Skip to main content

أيوب بار في عيني نفسه

أيوب بار في عيني نفسهمع أن الرّب تحدّث عن خلق العالم والانسان في اصحاح واحد، لكنه تحدّث بالتفصيل عن ايوب في ٤٢ اصحاح! لماذا يا تُرى!؟ ما القصد وماذا ننتفع من ذلك؟

كلّ ما كُتب، كُتِب:

١- لنتعلّم دروس روحية
٢- لينذرنا الكتاب من أمور سيّئة
٣- مثال لنا، لاننا سنجتاز بشيء مماثل
٤- لنحصل منه على تعزية ورجاء ١كو ١٠/ رو١٥


مَن هو ايوب؟

عاش ايوب في عوص شمال الجزيرة العربية في فترة قبل موسى. ويشهد الوحي المقدّس عن ايوب ثلاث مرّات انّه كامل ومستقيم، يتّقي الله ويحيد عن الشر وليس أحد مثله في جيله...


ماذا حدث؟

خسِر ايوب كلّ أملاكه في يومٍ واحد في اربع ضربات قاسية ومتتالية.. خسر الغنم والبقر والأتن والجمال والغلمان، ومات أولاد ايوب العشرة في ضربة واحدة، ثم خسر صحته وضُرب بقرحٍ رديء في كل جسمه، فابتعد عنه الجميع، الاهل والاصدقاء والجيران ورفضه حتى عبيده!، وأخيراً أتوا ثلاثة من اصحابه ليعزّوه، فسكتوا سبعة أيام دون كلمة تعزية او تشجيع، عندها يئس أيوب وسبّ يوم ولادته وتمنّى موته. لكنه أصحابه فتحوا أفواههم أخيراً وبدأوا بكلام التوبيخ والإدانة القاسية، فلم يعرفوا كيف يغيثوا المُعيي بكلمة (أش ٥٠: ٤)... مع انهم تكلّموا ثمان مرات في تسعة اصحاحات، فلم ينطقوا بكلمة تشجيع أو تعزية أو بنيان أو توضيح!... كل هذا جعل أيوب يجتاز في صراع مرير بسبب كل ما حدث مندهشاً، ماذا يحدث؟ لماذا يصمت الله في أزمنة الضيق؟ لماذا تنجح ألاشرار أما البار فيبليه الله بمصائب لا تحصى؟ لماذا أصابه هذا رغم كل ما عمل من صلاح وإعانة وتضحية وبِرّ وحيَدان عن الشر؟!. وتمنّى أيوب أن يكلّم الله ويناقشه ويفهم عمّا يحدث! وهاج لمّا لم يجد أحداً يفتح عينيه ويقنعه بعدل الله ومحبته!..
"ولما تمّت أقوال ايوب" أي بعدما تساءل اكثر من خمسين سؤالاً بسبب ألمه وضيقه، بعد أن نطق وزفر بكل ما أراد في عشرين إصحاح مشحونة بالاحتجاج والاستفهام، تكلّم بكل ما في قلبه وأنهى كلامه وانتهى ايضاً كلام أصحابه الباطل، عندها تكلّم اليهو بكلام الرب ثم أجاب الرب نفسه أيوب، وعرف ايوب عظمة الرب وصغره هو...


لماذا كل هذا!!!

رأى الشيطان ايوب كاملاً وبارّاً ومستقيماً وليس مثله بين الناس فاستشاط غضباً ولم يهدأ لأن إنسان من تراب أضعف منه، يقبله الله ويُسرّ قلب الله. وأزعج الشيطان أيضاً أن إنساناً غير غائص في الشر بل في انسجام مع الله القدير... ووظيفة إبليس الأساسية هي هدْم عمَل الله وفصْل الانسان عن الله وتخريب وإزالة كل ما يُرضي الله، والشيطان يجول كأسد لبتلع كل فريسة ما زالت حيّة لله وغير ميّته بالذنوب والخطايا.
ووجد الشرير شكوى ضد أيوب، وأسرع الى الله العادل المُحبّ للانسان الذي حتى الآن بنعمته وعدله وكماله، لم يسحق إبليس وأعوانه، بل ما زال يسمع شكواه السامّة ضد. وقال " ايها الاله العادل، إن أيوب يتّقيك ويؤمن بك ويحيد عن الشر ويرضيك لانه غنيّ ولا يحتاج الى شيء، فلو كان بدون أملاك ونزعت منه ثروته، لرفض الايمان وكفر وفعل الشرّ وابتعد عنك.

ما العجيب اذا كان الذي ينجح بالحياة ويتمتّع بالصحة والثروة، أن يؤمن بك ويتّقيك!. انزع منه هذه، فيجدّف عليك في وجهك"..
وظنّ الشيطان أن الله العادل البار سيجيب على هذه القضية وظنّ الخصم أنّه سينجح في استغلال عدل الله ليضرب عبيد الرب. واعتقد أنه إن جرّد ايوب من أملاكه وجاهه، سيجعله ذلك حتماً يرفض الله ولا يؤمن به، وادّعى ان الانسان يؤمن بالله عندما يكون عنده كل شيء واتّهم الله ان ايمان البشر به ليس حقيقياً ولا أصيلاً..

وهنا أراد الله أن يُسكت العدوّ والخصم لا بإبادته بنفخة فمه بل بالاقناع والبرهان العملي. وأعطت شكوى ابليس الله المجال ليُثبت أن ايوب بالذات وأن أيّ إنسان آخر يمكن أن يؤمن بالله ويتّقيه حتى ولو جُرّد من الاملاك والبيت والصحة ولم يبقَ له شيء!.. وكأن الله يقول "سأُثبِت لك ايها الشرير وسترى أن الانسان يؤمن بي حتى ولو نزعتَ منه كل سند، وهاك أمثلة: ايوب، الانسان يسوع وبولس وداود ويوسف ودانيال وآخرون كثيرون. ونتساءل مندهشين، كيف يقبل الله القدير أن يحتمل الشيطان ويصغي الى شكواه؟!!.

ما أعجب رحمة الله وعدله واستقامة أفكاره!...
ولكن أليسَ ظُلماً أن تتحوّل المعركة بين الشيطان والله الى داخل حياة أيوب!؟، أ ليسَ ظُلماً أن يكون أيوب المتّقي الله، ضحية أفكار الشرير؟، وكيف يسمح الله المُحب بذالك؟ لماذا لا يمنع الله المصائب ولا يرفض شكوى العدو ويدافع عن عبده البار؟، لماذا تقاسي الابرار وتعاني بينما تزهو الاشرار وتزدهر؟..

إن الله ليس ظالماً ولا مُجحفاً وليس عاجزاً بل هو قدير ومُحبّ لأولاده وعادل وحكيم، فيسمع شكوى الشرير على عبيده ويرفضها ويدافع عنهم ولا يتخلّى عنهم، لكنّ الله رأى أيوب رغم تقواه وبرّه وحيَدانه عن الشر، رآه بارّاًَ في عينيّ نفسه ومملوءاً ومشبَعاً بذاته ومتشبّثاً بصلاحه هو ظاناً أن الله مثله، مما أبعده عن الله. فقلبه كان بعيداً عن الرب بسبب إنشغاله بذاته، لذلك أراد الرب أن يُخرِج من الجافي حلاوة، وقصد رغم خُبث ابليس، أن يَخرج أيوب أكثر قرباً لله... وسيُزكّي أيوب أكثر أمام الجميع...

كان أيوب بارّاً عملياً أمام الناس وشهد الله عن ذلك، فحاد عن الشر والظُلم، لكن إنشغاله ببرّه الذّاتي أبعده عن الرب وأعطى ثغرة لشكوى العدو وأعطى مكاناً لإبليس... وأراد الله سدّ هذه الثغرة وسدّ فم ابليس في هذا المجال الى الابد .. فقد إعتاد أيوب أن يقدّم الذبائح عن أولاده قائلاً لعلّهم أخطأوا (١: ٥)، لكنه لم يفطن أبداً أن يقدّم عن نفسه أيّة ذبيحة لانه بارّ في عينيّ نفسه. وليس أمر سهل إقناع أيوب بمشكلته، المشكلة لم تكن ما فعله أيوب بل ما هو بطبيعته وقلبه، لذا احتاج الرب الى تكسير الذات وتحطيم الارادة الذاتية، فضرب أيوب في ثلاثة مجالات:
١- أملاكه وأمواله، لكن أيوب لم يتزعزع بل قبلها وتحمّل.
٢- أولاده وعائلته، لكنه بقي صلب الذات وصابر
٣- صحته وجسده مما شعر بشبح الموت، لكنه لم ينكسر .
لكن إساءة فهم أصحابه له كسرت قلبه، واتّهاماتهم له وجهلهم، أتعباه جداً، فاجتاز أيوب تجربة نفسيّة أليمة، رافقتها الحيرة واليأس والتساؤلات والتعجّب، والله القدير لا يحرّك ساكناً!، ليس لانه لا يبالي بآلام عبده او أنه لا يقدر أن يتفهّم تجربة عبده بل تركه الله الى حين، الى أن يُخضع أيوب إرادته ويكتشف أنه حتى السموات ليست بطاهرة في عينيّ الله القدوس(١٥: ١٥)، هوذا عبيده لا يأتمنهم والى ملائكته ينسب حماقة (٤: ١٨) وأن الانسان فاسد ومكروه ويشرب الاثم كالماء (١٥: ١٦)، وأن قلب الانسان نجس وأخدع من كل شيء (ار ١٧: ٩) يوهمنا، رغم نجاسته، أنه طاهر، وقصده طيّب متكّلاً على الادّعاء بالاعمال صالحة... ولم يتدخّل الله الا عندما تمّت أقوال أيوب (٣١: ٤٠) وكفّ أصحابه عن الكلام، حين كفّ الجميع عن الانسان لانه مَن هو الانسان (اش ٢: ٢٢/ مز ٤٥: ١٠).

واجه الله ايوب متجرّداً من كل شيء، وفحص أيوب نفسه في نور الله، فعرف قلبه وذاته، ومن خلال كربته ومصيبته العظيمة، ذاب قلبه المنتفخ وانكسرت إرادته وضاع برّه أمام قداسة الله وعرف حقارته لانه انسان مخلوق، ما أصغره! حتى أمام المخلوقات (اي٤١)، فكيف أمام الله القدير!!.
سحقه الله، لكنه حاول أن يحتمل ويتجلّد فلم يستطع، لان الله أجازه في التنور ورفع درجة الحرّ والضغط حتى ذاب الذهب وانصهر (ملا ٣: ٣/ مز ٦٦: ١١)، فظهر الزغل وصفّاه الخزّاف الأعظم (ار ١٨)...
مَن هو الانسان حتى يجلس الرب بصبر ويصفّيه من كل ذات (ملا ٣: ٣) ويمتحنه كل لحظة!. طلب أيوب من الله أن يتركه ويدعه وشأنه أو يميته أو يناقشه، لكن الرب علم ما هو فاعل، عرف الداء والدواء والعلاج لقلب أيوب وقالبه والمدة الكافية لأصاغة وصقل عبده الذي أحبّه وافتخر به، أدخل أيوب الى التنّور وأخرجه في اللحظة المناسبة...
لكن ايوب انشغل باعماله الصالحة وعدّدها كل يوم، واتّهم الله بانه يستذنبه، ثم تذكّر ماضيه الباهر ومضغ كرامته قبل مصيبته وقال: " يا ليتني كما في الشهور السالفة!" (اي ٢٩)، وتفكّر في كيف احترمه الجميع وأكرمه الكل وطوّبه الشيوخ والغلمان، وكم مِن صلاح عمل! حين أنقذ المسكين وأعان الاعمى والاعرج والفقير، حتى قال لبست البِرّ فكساني (٢٩) لكنه سرعان ما تذكّر انه قد فقد كل هذا ! (٣٠) فرثى نفسه وبكى حالته وندب لأن صار أغنية للاخرين وعار، يحتقره حتى العبيد والإماء... ولم يصدّق كيف هوى في لحظة من المجد والكرامة الى الهوان والحضيض، ولم يجد مَن يعزّيه ومّن يبكي لحاله بل تعِب وضجر حتى مِن أصحابه!...

ثم توجّه الى أعماق قلبه وناجى وفحص ذاته (٣١) وغربل أفعاله، محاولاً دائماً أن يُثبت أن أعماله كاملة، كلها خير. لكنه رفض ان يفكّر لحظة، ليس بما فعل، بل بما يوجد في قلبه من كبرياء واعتداد بالنفس وشعور انه مثل الله العظيم!. لم يعرف أن الله أعظم ممّا نفكّر به وأقدس مما نستطيع ان نتصوّره...
غضب الرب على اصحاب ايوب لأنهم ضيّقو الفكر وقساة القلب، وبسبب جهلهم، حكموا ظُلماً أن ايوب لا بدّ أنه مخطىء في امر ما، ومذنب في جهة ما ويحاول أن يخفي ذنبه فأدّبه الرب (٤: ٨- ١٥: ٩) ولم يريدوا أن يفكّروا بعُمْق للحظة، ورفضوا ان يصغوا لكي يعرفوا ما يجري او يعترفوا انهم امام حالة لا يعرفون تشخيصها لانهم لم يكونوا صادقين أمام الرب. أما ايوب فمع أنه نطقَ بما لم يفهم وتمادى في حكمه وحكَمَ بما هو اعظم منه، الا أنه كان صادقاً شفافا ينطق بما يرى ويشعر ويعتقد، ورفض التملّق والادّعاء، مما جعل الرب يدعوه "عبدي" ستّ مرّات(١: ٨/ ٢: ٣/٨، ٤٢: ٧).
بعدما فشلَ أصحابه ورفضوا أن يغيّروا رؤيتهم للأمور ويرونها من زاوية أخرى، تدخّل اليهو الشاب وتحدّث في ستّة اصحاحات عن كبرياء مَن يدّعي أنه بري بلا ذنب ولا اثم (٣٣: ٩)، وتكلّم ووضّح بنعمة أن الله يتكلّم مع الانسان، والانسان لا ينتبه ولا يُلاحظ ان الله هو الذي يتكلّم مع الانسان من خلال كلمته ومن خلال الوجع والالم والضيق والوحدة حتى يحوّل الانسان عن عمله ويكتم الكبرياء عنه(ص٣٣) حتى تكره نفسه حياته وتعيا روحه فيه، وعندما تنسحق ذات الانسان، يترأف الرب عليه ويطلقه وينجّيه من العذاب الابدي أوّلاً، ومِن حياة التعب والشقاء والبُعد عن الله.
ثم تحدّث اليهو عن الانسان الذي يشرب الهزء كالماء، وكله ذنوب، وعن الله الذي لا يظلم أحداً ولا يعوّج القضاء أبداً (٣٤: ١٠) وانه عادل؟، فالاشرار لن ينجحوا في الشر حتى ولو نجحوا قليلاً (٣٤: ٢٠)، ثم شرح لايوب مدى موقفه الذي أخطأ الرؤية والتحليل وكأنّ الله ينتفع من أعمال الانسان، وأخيراً كشف أليهو عن تسامي وعظمة الله في الحكم، وعن حكمته التي لا تستقصى ولا يدركها بشَرٌ بل علينا مخافته ورهبته.
نُخِس أيوب في قلبه عندما أنصت الى كلام اليهو المُقنِع، مما اصبح مستعداً لسماع كلام الرب نفسه الذي تكلّم مع ايوب بجلال عظيم.... كان ايوب قد تساءل حوالي خمسين سؤالاً في عشرين اصحاح، وهنا يسأله
الرب ايضاً خمسين سؤالاً في أربعة اصحاحات. سأله عن الطبيعة والحيوان والنبات أسئلة جعلت ايوب يشعر بعجزه ومحدوديته وخِزْي حكمته. سأله الرب عن ألغاز البحر والصُبح والموت والنور والطلمة والمطر والفضاء والحيوان، فرأى ايوب حقارته أمام الطبيعة وكأن الله يقول لأيوب اذا كنت حقيراً امام خليقتي، فكم تكون أمامي، واذا كنت لا تجيب بعض الاسئلة عن جزء من الخليقة، فهل تقدر أن تدرك الخالق العظيم؟!.. واذا كنت لا تعرف اسرار الطبيعة المحدودة، فكيف تفهم طرق الله القدير...؟!! أقنع الرب ايوب بكلام قليل فيما عجز عن ذلك اصحابه في كلام كثير وجدال مطوّل في تسعة اصحاحات! ... لكن الرب أجابه بكل نعمة وتنازُل، عندها اجاب ايوب لأوّل مرّة : " ها أنا حقير فماذا اجاوبك ؟" (٤٠: ٤). لكن الرب تابع وقال لأيوب: " خُذْ انت مكاني، والبِسْ الجلال وذلِّلْ كل متعظّم" (٤٠: ١٠)، هل يستطيع ايوب الذي نطق بكلام كثير، أن يحكم الكون لحظات؟ وهل يقدر ان يدين بالعدل؟، أدرك ايوب انه لم يقدر ايوب ان يتسلّط حتى على الحيوان يوماً واحداً!..


ماذا تعلّم ايوب:

"مَن مثل الرب معلّماً؟!" (٣٦: ٢٢). أن الرب هو المعلّم وليس مثله معلّم صبور محب وحكيم. جعل الرب ايوب يتعلّم جيّداً ويقتنع كليّاً من خلال المعاملات المتنوعة، هذه الدروس الثمينة :
1- ان الرب يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه شيء، اما الانسان فعاجز وحقير امام الرب.
2- ان الله عادل وبار في قضاءه وحكيم بما يفعل (٤٢: ٣).
3- عرف ايوب انه نطق بما لم يفهم، بأمور أسمى منه، وافترى على ما يجهل وظنّ انه يعرف كل شيء كالله.
4- بدأ يكون مستعدّاً أن يسأل ويتعلّم، ليس كما كان قبلاً "بعد كلامي لا يثنوا" (٢٩: ٢٢).
5- كان يعرف الله من بعيد ويسمع عن الله، اما الان فعرفه عن قُرْب. شعر به وعرف عظمته وعدله ونعمته وطول اناته على البشر وحكمته وقدرته...
6- رفض ايوب نفسه ومقت ذاته وأدانها وأنكرها، وانسحقت ارادته وخضع لله ووضع وجهه في التراب بسبب إدراك حقارته.
رفّع الرب ايوب وأظهر له نعمة خاصة ومكّن له المحبّة ووبّخ اصحابه وأعلمهم أن ايوب نفسه سيصلي لأجلهم حتى يرضى عنهم الرب ودعاه "عبده" أربع مرّات. ردّ الرب سبْيه وأعطاه ضِعْفاً مِن كل ما كان عنده. لم يتعلّم أيوب عظمة الرب فقط بل حنانه ونعمته ومكافآته لعبيده وعاش ايوب بعد هذا ١٤٠ سنة....
فعوّضَ له الرب عن كل شيء بالاضافة الى دروس ثمينة وأصبح مثالاً لنا. من قصّته، نحصل على التعزية والصبر لاننا نرى النهاية منذ البداية...


ما هي الدروس لنا من سفر ايوب؟

" كل ما سبَقَ فكُتب، كُتِب لأجل تعليمنا "(رو ١٥: ٤)
"هذه الأمور حدثت مثالاً لنا ... وكُتبت لإنذارنا نحن" ١كو ١٠: ١١) "سمعتم بصبر ايوب ورأيتم عاقبة الرب، لأن الرب كثير الرحمة ورؤوف" (يع ٥: ١١)
ويقول الرب : "إن سكبتُ غضبي على الارض ... وفي وسطها نوح ودانيال وايوب فلا يُخلّصون ابناً ولا ابنة، انّما يخلّصون انفسهم ببِرّهم" (حزقيال ١4: ١٤، ٢٠)
إنّ سِفْر ايوب الذي يحتوي على ٤٢ اصحاح مليء بالدروس العملية لنا نحن اليوم.. ان بعض النقاط الاساسية التي نأخذها اليوم هي أوّلاً أن الرب يرفض العلاقة الشكلية معه، فلا قيمة للاقتراب الى الرب بالشفتين فقط بينما القلب بعيداً عن الرب. ولا يُبعد قلوبنا عن قلب الرب الا الكبرياء الروحي والاعتداد بالنفس والشعور بالبِرّ الذاتي والاتّكال على أعمال ومواقف اجتزناها في الماضي... والقلب المنتفخ يعطي مكاناً لإبليس في حياتنا، فيحتاح الرب بسبب محبته ونعمته أن يتعامل معنا وأن يُجيزنا في فحص ذاتي أليم حتى نرفض ذواتنا ونصرخ قائلين "ويحي انا الانسان الشقيّ ". لكن الرب يبدأ بهذا، عندما نطلب التكريس ونريد ان يستخدمنا ونصلّي لكي ينقّينا، عندها يجلس بعد أن يُدخلنا الى التنّور الملتهب كالذهب فيصفّينا، وهدفه الاساسي أن نكون مقرَّبين للرب ومَرْضيين لديه (ملاخي ٣: ٣).
يا لصدمة مؤمن يظنّ ويتوهّم انه مَرْضيّ أمام الرب، واذا فحص ذاته، وجدها بلا ذنب! ... يا لوهم مَن يمتحن نفسه، فيخرج منتفخاً معتدّاً بذاته... لذا قال الرسول بولس "لست أشعر بشيء في ذاتي. لكنني لست بذلك مبرّراً. ولكن الذي يحكم فيّ هو الرب" (١ كو ٤: ٤). وقال أيضاً "لست احسب نفسي اني قد ادركت "(في ٣: ١٣)، ويعقوب الرسول يقول "في أشياء كثيرة، نعثر (او نسقط او نفشل) جميعنا" (يع ٣: ٢). وداود النبي يقول " قريب هو الرب مِن المنكسري القلوب" (مز ٣٤: ١٨) والنبي اشعياء يعلن ان "العليّ يسكن مع المنسحق والمتواضع الروح" (اش ٥٧: ١٥). اما الحكيم في عيني نفسه والبارّ في حكم ذاته الذي لسان حاله يقول "قِفْ عندك، لا تدْنُ منّي لأني أقدس منك" (اش ٦٥: ٥). فمثل هذا يكون مزعج للرب كالدخان في الأنف.. أناس يعدّدون دائماً حسناتهم وأعمالهم وتضحياتهم، هؤلاء لن يفرحون أبداً لانهم يشعرون ان الله العظيم مديون لهم! (لوقا ١٥: ٢٨، ١٨: ١١).
لكن عندما نقرأ ما حدث لأيوب، تزداد ثقتنا بأن كل ما يحدث في حياتنا من صعوبات عائلية ومادية وصحيّة أو اتّهامات وإساءات، كل هذه هي يد الرب المُحبّ التي ثُقبت لأجلنا الذي لم يُشفق الآب عليه بل بذله لاجلنا!. هل عندنا يقين ان كل ما يحدث هو من الرب وللرب قصد خير في ذلك لنا ؟. (مز ٣٩: ٩). وهل نعلم حقّاً أنّ كل الامور – بضمنها القاسية ايضاً – تعمل معاً للخير؟ (رو ٨: ٢٨)، وهل نأخذ هذه الامور كلّها مِن يد الآب المحب؟. هو يَجرَح وهو يعصب أيضاً (ايوب (٥: ١٨)، وهو يتضايق في ضيقنا (اش ٦٣: ٩)، فانه، ولو أَحزن، يرحم حسب كثرة مراحمه، لأنه لا يذلّ من قلبه" (مراثي ٣: ٣٣)، فهو كالأم الحنون التي لكي تُخرج الشوكة مِن اصبع ابنها، تحتاج أن تُؤلمه قليلاً وتدمع عيناها لأنها تحبّه وتفكّر في راحته وتتألّم لألمه.
إن الرب يعرف أن فينا شوكة، هي الذات، الأنا، او الإرادة الذاتية وهي سبب تعبنا وحزننا وابتعاد قلوبنا عن الرب وجهلنا به.. مهم أن تكون مبرّراً تعمل الصلاح لكن الأهمّ هو أن تكون قريباً من الرب قد تعرّفت على قلبه العظيم الحنّان... هل يتركنا الرب معذّبين بسبب الذات؟. إن الذّات كالأوساخ في الذهب، وكالصخرة في الوادي الجاري والغشاوة في العين والقيود في الرجلين.... لنَخضع تحت يده ولا نقاوم عمله، لنهدأ ونثق أنه يعرف ما يفعل، وهو يرى النهاية قبل البداية... لماذا تثق بالطبيب، فتغمض عينيك وتهدأ، واثقاً أنه يعرف ما يفعل ويريد فائدتك، بينما الطبيب العظيم المُحب الذي مات لأجلك وأُهين بسببك، فلا تهدأ بين يديه بل تفتح عينيك فتجولان قلقاً؟!. لنسلّم ذواتنا ليديه المثقوبتين. لنفرح بالضيق، لنكن ذبيحة بين يديه فنحيا. اذا كنا نتوق أن نرى الرب في حياتنا ويعلن ذاته لنا ونتمتّع بالشركة معه، فهو يتوق أكثر.. لكن هنالك طريق واحد يؤدي الى ذلك... "إن لم تقع حبة الحنطة في الارض وتمت فهي تبقى وحدها.. ولكن إن ماتت تأتي بثمر كثير" (يو١٢: ٢١، ٢٤). انها طريق التنازل عن الارادة الذاتية، سقوط الذات ودفنها وإخفاءها كلياً وسحقها بعوامل الطبيعة فتكون مثمرة، ولا يجعلنا نقبل ذلك برضى الا يسوع الذي وهو الله نزل ومات ودُفن وأخلى نفسه وكأنه انتهى، لكنه قام واتى بثمر كثير....
نتعلّم من ايوب أن ما نجتازه في هذا العالم من ضيق وألم وسحق للذات، سيجمع لنا أمجاداً أبدية تشبع قلوبنا الى الابد (اي ٤٢: ١٦، ١٧ – ٢ كو ٤: ١٧) مع ان الرب سيفتقدنا عند الضيق، ويعوّض لنا كل السنين التي أكلها الجراد" (يوئيل ٢: ٢٥) (الضيقات ومعاملات الله) وضاعت كأنها سدى..
لنذكر أننا تراب وأننا بلا قيمة لولا نعمة الله التي افتقدنا ورفعتنا الى الامجاد، لنبقي وجوهنا في التراب بانكسار، وقلوبنا في الامجاد قريبة من الرب وعيوننا مثبّتة على الفادي الرب وحده.. وكجماعة ايضاً، ستبقى يد الرب ممدودة علينا والضغط من كل جانب (اشعيا ٥: ٢٥ – ٩: ١٢ ١٧، ١٠: ٤، عاموس ٤: ٦) حتى نكفّ كليّاً عن الانسان ويوضع تشامخ الانسان وتُخفَض رِفعة الناس ويسمو الرب وحده (اش ٢: ١٢، ١٧، ٢٢). إن يد الرب على كل بارّ في عينَي نفسه وعلى كل متعظّم القلب ليذلله، كفرد وكجماعة، كمؤمن وغير مؤمن.. حتى يعلم الجميع ان الرب هو وحده صاحب السلطان، وبالنعمة يقبل البشر، ولا فضل لبشر مهما كان او فعل ... بَطُلَ الافتخار!. واذا كان الله لم يشفق على ابنه الحبيب، فهل يشفق على انسان يفتخر امامه؟!.اذا آمنا فليس لنا فضل، لانه ليس من اعمال كيلا يفتخر احد والايمان هو عطية الله، واذا خدمنا فليس لنا فضل، لاننا لا ننفع لشيء (لو ١٧: ٩، ١٠) وقد صرّح بولس وقال "ويل لي، إن كنت لا أبشّر" ( ١كو٩: ٦). ان الرب ليس مديون لأحد، وهو غير ملزم أن يجيب عن تساؤلات الانسان، ولا حاجة أن يفهم الانسان لكي يؤمن، بل الانسان ينفع نفسه اذا آمن. ويكتب الرسول بولس قائلاً : " لكي لا ينتفخ أحد لاجل الواحد على الاخر.. لانه مَن يميّزك؟، وأيّ شيء لك لم تأخذه؟ وان كنت قد اخذت، فلماذا تفتخر كأنك لم تأخذ؟. انّكم قد استغنيتم. فسأعرف ليس كلام الذين انتفخوا بل قوتهم" (١ كو ٤: ٦).
لقد اعطى الرب بنعمته قبل اكثر من مئة وخمسين عاماً تقريباً ضوءاً على كلمته الحيّة الفعّالة، فأعلن الكثير من أفكاره للمؤمنين. اذا كان الرب هو الذي أعلن، فما فضل الذي أخذ؟، ولماذا يفتخر بهبات الله كأنّها منه هو وكأنه لم يأخذ؟!....
لكن نعترف بانكسار اننا انتفخنا وافتخرنا كأننا شيء واننا افضل من الآخرين وان الرب لا يستخدم الا إيّانا، فامتلأنا بالتفكير بأمانتنا نحن، وباعلانات أعلنها الرب، فاستغنينا وشعرنا بأننا أغنياء بالتعليم والمعرفة وكأننا لا نحتاج الى الرب ايضاً!... لكن الرب يريد أن يرى لا كلامنا وادّعاءاتنا بل قوتنا، ولا يريد ان نقترب اليه بشفاهنا فقط وقلبنا مبتعد بعيداً عنه... لقد ملأ برنا الذاتي وانجازاتنا قلوبنا بالكبرياء الروحي والاعتداد بالنفس، فأصبح أحدنا لا يصلّي بالروح ولا يسكب قلبه امام الرب ولا يحيا عمليّاً، ومع ذلك يشعر نفسه مبرّراً، لا يحتاج شيء... ان للرب خصومة معنا (ميخا ٦: ٢)...
الا نرى الجفاف في حياتنا وفي عائلاتنا وفي اجتماعاتنا؟! الا نرى الجوع الروحي وانعدام الفرح والبنيان والتعزية؟، أَ لمْ نُهمل خلاص النفوس الهالكة، والمجرّحين والمطرودين ومنكسري القلوب؟، كبرياؤنا نزع عنا هويتنا كمقدسين للرب، فانشغلنا بذواتنا وعظّمنا انفسنا، فأُطفىء الروح وسطنا وحزِنَ وزالَ تأييد الرب لنا..
ان للرب معاملات معنا لتكسيرنا وتحطيم تشامخنا، سنجتاز – افراداً وعائلات وجماعات- ما اجتازه ايوب، لاننا كما كان ايوب أبرار في عيون انفسنا، لا نرى ذنب في انفسنا، نفتخر بالحق الكنابي كأنه مُلكاً لنا، ونفتخر بما عمله الافاضل والاتقياء قبلنا، أما نحن، فلا نعرف عملياً عن محبة الرب ونعمته شيئاً، الله لا يُشمخ عليه، فإن ما نزرعه، إيّاه نحصد ايضاً...
"اذا تواضع شعبي، وصلوا وطلبوا وجهي" ٢ أخ ٧: ١٤). لنعترف أن يد الرب علينا، فقد كسّرتنا ولم يبْقَ شيءٌ، أكل الجراد كل أخضر، فيبست البهجة من حياتنا. لنرجع الى الرب، هو ضربنا وهو يشفينا. لنمزّق قلوبنا، ولنَدْعُ الى تذلّل وانكسار، حتى يرقّ قلب الرب نحونا، فيرفع يده عنّا ونلمس حضوره ويعوّض لنا عن كل شيء ويفيض بتعزياته علينا (يوئيل ٢: ٣). يعود الرب فيرحمنا ويُحيينا، فنفرح به، وذلك عندما نرفض ذواتنا كأيوب ونضع رؤوسنا في التراب والرماد، ونعترف اننا نطقنا بما لم نفهم.. لنثق ولا نيأس، أن الرب المحب يريدنا مكرّسين واقوياء، وله قصد بما يحدث، ويؤكّد لنا " مِن عندي هذا الأمر" ( ١ مل ١٢: ٢٤)، ولا مخرج الا بالانسحاق والاقتناع اننا أصلاً عبيد بطّالون ولا فضل لنا بل هو يستخدمنا بنعمته (متى ٢٠).
"أذلّك وأجاعك وأطعمك المنّ لكي يعلّمك انّه ليس بالخبز وحده يحيا الانسان بل بكل ما يخرج من فم الرب" (تث٨: ٣)
"القلب المنكسر والمنسحق يا الله لا تحتقره"( مز ٥١: ١٧).


خِتام الأمر وخلاصته

في نهاية السِّفر، اندهش أيوب عندما عرف وأدرك جيداً أن الله يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر (اي ٤٢: ٢)، عرف أن الله يستطيع ان يعيد الوعاء بعد ان تحطّم ليس فقط الى ما كان عليه قبلاً بل الى حالة أفضل وأسمى وأعمق. وان الله يقدر أن يجمع القِطَع المتبعثرة من جديد ويصنع منها انساناً جديداً حسب صورة خالقه. لم تعُد العلاقة بين ايوب والله سطحية بل مَتينة وعميقة وذات معنى. استطاع ايوب ان يعكس صفات الله للآخرين من حوله. ظنّ العدو انه حطّم ايوب، لكن الله حوّل شر ابليس الى بركة وخير. ظنّ ايوب انه انتهى وقُضيَ عليه، فحنَّ الى الماضي، لكن الرب أقنعه أن ما ظنّه ايوب نهاية، هو بداية وقيامة، وعلِمَ ايوب منذ آلاف السنين ما كشفه الرسول بولس ان انساننا الخارج يفنى اما الداخل فيتجدّد يوماً فيوماً (٢ كو ٤: ١٦).  

  • عدد الزيارات: 35619