الدرس الأخير العميق في حياة حزقيا
"وهكذا في أمر رؤساء بابل الذين أرسلوا إليه ليسألوا عن الأعجوبة التي كانت في الأرض تركه الله ليُجرّبه ليعلم كل ما في قلبه" (2اي32: 31).
لا أطيل التأمل معك أيها القارئ المسيحي لأن الروح بل الكاتب الإلهي يتحاشى الإسهاب في كل موضوع كهذا، فبينما نرى الروح يتوسع في ذكر محاسن القديسين ويتلذذ بها نراه بغاية الإيجاز وبحزن مفرط يشير إلى سقطاتهم وهذا ما نلاحظه خصوصاً في تاريخ حزقيا الذي شغلت أعماله الصالحة أربعة إصحاحات طويلة في سفر الأخبار الثاني بينما تقصيره وزلته لا تُذكر إلا في عدد واحد "هكذا في أمر تراجم رؤساء بابل الذين أرسلوا إليه ليسألوه عن الأعجوبة التي كانت في الأرض تركه الله ليُجرّبه ليعلم كل ما في قلبه" (2اي32: 31) هذه كلمات قليلة شاملة جامعة ولا يستطيع الإنسان أن يعرف كل ما في قلبه أو أن يقف أمام هذه المعرفة إلا إذا أدرك محبة الله في الفداء. استدعى الحال أن حزقيا يتعَلّم عن الله في تاريخ حياته السابقة ويدرك نعمته وبذلك استطاع أن يكتشف خبايا قلبه ويرى كل ما فيه وكم من المعاني متضمنة في هذه الجملة القصيرة "كل ما في قلبه" ومن يستطيع أن يرى كل ما في قلبه إلا ذاك الذي قال "طرحت كل خطاياي وراء ظهرك" نستطيع أن نرى كل ما في قلوبنا متى عَلمنا أن الرب غفر كل آثامنا وشفى جميع أمراضنا- متى رأينا "تيس عزرايل" المُعَيّن من الله هارباً بآثامنا إلى البرية إلى أرض النسيان "ويضع هرون يديه على رأس التيس الحي ويُقر عليه بكل ذنوب بني إسرائيل وكل سيئاتهم مع كل خطاياهم ويجعلها على رأس التيس ويرسله بيد من يلاقيه إلى البرية" (لا16: 21) في هذه الحالة نستطيع أن نتطلع في قلوبنا ونرى ما فيها من شر خبيث ولكن لا نرى خطايانا مغفورة وآثامنا مستورة لهالنا رؤية شر قلوبنا ويئسنا من منظرها، أما متى عاينا الله في الصليب يسهل علينا أن نتعلم شرّ قلوبنا وندرك رويداً رويداً جمال تلك الجملة القصيرة "كل آثامنا" مُحيت في الصليب ونُقدّر نعمة الله خير تقدير وقوة فاعلية دم ربنا يسوع المسيح المطهر.
ونلاحظ في تاريخ حزقيا أن الرب في كل مرحلة يقترب أكثر فأكثر لعبده ويعامله معاملة لخيره فتم فيه المكتوب "كل غصن يأتي بثمر ينقيه" (يو15: 2) وكلما ازددنا تعبداً للرب وسمونا في سلوكنا كلما غار علينا وراقب حركاتنا لكي يباركنا بركة أغزر ويعطينا الفرصة لنقيم البرهان على تعبد قلوبنا له. يلتزم الرب أحياناً أن يكشف شراً كامناً فينا ليقضي عليه ويُخلّصنا منه وهذه هي مقاصده الحكيمة في معاملته لحزقيا. لا شك أن ترتيب المملكة في مثل تلك الظروف واندحار سنحاريب ألقى الرعب على الأمم حولهم إذ قام البرهان وقُدّمت الشهادة على أن المملكة منظمة. وأن قلوب بني إسرائيل وهم راجعون إلى أرضهم يغنون أناشيد الفرح مما برهن على أنهم كانوا في الهيكل ساجدين عابدين وبالإيجاز قد نال حزقيا الشهادة من العالم في الخارج ومن أخوته في الداخل بأن سبيله كان سبيل البر والأمانة وما أجمل أن لا يجد العالم فرصة لكي يعيّرنا في سلوكنا ولا إخوتنا فرصة لكي يشتبهوا في حياتنا عندئذ نرتفع في بحبوحة السعادة والفرح الروحي لكن يوجد أكثر من ذلك وهو أن الله يحدد نظره في أعماق قلوبنا فيرى ما يعجز العالم أو إخوتنا عن رؤيته. فهو لا يكتفي بمملكة منظمة ولا ببيت مرتب ولا بسلوك سامٍ مجيد ولكنه يشتاق إلى قلب منظم.
ألا يفحص هذا الحق قلوبنا ويُعلّمنا الدروس المطلوبة؟ عندما شرع حزقيا في سيره الجهاري التفت إلى التشويش في مملكته ثم إلى التشويش في بيته ولكن الرب ألفت نظر عبده إلى التشويش الذي في قلبه ولا يوجد أصعب من هذا الامتحان. صحيح أن حزقيا فاق نظراءه في المُلك فقد تفوّق على يوثام وآحاز اللذين لم يباليا بالمملكة ولا بالبيت ولا بالقلب ولكن قصد الله أن يسوي الأمر بخصوص حالة قلب عبده وهنا أقول من ذا الذي استطاع أن ينجح في الامتحانات الثلاثة إلا الوحيد الفريد الذي قال "أسلك في كمال قلبي في وسط بيتي".
ومن أين جاء العدو الذي هزم هذا البطل- حزقيا- الذي سار في طرق الله بقدم ثابت؟ أتى من بابل- نبع الشر الأدبي القديم الذي سرى وسط محلة إسرائيل فسممها في أيام يشوع "في ذلك الزمان أرسل مردوخ بلادان ابن بلادان ملك بابل رسائل وهدية إلى حزقيا" (اش39: 1) وهنا نرى ملكاً هاجم حزقيا وكان أشد فتكاً من ملك آشور وجيشه الجرار وأقوى بطشاً من ملك الأهوال- الموت- الذي كان مزمعاً أن يختطف روح حزقيا- ملك بابل أتى بهدية- هدية بطشت بقلب حزقيا. لما هدده ملك آشور وأرسل الرسائل له "صعد إلى بيت الرب ونشرها أمامه" فظفر وانتصر، ولما واجهه الموت "وجّه حزقيا وجهه إلى الحائط وصلى إلى الرب" فأقامه الرب من بين الأموات، إلا أنه لما أتى رؤساء بابل "فرح بهم حزقيا وأراهم بيت ذخائره" فسقط وكان سقوطه عظيماً!! يا له من إنذار مرعب- إنذار خطير!! كان حزقيا غافلاً فعلاً، لا صلاة ولا صراخ ولا طلب لوجه الرب، ضعفت بصيرته الروحية، كلّت عيناه عن النظر فلم يستطع أن يكتشف الطُعم- الطعم المحلّى بالذهب البراق اللامع- الفخ الخفي المنصوب لقدميه!! أين أنت يا حزقيا؟ هل ذهبت ونشرت رسائل مردوخ أمام الرب؟ لو كنت فعلاً ذلك لسما بك الرب فوق تأثير سياسة العالم وجاذبيته المحبوبة كما سبق وحفظك من رعوده وتهديده، ولو كنت يممت شطر المقادس لنجوت من خداع الحية كما خلصت سابقاً من زمجرة الأسد. وهنا الوحي يرينا علّة فشل حزقيا وتقصيره "تركه الله ليعلم كل ما في قلبه" ومتى ترك الله إنساناً فدودة كافية لأن تقلب كيانه.
يا ليتنا نتعلم درساً في حينه من تقصير حزقيا، وأن العالم متى ابتسم في وجوهنا تغلّب علينا أما متى زمجر ضدنا دفعتنا زمجرته هذه إلى الصليب. إنه من الصعب أن ننتصر على أهل جبعة الظرفاء أو على أجاج المؤدب البشوش كما على بني عناق القساة القلوب أعداء الله التي تعلّمها وهو عند أبواب القبر وعن محبة الله الغافرة التي طرحت خطاياه وراء ظهره، بدل أن يرسم هذه كلها أمامهم "أراهم بيت ذخائره. الفضة والذهب والأطياب والزيت الطيب وكل بيت أسلحته وكل ما وجد في خزائنه لم يكن شيء لم يرهم إياه حزقيا في بيته وفي كل ملكه" (اش39: 2) فهو كان مشغولاً بذاته ناسياً الله نسياناً غريباً لا نستطيع أن نُعلّله إلا بالقول هذا هو الإنسان- إنسان الله إذا تُرك لنفسه.
أما وقد برز شره تماماً لا في عيني الله فقط ولكن في عيني نفسه أيضاً فالرب بنعمته يقود عبده لا إلى نهاية مملكته فقط ولا إلى نهاية بيته فقط بل إلى نهاية نفسه "هوذا تأتي أيام يُحمل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل لا يُترك شيء يقول الرب ومن بنيك الذين يخرجون منك الذين تلدهم يؤخذون فيكونون خصياناً لقصر ملك بابل" (اشر39: 6و7) ولي أن أقول أن حزقيا رأى نهاية ملكه وبيته ونفسه الكل سيذهب إلى بابل التي أغوته بسفرائها وطَوّحت به بهديتها وكل شيء افتخر به قلبه المسكين وتباهى به أمام العالم وما كان منهم إلا أن غنموا هذه الذخائر لأنفسهم ولكن السلام والحق أي الذخائر التي كانت له في الله لم تُنـزَع منه وكان له في الله مال أفضل وباق لأنه كان محفوظاً في السموات.
وها نحن قد وصلنا إلى ختام هذا التاريخ المشحون بالتعاليم ورأينا أعمال حزقيا أولاً وآخراً ترتسم أمام أبصارنا- رأينا أسرار مُلكه وأسرار بيته وأسرار قلبه، طفنا معه في مُلكه من السنة التاسعة إلى السنة العشرين وأخيراً رأيناه في صحبة السلام والحق، شاهدناه في تجاربه واثقاً في الله ورأيناه أمام العالم وأمام إخوته وسبيله كان سبيل الصديق الذي يشرق وينير إلى النهار الكامل.
والآن أسألك أيها القارئ المسيحي العزيز أي ثمرة جنيت لنفسك من هذه التعاليم- التعاليم التي أدت بنا إلى خاتمة الطريق الذي فيه نرى بطلان الحاضر وزوال الأمجاد الأرضية ومتى تعلّمنا الدرس المُذلل عن قلوبنا وعن شرها ورأينا نهاية كل شر أفلا يلذ لنا ويحلو لنفوسنا ويطيب لقلوبنا أن تجد سلاماً وحقاً هما نصيبنا الدائم النهائي- يا لإلهنا من إله كريم مُنعم- إلهنا الرحيم الذي طرح خطايانا وراء ظهره وأصعدنا من جب الهلاك ووضع على صخرة أرجلنا وفي أيدينا قيثارة نرنم له بها في وسط بيته فنُغني للسلام والحق طول النهار الأبدي ونقول: ربي وهبت لي أنا البائس المسكين قيثارة ذهبية مشتراة بالدم الكريم- أوتارها مشدودة هيأتها قوة الله لأغني عليها مدى السنين في أُذني الآب باسمك وحدك لا سواه.
- عدد الزيارات: 3988