مشاهد من حياة حزقيا
"ويعود الناجون من بيت يهوذا الباقون يتأصلون إلى أسفل ويصنعون ثمراً إلى ما فوق لأنه من أورشليم تخرج بقية وناجون من جبل صهيون. غيرة رب الجنود تصنع هذا" (اش37: 32).
يبحث النبي أشعياء في تاريخ حزقيا من الوجهة الأدبية كما يبحث في تاريخ هذا الملك من حيث علاقته بمصير ومستقبل الأمة الإسرائيلية. تأملنا فيما سبق في الوجهة الأولى والآن نتأمل قليلاً في الوجهة الثانية:
يرمز سنحاريب إلى الملك الصفيق الوجه الذي يرفع نفسه على ما يُدعى إلهاً أو معبوداً "ويفعل الملك كإرادته ويرتفع ويتعظم على كل إله ويتكلم بأمور عجيبة على إله الآلهة ويتبجح إلى إتمام الغضب لأن المقضي به يجري" (دا11: 36) (قارن 2تس2 مع دا11: 16-45) فحزقيا اللابس المسوح يمثل البقية التقية في اليوم الأخير التي تصرخ للنجاة من يد ظالمها القوي يومئذ "أتملقها واذهب بها إلى البرية وألاطفها" (هو2: 14) وفضلاً عما سبق من المبادئ الأدبية السامية اللازمة لسلوكنا اليومي نرى في تاريخه صورة نبوية تمثل لنا تاريخ إسرائيل في الأيام الأخيرة. يا ليت الرب يعطينا نعمة لنُعظّم ونُقدّر شهادة أبينا السماوي أكثر فأكثر وبالأخص عندما نرى أفكار الناس المبهمة الغامضة وحوادث الظروف المظلمة "كل جسد عشب وكل جماله كزهر الحقل يبس العشب ذبل الزهر لأن نفخة الرب هبت عليه حقاً الشعب عشب يبس العشب ذبل الزهر وأما كلمة إلهنا فتثبت إلى الأبد" (اش40: 6-8).
ثم نجد في الإصحاح الثامن والثلاثين من إشعياء أن الملك حزقيا وصل إلى الدرك الأسفل أي "أبواب الهاوية" وليس هذا النـزول لأجل ظروف وحالة مملكته بل نزل في شخصه وقد سمح الرب أن الملك حزقيا يشعر برعب ملك الأهوال ويد الموت القاسية كما شعر قبلاً بتهديدات ملك آشور المتشامخ والآن رأى من اللازم أن يلجأ إلى الله نفسه. هذا كان وقت امتحان وشدة، وكان أيضاً وقتاً مثمراً، ومن الهين علينا أن نتتبع آثار يد هذا الصديق الأمين في مثل هذا المشهد الرهيب. مر حزقيا في ظروف كان يتسنى للعدو أن ينفخه بها- سبيل مجيد- سبيل التعبد والخدمة- سبيل الإصلاح الباهر الذي جرى على يديه- سبيل ظهور تأثيره الحسن الفعال في الكهنة واللاويين- ونفوذه في يهوذا وإسرائيل- وكلمته المسموعة في قومه- وخلاصه المجيد الباهر من خصمه اللدود العنيد بواسطة رب الجنود- كل هذا كان من شأنه أن يثير كبرياء قلبه وفي الختام سنرى أن حزقيا لم يكن يجهل هذه الكبرياء ولا أين مقرها. يليق بنا في ظرف كهذا أن نصفق إعجاباً ونهتف بسرور لأمانة إلهنا الذي بعد أن بسط أمامنا هذه المشاهد المنيرة ورسم أمام أبصارنا حياة هذا الرجل الصالح نسمعه يلفظ هذه الأقوال الخطيرة في بدء إصحاحنا المشار إليه "هكذا يقول الرب. أوص بيتك لأنك تموت ولا تعيش" (اش38: 1) فأصبحت الآن المسألة شخصية "أوص بيتك" انشغل فيما سبق ببيت الرب وعَمِل له، تدرب بخصوص حالة المملكة ونِعمَ ما فعل وما كان يمكنه أن يجلس على عرش داود لو لم ينحُ هذا النحو، إلا أن هناك مسألة أعمق من هذه المسائل كلها. دنا الرب من عبده وقصد أن يعامله بخصوص بيته قائلاً له "أوصِ بيتك" ويا لها من كلمة تفحص القلوب والكلى إذ مسّ الرب ينابيع قلبه الخفية التي لم يلاحظها وسط مشاغل الخدمة، وقد ضرب على وتر قلبه الحساس فانفتحت مخادع نفسه المستترة وانكشفت خباياها، تلك الخبايا التي بقيت مغلقة أثناء اختلاطه مع الناس. إننا عند ما ندنو إلى سرير مرض حزقيا نشعر بالمهابة والخطورة لأن التحول كان فجائياً، فالذي كان لابساً سلاح النصرة والظفر بين الهتاف والتهليل، ما هي إلا عشية وضحاها حتى نراه عند أبواب القبر. سبق أن شاهدناه في المقادس يرفع هامته على العدى والمبغضين والآن يُنكّس رأسه وملاك الموت سائراً نحوه ليضرب ضربته القاضية وفي كلا المشهدين نتتبع آثار الله نفسه. في الأول نرى الله عاملاً بالنعمة والرحمة وفي الثاني نراه متصرفاً بالحكمة والأمانة لأنه هو هو الله ولسنا ندري بأي المشهدين نحن أشد إعجاباً أبنبرات النعمة القائلة لسنحاريب "احتقرتك العذراء بنت صهيون" أم بالصوت القائل لحزقيا في ملء الأمانة "أوص بيتك" في المرة الأولى خلّص عبده من عدوه وفي المرة الثانية خلّص عبده من الذات وهذا خلاص أمجد وأعظم.
ماذا يعمل حزقيا في ساعة محنته هذه!! في هذه المرة لم يصعد إلى بيت الرب بل صعد على الرب نفسه وحسناً فعل "فوّجه حزقيا وجهه إلى الحائط وصلى إلى الرب" (اش38: 2).[1]
هذا هو العلاج في كل الأزمنة "إنما لله انتظري يا نفسي لأن من قلبه رجائي" (مز62: 5) فقد قصد الرب أن يُنشئ في نفس عبده العزيز شعوراً صحيحاً بحالته الحقيقية- حالة الاعتماد والاتكال- أراد أن يريه أن نفس اليد التي أنقذت مملكته من مخالب العدو تشتاق أن تنقذه من براثن الموت. وما لم يتأسس ملكه ويُبنَ شخصه على قوة القيامة فلا دوام له ولا لمملكته. يا له من توافق إلهي بين قوله "أوص بيتك" وقوله "حوّل حزقيا وجهه إلى الحائط" فكأنه ردد نشيد داود "أليس هكذا بيتي عند الله لأنه وضع لي عهداً أبدياً متقناً كل شيء ومحفوظاً. أفلا يثبت كل خلاصي وكل مسرتي" (2صم23: 5) فوضع الآن حزقيا نفسه كما وضع مملكته قبلاً في يدي يهوه حيث الأمان.
ويجب أن نلاحظ أن الرب يقرن خلاص المملكة بإقامة الملك "هاأنذا أضيف إلى أيامك خمس عشرة سنة ومن يد ملك آشور أنقذك وهذه المدينة وأحامي عن هذه المدينة" (اش38: 5و6). ومن هنا نَتعلّم صريحاً أنه لا مناص من اجتياز يهوذا وملك يهوذا في الموت والقيامة وهما أمران عكس الطبيعة تماماً ولأجل ذلك قَلَبَ الرب نظام الطبيعة (اش38: 8) وما أبدع إظهار قوة الله بالنعمة التي تُغَيّر نظام الطبيعة وما أبهى هذا المشهد في حياة حزقيا فنجاته من آشور عجيبة وخلاصه من الموت أعجب وأمجد. استطاع أن يأتي بالله إلى مشاكله ومصاعبه، إلى بلاياه ومصائبه، إلى ضيقه وكربه، فأعطاه الله الخلاص وأظهر له عجائبه. والله لا يعبأ بما يقف في سبيله وهو عامل لخير شعبه. فلا يكتفي بإيقاف الشمس كما في حادثة يشوع بل يُرجعها إلى الوراء لتتجلى أعمال نعمته الإلهية وتسطع قوته في خلاص من اتكل عليه وطلب منه العون والمدد وحقاً إذا لجأ الإيمان إلى القدير فكل شيء مستطاع.
لم يرتضِ الرب أن يخلّص عبده بأسلوب يؤثر ولو قليلاً على الدرس الإلهي الذي رغب أن يُعلّمه إياه، ولاحظ ماذا يقول حزقيا "كتابة لحزقيا ملك يهوذا إذ مرض وشُفي من مرضه" (اش38: 9). وهذا الاختبار الذي استنشق نسيمه ونشتم عبيره في هذه الكتابة لم يبلغ إليه حزقيا في وسط محفل إسرائيل ولا في ميدان القتال ولكن نستنشقه حيث طرحه الله على سرير المرض ومَن مثل الله مُعلّماً.
وإن سُئلنا ما هي الدروس الخصوصية التي تعلّمها حزقيا في مرضه لألفينا الجواب في العدد الخامس عشر من الإصحاح الثامن والثلاثين حيث يقول "بماذا أتكلم فإنه قال لي وهو قد فعل. أتمشى متمهلاً كل سِني من أجل مرارة نفسي" وقصارى القول أنه تَعلّم أن يمشي متمهلاً وكان غرض الله أن يُعلّمه هذا الدرس المبارك وإن نسيه سريعاً فضلاً عن أن حزقيا تَعلّم شيئاً عن الله وعن نفسه وما أحوجنا إلى هذا التعليم إذ لا يغنينا شيء عن اكتشاف منابع قلوبنا الدفينة إلا إذا اكتشفنا منابع قلب الله الغنية. ولو تعلّم الإنسان ما في قلبه من الخطايا الدفينة ومبادئ الشر فقط لهوى في بالوعة اليأس واستحوذ عليه القنوط ولم يكن تعليمه تعليماً إلهياً ولكن إن اكتشف خطيته ثم اكتشف نعمة الله التي أزالت هذه الخطية ونزعها فهذا هو التعليم الإلهي عن الله وعن نفسه.
وهيهات أن يتضع الإنسان إلا إذا درس نفسه بالعلاقة مع الله فالنعمة التي تنـزع الخطية تقود النفس إلى منتهى التواضع وهذا ما جرى مع حزقيا فَتعلّم أن يمشي متمهلاً وما أغبط الاكتشاف الذي اكتشفه عن الله فهو لم يعرف فقط أنه يُنقذ المملكة من يد ملك آشور بل عرف أنه أنقذ نفسه من وهدة الفساد وطرح خطاياه وراء ظهره وهكذا تخلّص حزقيا من ذاته ومن خطاياه ومن الحفرة ليشغل مركزه بين الأحياء "الحيّ الحيّ هو يحمدك كما أنا اليوم ويعظم اسم الرب".
ومعاملات الله الخطيرة قادت نفس هذا الرجل الصالح إلى مركز سعيد فالإصحاح يُفتتح بقوله "أوص بيتك" وهذه الجملة أزالت النقاب عن أمور كثيرة رآها حزقيا فاتضع غير أنه تعلّم كثيراً عن محبة الله الفدائية التي ترد النفس وكان جوابه لقوله "أوص بيتك" ذلك القول الجميل "طرحت خطاياي وراء ظهرك" أما عن بيته فقد عرف أنه لم يكن مع الله ومع كلٍ ألقى بنفسه على وعد الله واثقاً أنه سيجعل له بيتاً أميناً ثابتاً "الرب لخلاصي فنعرف بأوتارنا كل أيام حياتنا في بيت الرب" (اش38: 20).
إلى هنا نشاهد أن خدمة الهيكل والعبادة فيه قد رجعت إلى مجاريها وأن يهوذا قد أُنقذ وأُقيم من وهدة الفساد. والإنسان في ميل لأن يظن أنه الآن في طريق الخطوة الأخيرة بين المجد وظهوره ولكن واأسفاه فإن هذه مجرد ظلال هنيئة إلى ما هو مزمع أن يُستعلن بيننا عندما يتبوأ ملك يهوذا الحقيقي مجلسه على عرش داود أبيه ويتقلّد صولجان الملكوت الذي لن يتزعزع.
1- ربما يسأل البعض لماذا اشتاق حزقيا إلى البقاء طويلاً وإلى العمر المديد، فجواباً للسائل نقول أن اليهودي قد تعلّم بان طول الحياة بركة خاصة من يد إله إسرائيل الأمر الذي يتنافى مع رغبة المؤمنين في العهد الجديد. وقد كان جل رغبة اليهودي أن يعمّر طويلاً في الأرض، أما المسيحي فسيرته في السماء وينبغي أن يكون قصارى أمنيته أن يكون في السماء فعلاً كما هو فيها الآن روحياً ومبدئياً.
- عدد الزيارات: 6486