أيوب بار في عيني نفسه - ما هي الدروس لنا من سفر ايوب؟
ما هي الدروس لنا من سفر ايوب؟
" كل ما سبَقَ فكُتب، كُتِب لأجل تعليمنا "(رو ١٥: ٤)
"هذه الأمور حدثت مثالاً لنا ... وكُتبت لإنذارنا نحن" ١كو ١٠: ١١) "سمعتم بصبر ايوب ورأيتم عاقبة الرب، لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف" (يع ٥: ١١)
ويقول الرب : "إن سكبتُ غضبي على الارض ... وفي وسطها نوح ودانيال وايوب فلا يُخلّصون ابناً ولا ابنة، انّما يخلّصون انفسهم ببِرّهم" (حزقيال ١4: ١٤، ٢٠)
إنّ سِفْر ايوب الذي يحتوي على ٤٢ اصحاح مليء بالدروس العملية لنا نحن اليوم.. ان بعض النقاط الاساسية التي نأخذها اليوم هي أوّلاً أن الرب يرفض العلاقة الشكلية معه، فلا قيمة للاقتراب الى الرب بالشفتين فقط بينما القلب بعيداً عن الرب. ولا يُبعد قلوبنا عن قلب الرب الا الكبرياء الروحي والاعتداد بالنفس والشعور بالبِرّ الذاتي والاتّكال على أعمال ومواقف اجتزناها في الماضي... والقلب المنتفخ يعطي مكاناً لإبليس في حياتنا، فيحتاح الرب بسبب محبته ونعمته أن يتعامل معنا وأن يُجيزنا في فحص ذاتي أليم حتى نرفض ذواتنا ونصرخ قائلين "ويحي انا الانسان الشقيّ ". لكن الرب يبدأ بهذا، عندما نطلب التكريس ونريد ان يستخدمنا ونصلّي لكي ينقّينا، عندها يجلس بعد أن يُدخلنا الى التنّور الملتهب كالذهب فيصفّينا، وهدفه الاساسي أن نكون مقرَّبين للرب ومَرْضيين لديه (ملاخي ٣: ٣).
يا لصدمة مؤمن يظنّ ويتوهّم انه مَرْضيّ أمام الرب، واذا فحص ذاته، وجدها بلا ذنب! ... يا لوهم مَن يمتحن نفسه، فيخرج منتفخاً معتدّاً بذاته... لذا قال الرسول بولس "لست أشعر بشيء في ذاتي. لكنني لست بذلك مبرّراً. ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب" (١ كو ٤: ٤). وقال أيضاً "لست احسب نفسي اني قد ادركت "(في ٣: ١٣)، ويعقوب الرسول يقول "في أشياء كثيرة، نعثر (او نسقط او نفشل) جميعنا" (يع ٣: ٢). وداود النبي يقول " قريب هو الرب مِن المنكسري القلوب" (مز ٣٤: ١٨) والنبي اشعياء يعلن ان "العليّ يسكن مع المنسحق والمتواضع الروح" (اش ٥٧: ١٥). اما الحكيم في عيني نفسه والبارّ في حكم ذاته الذي لسان حاله يقول "قِفْ عندك، لا تدْنُ منّي لأني أقدس منك" (اش ٦٥: ٥). فمثل هذا يكون مزعج للرب كالدخان في الأنف.. أناس يعدّدون دائماً حسناتهم وأعمالهم وتضحياتهم، هؤلاء لن يفرحون أبداً لانهم يشعرون ان الله العظيم مديون لهم! (لوقا ١٥: ٢٨، ١٨: ١١).
لكن عندما نقرأ ما حدث لأيوب، تزداد ثقتنا بأن كل ما يحدث في حياتنا من صعوبات عائلية ومادية وصحيّة أو اتّهامات وإساءات، كل هذه هي يد الرب المُحبّ التي ثُقبت لأجلنا الذي لم يُشفق الآب عليه بل بذله لاجلنا!. هل عندنا يقين ان كل ما يحدث هو من الرب وللرب قصد خير في ذلك لنا ؟. (مز ٣٩: ٩). وهل نعلم حقّاً أنّ كل الامور – بضمنها القاسية ايضاً – تعمل معاً للخير؟ (رو ٨: ٢٨)، وهل نأخذ هذه الامور كلّها مِن يد الآب المحب؟. هو يَجرَح وهو يعصب أيضاً (ايوب (٥: ١٨)، وهو يتضايق في ضيقنا (اش ٦٣: ٩)، فانه، ولو أَحزن، يرحم حسب كثرة مراحمه، لأنه لا يذلّ من قلبه" (مراثي ٣: ٣٣)، فهو كالأم الحنون التي لكي تُخرج الشوكة مِن اصبع ابنها، تحتاج أن تُؤلمه قليلاً وتدمع عيناها لأنها تحبّه وتفكّر في راحته وتتألّم لألمه.
إن الرب يعرف أن فينا شوكة، هي الذات، الأنا، او الإرادة الذاتية وهي سبب تعبنا وحزننا وابتعاد قلوبنا عن الرب وجهلنا به.. مهم أن تكون مبرّراً تعمل الصلاح لكن الأهمّ هو أن تكون قريباً من الرب قد تعرّفت على قلبه العظيم الحنّان... هل يتركنا الرب معذّبين بسبب الذات؟. إن الذّات كالأوساخ في الذهب، وكالصخرة في الوادي الجاري والغشاوة في العين والقيود في الرجلين.... لنَخضع تحت يده ولا نقاوم عمله، لنهدأ ونثق أنه يعرف ما يفعل، وهو يرى النهاية قبل البداية... لماذا تثق بالطبيب، فتغمض عينيك وتهدأ، واثقاً أنه يعرف ما يفعل ويريد فائدتك، بينما الطبيب العظيم المُحب الذي مات لأجلك وأُهين بسببك، فلا تهدأ بين يديه بل تفتح عينيك فتجولان قلقاً؟!. لنسلّم ذواتنا ليديه المثقوبتين. لنفرح بالضيق، لنكن ذبيحة بين يديه فنحيا. اذا كنا نتوق أن نرى الرب في حياتنا ويعلن ذاته لنا ونتمتّع بالشركة معه، فهو يتوق أكثر.. لكن هنالك طريق واحد يؤدي الى ذلك... "إن لم تقع حبة الحنطة في الارض وتمت فهي تبقى وحدها.. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو١٢: ٢١، ٢٤). انها طريق التنازل عن الارادة الذاتية، سقوط الذات ودفنها وإخفاءها كلياً وسحقها بعوامل الطبيعة فتكون مثمرة، ولا يجعلنا نقبل ذلك برضى الا يسوع الذي وهو الله نزل ومات ودُفن وأخلى نفسه وكأنه انتهى، لكنه قام واتى بثمر كثير....
نتعلّم من ايوب أن ما نجتازه في هذا العالم من ضيق وألم وسحق للذات، سيجمع لنا أمجاداً أبدية تشبع قلوبنا الى الابد (اي ٤٢: ١٦، ١٧ – ٢ كو ٤: ١٧) مع ان الرب سيفتقدنا عند الضيق، ويعوّض لنا كل السنين التي أكلها الجراد" (يوئيل ٢: ٢٥) (الضيقات ومعاملات الله) وضاعت كأنها سدى..
لنذكر أننا تراب وأننا بلا قيمة لولا نعمة الله التي افتقدنا ورفعتنا الى الامجاد، لنبقي وجوهنا في التراب بانكسار، وقلوبنا في الامجاد قريبة من الرب وعيوننا مثبّتة على الفادي الرب وحده.. وكجماعة ايضاً، ستبقى يد الرب ممدودة علينا والضغط من كل جانب (اشعيا ٥: ٢٥ – ٩: ١٢ ١٧، ١٠: ٤، عاموس ٤: ٦) حتى نكفّ كليّاً عن الانسان ويوضع تشامخ الانسان وتُخفَض رِفعة الناس ويسمو الرب وحده (اش ٢: ١٢، ١٧، ٢٢). إن يد الرب على كل بارّ في عينَي نفسه وعلى كل متعظّم القلب ليذلله، كفرد وكجماعة، كمؤمن وغير مؤمن.. حتى يعلم الجميع ان الرب هو وحده صاحب السلطان، وبالنعمة يقبل البشر، ولا فضل لبشر مهما كان او فعل ... بَطُلَ الافتخار!. واذا كان الله لم يشفق على ابنه الحبيب، فهل يشفق على انسان يفتخر امامه؟!.اذا آمنا فليس لنا فضل، لانه ليس من اعمال كيلا يفتخر احد والايمان هو عطية الله، واذا خدمنا فليس لنا فضل، لاننا لا ننفع لشيء (لو ١٧: ٩، ١٠) وقد صرّح بولس وقال "ويل لي، إن كنت لا أبشّر" ( ١كو٩: ٦). ان الرب ليس مديون لأحد، وهو غير ملزم أن يجيب عن تساؤلات الانسان، ولا حاجة أن يفهم الانسان لكي يؤمن، بل الانسان ينفع نفسه اذا آمن. ويكتب الرسول بولس قائلاً : " لكي لا ينتفخ أحد لاجل الواحد على الاخر.. لانه مَن يميّزك؟، وأيّ شيء لك لم تأخذه؟ وان كنت قد اخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟. انّكم قد استغنيتم. فسأعرف ليس كلام الذين انتفخوا بل قوتهم" (١ كو ٤: ٦).
لقد اعطى الرب بنعمته قبل اكثر من مئة وخمسين عاماً تقريباً ضوءاً على كلمته الحيّة الفعّالة، فأعلن الكثير من أفكاره للمؤمنين. اذا كان الرب هو الذي أعلن، فما فضل الذي أخذ؟، ولماذا يفتخر بهبات الله كأنّها منه هو وكأنه لم يأخذ؟!....
لكن نعترف بانكسار اننا انتفخنا وافتخرنا كأننا شيء واننا افضل من الآخرين وان الرب لا يستخدم الا إيّانا، فامتلأنا بالتفكير بأمانتنا نحن، وباعلانات أعلنها الرب، فاستغنينا وشعرنا بأننا أغنياء بالتعليم والمعرفة وكأننا لا نحتاج الى الرب ايضاً!... لكن الرب يريد أن يرى لا كلامنا وادّعاءاتنا بل قوتنا، ولا يريد ان نقترب اليه بشفاهنا فقط وقلبنا مبتعد بعيداً عنه... لقد ملأ برنا الذاتي وانجازاتنا قلوبنا بالكبرياء الروحي والاعتداد بالنفس، فأصبح أحدنا لا يصلّي بالروح ولا يسكب قلبه امام الرب ولا يحيا عمليّاً، ومع ذلك يشعر نفسه مبرّراً، لا يحتاج شيء... ان للرب خصومة معنا (ميخا ٦: ٢)...
الا نرى الجفاف في حياتنا وفي عائلاتنا وفي اجتماعاتنا؟! الا نرى الجوع الروحي وانعدام الفرح والبنيان والتعزية؟، أَ لمْ نُهمل خلاص النفوس الهالكة، والمجرّحين والمطرودين ومنكسري القلوب؟، كبرياؤنا نزع عنا هويتنا كمقدسين للرب، فانشغلنا بذواتنا وعظّمنا انفسنا، فأُطفىء الروح وسطنا وحزِنَ وزالَ تأييد الرب لنا..
ان للرب معاملات معنا لتكسيرنا وتحطيم تشامخنا، سنجتاز – افراداً وعائلات وجماعات- ما اجتازه ايوب، لاننا كما كان ايوب أبرار في عيون انفسنا، لا نرى ذنب في انفسنا، نفتخر بالحق الكنابي كأنه مُلكاً لنا، ونفتخر بما عمله الافاضل والاتقياء قبلنا، أما نحن، فلا نعرف عملياً عن محبة الرب ونعمته شيئاً، الله لا يُشمخ عليه، فإن ما نزرعه، إيّاه نحصد ايضاً...
"اذا تواضع شعبي، وصلوا وطلبوا وجهي" ٢ أخ ٧: ١٤). لنعترف أن يد الرب علينا، فقد كسّرتنا ولم يبْقَ شيءٌ، أكل الجراد كل أخضر، فيبست البهجة من حياتنا. لنرجع الى الرب، هو ضربنا وهو يشفينا. لنمزّق قلوبنا، ولنَدْعُ الى تذلّل وانكسار، حتى يرقّ قلب الرب نحونا، فيرفع يده عنّا ونلمس حضوره ويعوّض لنا عن كل شيء ويفيض بتعزياته علينا (يوئيل ٢: ٣). يعود الرب فيرحمنا ويُحيينا، فنفرح به، وذلك عندما نرفض ذواتنا كأيوب ونضع رؤوسنا في التراب والرماد، ونعترف اننا نطقنا بما لم نفهم.. لنثق ولا نيأس، أن الرب المحب يريدنا مكرّسين واقوياء، وله قصد بما يحدث، ويؤكّد لنا " مِن عندي هذا الأمر" ( ١ مل ١٢: ٢٤)، ولا مخرج الا بالانسحاق والاقتناع اننا أصلاً عبيد بطّالون ولا فضل لنا بل هو يستخدمنا بنعمته (متى ٢٠).
"أذلّك وأجاعك وأطعمك المنّ لكي يعلّمك انّه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل ما يخرج من فم الرب" (تث٨: ٣)
"القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره"( مز ٥١: ١٧).
- عدد الزيارات: 35612