبَّر". سمعت عنه الكثير. آمنت به على البُعد، وحاولت أن أتلاقى معه، لكن حظي السيئ لازمني، فقد كنت أصل إلى حيث يوجد، فيُقال لي: "لقد كان هنا ومضى منذ أيام قليلة". وضحك لعازر وقال: "وكذلك الأمر معك اليوم، فقد كان عندنا منذ يومين".
قلت: "على كل حال أرجو أن أسمع منكم شيئاً عنه. إن قلبي جائع لأخباره". وقال لعازر: "إذن لنطلب من شقيقتي مرثا لتقوم هي بالحديث، لأنها لا تمل الحديث عنه. وقد يروقك الحديث فتستغني عن النوم، فقلت: "إني جاهز لذلك إذا كانت هي تستطيع السهر".
واستأذن لعازر وأخته مريم، وبقيت متكئاً على أحد المقاعد، وجلست مرثا على مقعد مواجه. وقالت: "لن أذكر لك إلا حادثة واحدة من عظائم المعلم الكبير يسوع المسيح ابن الله، الطريق والحق والحياة".
جاء المعلم بيت عنيا ومعه تلاميذه الاثنا عشر. جاء على ما يبدو من مكان بعيد. ليس في قريتنا خان. لم يجد باباً يُفتح له إلى أن وصل إلى بيتنا. ففتحتُ له الباب الكبير. رحّبت به وبمن معه. شكراً ليهوه أن بيتنا يتسع للضيف، بل شكراً له أن قلبنا يتسع. كنت أظن أني أقدّم له جميلاً إذا قبلته في بيتي، ولم أكن أعلم أنه هو المتفضِّل عليّ وعلى جميع أفراد بيتي- فمنذ دخل بيتنا امتلأ البيت بالبركات... وكما قلت لك لن أتكلم معك إلا عن حادث واحد!
لا شك أنك سمعت أني منذ مرض زوجي أتيت لأقيم مع أخي لعازر الذي كان يقيم مع شقيقتنا مريم بعد انتقال أمنا إلى الحياة الأخرى. كان شقيقنا لعازر لنا كل شيء، أعز علينا من نفس الحياة. كنا نحس أن الله يعطينا الحياة لكي نقوم على خدمته. يستيقظ في الصباح فنسارع إلى غرفته لنقوم بكل ما يلزم له إلى أن يتركنا إلى مكانه في الهيكل لينسخ الكتب المقدسة. وبعد أن نفرغ من كل ما يلزم للبيت نترقب عودته بلهفة.
هذه هي حياتنا، ذكرت لك ذلك حتى تعرف أثر الحادث الذي أرجو أن تتفهَّمه على حقيقته!
تأخر لعازر في الفراش على غير عادته، فأسرعت إلى غرفته ووجدت أختي مريم عنده. كان وجهه أحمر قانياً. لمستُ جبهته فلسعتني نار محرقة. عندما رآني حاول أن يبتسم ولكن محاولته أسفرت عن أنّة باكية. دعونا الطبيب المجاور لمنزلنا، وهذا دعا طبيباً آخروآخر... وجاء عدد من الأصدقاء، هذا والمرض يشتدّ، وأخونا الحبيب يئن أنيناً حزيناً... سألنا عن صديقنا الحبيب الذي له في قلوبنا أعلى مكانة. كنا نعرف أن له مكانة عند الله، وكنا نعتقد أنه أكثر من نبي، لكننا لم نكن نعرف الحقيقة التي عرفناها فيما بعد. سألنا فعرفنا أنه في مدينة مجاورة، فأرسلنا له صديقاً. لم نرسل أحداً من الخدم، بل أرسلنا أحد الأصدقاء برسالة قصيرة نقول: "يا سيد، الذي تحبه مريض". وعاد رسولنا في نفس اليوم يقول انه أبلغ الرسالة للمعلم، وان المعلم قال: "هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله، ليتمجد ابن الله به".
حملت كلمات السيد رسالة تطمين، لكن حالة شقيقنا أخذت تسوء، وجاء الصباح والحالة أشد سوءاً، وفي المساء أسلم لعازر أنفاسه الأخيرة. ولا تعلم مقدار الحزن الذي ملأ قلوبنا. صحيح أن لعازر قام من الموت، ولكننا لا نزال نحس بلهيب الجرح العميق في قلوبنا. لا أزال أنا وأختي نبكي بمرارة. كانت الصدمة قاسية. مات لعازر، ولكن يدهشك أن تعرف أن ثقتنا في السيد لم تتزعزع. لم نفهم معنى ما قاله: "هذا المرض ليس للموت، بل لأجل مجد الله، ليتمجَّد ابن الله فيه". ماذا يقصد بهذه الكلمات؟.... جعلنا في دموعنا نعيد ونقلب في هذه الكلمات إلى أن احترقت قلوبنا.
وقد أخبرنا التلميذ بطرس فيما بعد أن السيد حينما سمع الرسالة التي أرسلناها مكث في المكان يومين. قال لنا إن اليهود كانوا يطلبون أن يقتلوه، وظن التلاميذ أنه لم يفكر في الذهاب إلى بيت عنيا بسبب مؤامرة اليهود. وقال بطرس إن المعلم فاجأنا في اليوم الثالث بالقول: "لنذهب إلى اليهودية أيضاً". فقلت له: "يا معلم، الآن كان اليهود يطلبون أن يرجموك، وتذهب أيضاً إلى هناك؟!". فأجابنا بكلمات غريبة: "أليست ساعات النهار اثنتي عشرة. إن كان أحد يمشي في النهار لا يعثر لأنه ينظر نور هذا العالم، ولكن إن كان احد يمشي في الليل يعثر لأن النور ليس فيه". ثم فاجأنا بالقول: "لعازر حبيبنا قد نام، لكني أذهب لأوقظه". فقلنا له: "يا سيد، إن كان قد نام فهو يُشفى". كنا نظن أنه يقصد رقاد النوم، بينما كان هو يقصد أن يبلغنا أنه مات. إذ ذاك قال لنا علانية: "لعازر مات"!!
كانت رسالة شديدة الوقع علينا... كأن السيد يكلمنا بألغاز... وقد ختم إعلانه عن موت لعازر بكلمات أكثر غرابة من كل ما سبق. قال: "إني أفرح أني لم أكن هناك لتؤمنوا. ولكن لنذهب إليه"!!
وجاء يسوع إلى بيت عنيا بعد أربعة أيام من موت شقيقنا. وسمعت عن مجيئه. قالوا انه في بيت أحد الأصدقاء في طرف المدينة، فأسرعت لأراه. تركت النساء النادبات والمشاركات. وذهبت اليه. وحالما رأيتُه قلت: "يا سيد، لماذا تأخرت؟ لو كنت ههنا لم يمت أخي؟". كانت كلماتي تجسيداً لعتاب نفس مملوءة حباً وولاءً وايماناً...
نعم إيماناً تعرض للزعزعة. على أني أضفت كلمات أخرى غريبة. قلت: "لكن الآن أيضاً أعلم أن كل ما تطلب من الله يعطيك الله إياه". لم أكن أقصد بالطبع أنه سيطلب إقامة اخي. كنت أقصد أنني لا أزال أؤمن بعلاقته الكاملة بالله التي تجعل لطلباته مقامها الخاص. أعترف أن إيماني لم يصل إلى القوة التي قد تحملها كلماتي- بدليل إجابتي للسيد عندما قال لي "سيقوم أخوك". فقد قلت: "أنا أعلم أنه سيقوم في القيامة في اليوم الأخير". أنت ترى أنني كنت أؤمن بالقيامة، وكانت الحياة الأخرى غامضة نوعاً، لكننا نؤمن أننا سنكون على أقرب قرب من إبراهيم!!
وكان جواب السيد لي أعجب ما سمعناه منه. قال: "أنا هو القيامة والحياة... من آمن بي ولو مات فسيحيا، وكلُّ من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد. أتؤمنين بهذا؟". أقول لك الحق إني لم أفهم هذا الكلام. "أنا هو القيامة... والحياة"ما معنى هذه الكلمات؟" من آمن بي ول مات فسيحيا، وكل من كان حياً وآمن بي فلن يموت إلى الأبد". ماذا يقصد السيد بهذا الكلام؟ ها هو أخي كان يؤمن بالمسيح، مع ذلك مات... لكن السيد يقول هذه الكلمات فأنا أؤمن بها ولو لم أفهمها، فجاوبت سؤاله: "أتؤمنين بهذا" بقولي: "ياسيد أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم"!!.
وطلب المسيح مني أن أدعو أختي، فعدتُ إلى البيت وهمست في أذن أختي: "المعلم قد حضر وهو يدعوك". فقامت سريعاً وذهبت إلى حيث كان يسوع. ولما لاقته فاض حزنها وانفجر ألمها، فخرَّت عند قدميه وقالت: "لماذا تأخرت؟ فلو كنت ههنا لما مات أخي". كانت عيناها الباكيتان تعتبان عليه بشدة.... كيف هان عليك أن تترك حبيبك يموت؟ وأحاط بمريم الجمهور الغفير الذي كان في البيت، وارتفع الشهيق وفاضت الدموع، وأبصر السيد عالماً من العيون المقرَّحة وسيلاً من الدموع، فجاشت عواطفه إذ رأى الإنسانية البائسة التي تحصد ثمار الخطية، وطفرت الدموع من عينيه وبكى... نعم بكى السيد مشاركاً الإنسانية الحزينة... وسأل: "أين وضعتموه؟".
لا شك أن الجمهور ظن أنه يريد أن يصل إلى القبر ليبكي هناك. فقالوا له: "تعال وانظر". ولما رآه الجمهور يبكي قال بعضهم: "انظروا كيف كان يحبه". على أن البعض الآخر قال مؤاخِذاً: "ألم بقدر هذا الذي فتح عيني المولود أعمى أن يجعل هذا أيضاً لا يموت؟". سمع يسوع كل هذا الكلام فترك في نفسه الرقيقة الحساسة آثاراً عميقة. نشكر الله أن يسوع جاءنا ابن الله و... ابن الإنسان أيضاً. وحاجتنا إلى ابن الإنسان لا تقلُّ عن الحاجة إلى ابن الله.
ثم قال السيد: "ارفعوا الحجر".
وهنا انزعجت.... إن إكرام الميت دفنه كما يقولون. لا نقبل أن نرى الميت منتناً. فلت: "يا سيد، قد أنتن لأنه له أربعة أيام، فنظر إليّ عاتباً وقال: "ألم أقل لك: إن آمنت ترين مجد الله". تسمَّرت في مكاني. وقفت وقد فقدت كل تفكيري. ما عسى يحدث؟ راودتني أفكار كثيرة. ترى ماذا يكون مجد الله هذا؟ ألعل قوة المسيح تحتفظ بجسد الشقيق دون أن تطرأ عليه عوامل الانحلال؟ خطر كل شيء ببالي، ما عدا ما حدث فعلاً. أنت ترى أننا كنا نؤمن بالسيد فعلاً. كنا نؤمن به نبياً. كنا نؤمن به ابن الله بمعنى أنه مختار من الله. لم يبلغ إيماننا به أنه هو الله نفسه، وأنه هو رب الحياة، فإننا لم نكن نعرفه. إن الله يا صديقي فوق كل فهم... ووقف المسيح أمام القبر المفتوح، ورفع عينيه إلى فوق وقال: "أيها الآب". قد علَّمنا أن الله أبونا، وكان هذا إعلاناً جديداً. كنا ننظر إلى الله أنه السيد "شدَّاي" اليد القوي العادل، لكنه علَّمنا أن الله أبونا، وأنه يحبنا ويهتم بنا ويعتني بكل ما يتصل بحياتنا، وطلب منا إذا وقفنا نصلي أن ندعوه باسمه المحبوب"أبانا الذي في السموات".
على أنه هو كان يعتبر بنوَّته لأبيه من نوع أعلى. انه الابن الوحيد الذي في حضن الآب. انه يخاطبه بكل دالة البنوَّة"أيها الآب". قال: "أيها الآب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا موقن أنك في كل حين تسمع لي. إني يا أبي أعلم هذا. لا أحتاج إلى برهان لتوكيده. ولكني أطلب أن يعلم هذا الجمهور أنك أرسلتني".
وصمت لحظة واحدة، ثم صرخ بصوت عظيم، ليسمع كل الناس. الكثيرون من الدجالين يتمتمون بتعاويذ وأشياء التعاويذ، أما السيد فيعلن كل شيء بصوت مسموع... بل بصوت مرتفع:
"لعازر هلم خارجاً".
كنا قد لفَفنا الوجه بمنديل يغطي عينيه ويُحكِم غلق فمه، ولففنا جسده بأقمشة ووضعنا الطيّب على كل ساق وكل قدم وحدها... ونظرنا وإذا بحركة في الجسد المُسجَى... قام لعازر كما يقوم النائم، ووقف في مكانه وبدأ يتحرك ببطء بسبب الأربطة. كان الجمع في الخارج يتطلع بخوف. أما أنا وأختي فنظرنا بمزيج من فرح وخوف وشك وإيمان، عندما سمعنا السيد يقول: "حلّوه ودعوه يذهب". فاندفعنا نحوه، وبدأ بعضنا يقبّله وبعضنا يحل أربطته. وتزاحم القوم حولنا حتى كادوا يُطبقون على أنفاسه. فحمله بعض رجالنا واختطفوه من الجمع، وسرنا في طريقٍ جانبي بعيداً عن الجمهور، ووصلنا به إلى البيت.
لكن الجماهير هجمت على البيت، وامتلأت الغرف والقاعات والفناء الكبير حتى لم يبق مكان. فأخذنا لعازر إلى غرفة داخلية، ثم خرجنا للجمهور والتمسنا منهم أن يتركونا اليوم. وسنُقيم في الغد حفل عشاء، ندعو فيه الجميع، ويكون لعازر حاضراً.
على أنهم لم ينصرفوا إلا بعد أن قدمنا أكواب شراب الليمون وشراب البرتقال.... خرجوا وهم يتحدثون عن المعجزة الكبرى!!
أما نحن فقد كنا قبل هذه المعجزة نؤمن بالسيد. كنا نؤمن أنه نبي ممتاز، وأنه ابن الله بمعنى من المعاني. ولكننا بعد هذه المعجزة رأينا شخصاً آخر. نعم رأينا ابن الإنسان. لكننا رأينا أكثر من ذلك. رأينا ابن الله رب الحياة... كيف يمكن هذا؟ هذا ما لم تدركه عقولنا. ولكن روح الله ملأنا فآمنا أن المسيح هو الله نفسه ظاهر في الجسد!
وآمن عدد كبير من اليهود به أنه مرسل من الله، وأنه نبي عظيم. قالوا: "قام فينا نبي عظيم، وافتقد الله شعبه".
غير أن يهوداً آخرين ملأ الشر قلوبهم فوجدوا في المعجزة موضوعاً للإساءة للسيد، فذهبوا إلى الفريسيين وأخبروهم عن المعجزة... وبلغ الأمر رؤساءهم، فاستدعوا المجمع الكبير وقالوا: "ماذا نصنع، فان هذا الإنسان يعمل آيات كثيرة؟" لم يستطيعوا أن ينكروها، ولكنهم بسبب قساوة قلوبهم لا يؤمنون أنه من الله. قالوا انه يتحالف مع الشيطان، وفوق ذلك فإنهم لم يهتموا بالأمر إلا من ناحية أنفسهم، وقالوا: إذا استمر يعمل هذه الآيات فان كل الشعب سيؤمن به مسيحاً وملكاً. والرومان لا يمكن أن يسكتوا عن ذلك. إنهم لا يتسامحون مع من يتحدَّى سلطانهم. وسيرى الرومان أننا أضعف من أن نقف في وجه ذلك الملك فيأتون ويأخذون بلادنا وأمَّتنا. كان كل اهتمامهم بمركزهم فقط!
وهكذا فكروا في علاج شرير، ليمُت يسوعُ هذا. ليمُت ولو كان بريئاً. وقالوا: "انه خير لنا أن يموت إنسان واحد عن الشعب، ولا تهلك الأمة كلها".
قالوا ذلك من وجهة نظرهم، ولكن الله كان قد رتَّب فعلاً أن يموت المسيح عن الشعب. فهل كان رئيس مجمعهم يتنبأ؟ من يعلم؟
ومن ذلك الوقت تشاور رؤساء اليهود ليقتلوه... بل تشاوروا أن يقتلوا لعازر أيضاً....
بدأ المسيح يسير مختفياً. ترك أورشليم وبيت عنيا وذهب إلى الكورة القريبة من البرية إلى مدينة يُقال لها أفرايم؟
هذه قصة بيتنا يا صديقي، وهذه قصة ايماننا. ألست ترى إذن أننا نحن لا نبحث عن الله، ولكن الله هو الذي يبحث عنا؟
شكراً لله أنك آمنت بالله الذي أخرجك تبحث عنه... لكن أشير عليك أن تذهب لتراه في مدينة أفرايم... اذهب تشملك بركة الله....!!
- عدد الزيارات: 2605