Skip to main content

الصعوبة الثانية والعشرون

لعلي لم أسقط من النعمة ولكن بعد كل ذلك أن أهلك؟ ثم أليس هذا التعليم خطيراً في المناداة به؟

أهلك؟ أيمكن للمؤمن الحقيقي أن يهلك؟ اسأل أي شخص قادر على الإجابة الصحيحة يقول لك: مطلقاً! "وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد" (يو10: 28). ألم يكن غرض الله في رفع ابنه أن "... كل من يؤمن به لا يهلك، بل تكون له حياة أبدية؟" (يو3: 16).

فإذا كان الراعي العظيم والصالح قد تعهد في كلمته المقدسة أنه لن يهلك خروف من خرافه (أما غير المؤمن فليس من خرافه" (يو10: 26)، فلماذا لا نكرم كلمته المباركة فنجد فيها التعزية لنفوسنا القلقة والتي تمنحنا مثل هذا اليقين؟ لا بل أكثر من ذلك فالقول بالهلاك يعتبر افتراء وطعناً في أمانته! إنه شيء مرعب حقاً المناداة بهلاك المؤمنين.

إن الرب يسوع المسيح في طاعته لإرادة أبيه، قد أعطاه وصية غالية لكي يحفظها، "وهذه هي مسيئة الآب الذي أرسلني أن كل ما أعطاني لا أتلف منه شيئاً" (يو6: 39).

فكيف يتسنى للبعض أن يتحدثوا عن احتمال هلاك أحد من خاصته وفي ذات الوقت لا يرون الجانب الآخر من الموضوع، أفليس ذلك معناه أن المسيح ليس أميناً تماماً تجاه إرادة أبيه؟ آه إن تلك الأفكار المهينة للمسيح لن تجد مكانها في أي قلب عرف المسيح وأحبه- ذلك "القدوس". "والحق". لتسمع كلماته لأبيه: "الذين أعطيتني حفظتهم ولم يهلك منهم أحد إلا ابن الهلاك ليتم الكتاب" (يو17: 12). وأيضاً" إن الذين أعطيتني لم أُهلك منهم أحد" (يو 18: 9). لا، فإن رئيس خلاصنا العظيم "يأتي بأبناء كثيرين إلى المجد"، فليس هناك أي عجز في تتميم مقاصد الآب تجاههم، وعندما يحيطون به هناك فإنه يمكنه أن يقول، دون استثناء: ها أنا والأولاد الذين أعطانيهم الله" (عب2: 13)، فلن يُفقد أحد، ولا حتى الأضعف، بل يأتي بهم جميعاً هناك ممجدين.

ولكن ألم يقل الكتاب أننا قد نسقط من النعمة؟ نعم، من النعمة كمبدأ للبركة بالمباينة مع مبدأ الناموس. يكتب الرسول للغلاطيين هكذا: "قد تبطلتم عن المسيح أيها الذين تتبررون بالناموس. سقطتم من النعمة" (ص5: 4).

إن النعمة تعني عطفاً ممنوحاً لمن لا يستحق، ولما كانت نعمة الله تتجه بعطف غير محدود من جانبه، دون أي استحقاق فينا، فإننا لا نجد في كلمة الله تقريباً، تعبيرات تحمل الغيرة والتشدد من جانب الله تجاه أولئك الذين ينتهكون نعمته، فيطرحونها جانباً. وبذلك فإنهم يستبعدون أحلى السمات التي تميز النعمة ليستبدلوها ببعض الاستحقاقات البشرية ويظنون بذلك أنهم يُبَاركون من الله.

خذ مثلاً حالة جيحزي في أيام أليشع. أي نعمة هذه، حتى أن قائد جيش آرام، وهو من ألد أعداء إسرائيل الأقوياء يأتي إلى نبي إسرائيل للشفاء والتطهير. وعندما انكسر تماماً أمام طرق الله التي أعدها للبركة، نال ما كان يطلبه. وتتعظم النعمة مضاعفاً إذا تأملنا إلى تلك الفتاة الصغيرة المسبية من اليهود وكانت تخدم في بيته، فهي كانت حلقة الاتصال بين نعمان السرياني ونبي إسرائيل أليشع. فهذه المسروقة من إسرائيل والتي تشهد بعظم الظلم والشر الواقع عليها، هي بعينها التي قدمت العون والإحسان له. بل وأكثر من ذلك أن نبي إسرائيل رفض أن يأخذ ذهباً أو فضة أو ثياباً مقابل البركة التي نالها نعمان. فما قيمة كل ممتلكات هذا القائد الأبرص- كل ثيابه ومجده لا تقدر أن تشتري بها هذه البركة. ففي أرض إسرائيل لا تعد هذه الأشياء تساوي شيئاً- إنها "نعمة فوق نعمة"، ولعل أليشع فكر، بأن نعمان سيعود إلى سوريا ويقول، كل ما عندي لا قيمة له. لقد قاومت إسرائيل واضطهدتها كثيراً. وكل ما أخذته معي هناك لأنال به البركة لم يفيدني شيئاً. حتى الخطاب الذي أخذته من ملك سوريا إلى ملك إسرائيل لم ينفع والعشر وزنات من الفضة والستة آلاف قطعة (شاقل) ذهب والعشر حلل ثياب أعود بها. أما الشيء الوحيد الذي لم أرجع به هو نجاسة البرص، إذ تركتها في أعماق نهر الأردن. يا له من أمر عجيب!.

ولكن لنتتبع ماذا حدث. وأسفاه على جيحزي الذي أفسد هذه البركة. إذ سرق ثمرة النعمة السماوية وزهرتها الحلوة. وليس لهذا معنى بخلاف سطوة الجسد. وهكذا طلب جيحزي "وزنة فضة وحلتي ثياب" وهكذا كذب على سيده، وشوه شهادة النعمة، وأظهر الله غضبه الذي استمر ما بعد موته، وتعتبر هذه العقوبة من أشد العقوبات الصارمة الواردة في الكتاب "فبرص نعمان يلصق بك وبنسلك إلى الأبد".

نعود إلى الغلاطيين، فهي الرسالة الوحيدة بين أسفار العهد الجديد، التي ينتهرهم فيها الرسول بولس بشدة أكثر من كل القديسين الآخرين الذين يخاطبهم، لقد بدأوا بالنعمة ولكنهم يتقهقرون إلى الاستحقاق الشخصي. "أهكذا أنتم أغبياء؟" يقول الرسول، "أبعدما ابتدأتم بالروح تُكمّلون بالجسد؟" (ص3: 2). إنها النعمة التي يجب أن تبقى كل الطريق، ولا نقدر أن نمزج بين الناموس والنعمة. ولا يمكن أن تصبح "سيناء" مقترنة بأورشليم التي هي سماوية. "وابن الجارية لا يرث مع ابن الحره".

إنك لا تقدر أن تقف على أساس استحقاق آخر ثم تنتهي باستحقاقك أنت. ولا يمكنك أن تنال البركة بالنعمة وتحتفظ بها باستحقاقك.

وإليك هذا المثل البسيط للتوضيح:

رجل أعمال ثري أراد أن يتبنى طفلاً شريداً، فوجد في الطريق العام ولداً فقيراً ذي ثياب رثة، فأدخله إلى منزله وألبسه ثوباً جديداً بحسب مركزه الجديد، وبذل أقصى جهد ممكن لكي يشعره بالسعادة، ووجد الولد كل الظروف الحسنة في هذا البيت الجديد وهكذا نجح الرجل في هذا العمل نجاحاً عظيماً.

وفي إحدى الأيام أبدى الرجل الثري اندهاشه، وعندما رأى الولد في قاع المخزن مرتدياً معطفه ومريلته وفي رجليه حذاء أسود يلبسه وقت العمل.

- ماذا تفعل هنا يا ابني؟

- إن واحداً قال لي- يا سيدي- إن الذي يُقدّر مكانه ومركزه الجديد فعليه أن يقوم بعمل شيء لكي يحفظ مكانه هنا. أما إذا فشلت في هذا العمل فلا بد من طردي من هذا المكان، وأرجع مرة أخرى إلى حالتي الأولى كمنبوذ تائه في الشوارع. وأنا لا أريد أن هذا يحدث معي. لذلك فكرت أن أبدأ بعمل شيء لكي تقتنع بأن تبقيني هنا.

والآن فإن هذا الولد قد سقط من النعمة، بحسب ما في المثل من معنى، فإن النعمة قد أحضرته ووضعته في البيت كابن، دون أي مطلب أو استحقاق. ولكنه نزل إلى المخزن السفلي واتخذ مكان الخدم لكي يحتفظ بتلك البركات التي يُقدرها جيداً.

هذا ما فعله الغلاطيون، فالنعمة منحتهم أسمى البركات. التبني مع التمتع بهذه العلاقة بروح التبني الذي أرسل إلى قلوبهم، وبه صاروا ورثة أيضاً. وبدلاً من البقاء في الحرية التي وضعهم فيها المسيح، فإنهم كانوا يسعون إلى الكمال بالجسد لكي ينالوا التبرير بالناموس (انظر 3: 3، 5: 1- 4). وبكلمات أخرى سقطوا من النعمة.

هناك ثلاثة دةافع ترتبط بتتميم الأعمال الصالحة:

الأول- لكي ننال البركة.

والثاني- لكي نحتفظ بما نلناه.

والثالث- (وهذا هو الدافع الإنجيلي الصحيح) لكي نخدم بشعور المديونية والمحبة، ذاك الذي مات لكي يضمن لي البركة، والذي يحيا لأجلي كي يحفظني في تلك البركة.

فإذا عملت لكي أنال الخلاص، هنا لمن أعمل؟ للذات.

وإذا عملت لكي أحتفظ بالخلاص، فلمن أعمل؟ للذات أيضاً.

إذن فأي نوع من الخدمة يجب أن أقوم بها؟ "إنه مات لأجل الجميع، لكي يعيش الأحياء فيها بعد لا لأنفسهم بل للذي مات لأجلهم وقام" (2كو5: 15) وبأي دافع أقوم بهذه الخدمة؟ إنها المحبة كما يرينا العدد السابق لهذا "لأن محبة المسيح تحصُرنا".

هل من الصحيح، كما يظن الآلاف من المسيحيين، أن نمسك بالخلاص لئلا نهلك؟ الإجابة كلا. مكتوب "ولذلك نحن قابلون ملكوتاً لا يتزعزع ليكن عندنا شكر به نخدم الله خدمة مرضية بخشوع وتقوى" (عب12: 28).

ولنتيقن من هذا أنه ليست هناك خدمة مرضية مالم تنبع من إحساس غامر بالممنونية للنعمة التي أقيم فيها. أما إذا كانت الذات هي الدافع فهي مرفوضة. ليس عليّ أن أمسك بالخلاص بيد وباليد الأخرى أخدم بها. بل أتمتع بالحق المبارك، لذاك الذي يمسكني بكلتا يديه ويحبني بكل قلبه. وهذا الشخص الذي حررني جعلني أخدمه بكلتا يدي وبكل قلبي. أليس ما يقولونه تعليماً خاطئاً لأنهم لم يعرفوا بعد محبة المسيح التي تحصرنا.

اسأل أباً له ابناً عاجزاً، وسيغيب الأب عن منزله لمدة شهر، فأيهما يفضل هل يترك ابنه لعناية أمه أو يتركه تحت رعاية ممرضة بالأجر؟ لا بد أنه سيقول لك أنت تعرف إجابة هذا السؤال.

إن الأم تخدم بعواطف مفعمة نحو ابنها وبصبر لا يكب، أما الممرضة فليست كذلك- هذا هو الاختلاف. فهل خدمتنا المسيحية نابعة من محبة المسيح التي تحصرنا أم بدافع عبودية المأجور.

أنا لا أعمل لكي تخلص نفسي

فذاك العمل أكمله الرب عني

لكني أعمل كمن صار عبداً

لمحبة ابن الله الغالي

  • عدد الزيارات: 2632