الابن الضّال: خرّيج مدرسة الخنازير
لو 15: 11-32
كان شاباً تضحك الدنيا له: قويّ البنية، مشيق القامة، طلق المحيّا، جميل الصورة وفي ريعان الصبا. كان يسكن مع أبيه وأخيه الأكبر في قصر ريفيّ تُحيط به البساتين والمزارع والحقول. كان يرتع في نعمة، يحسده عليها المئات والألوف، وفي عيشةٍ راغدة هي أشبه بعيشة الملوك والأمراء.
فهناك الجاه والرفاه
وهناك الغنى والمنى
وهناك الإكرام والاحترام
وهناك الحماية والكفاية
وهناك الخدم والحشم
وهناك السرور والحبور
وفي ذات يوم، وبينما هو غارقٌ في تفكير عميق، جاءه الشيطان وعلى ثغره ابتسامة وهمس في أذنه بضع كلمات، كلّها دهاء وإغراء، كانت شديدة الوقع والأثر على قلبه وعقله. ولكثرة مراوغته وشيطنته بدأ معه كالمعتاد بالأسئلة بقصد التظاهر بالبراءة والرّغبة في عمل الخير!
لماذا تعيش في قصرٍ ضيّق والعالم أمامك واسع؟
لماذا تبقى في قريةٍ صغيرة والمدن الكبيرة كثيرة؟
لماذا تحيا تحت سيطرة أبيك وبإمكانك أن تكون حرّاً؟
وهنا غمزه الشيطان وقال: لماذا الحرمان.. وهناك كلّ ما تشتهيه نفسك؟ اترك أباك وأخاك، بيتك وقريتك واذهب إلى المدينة ومتّع نفسك وشبابك
بالملاهي والمقاهي..
بالتياترات والحفلات..
بالشراب والملذّات..
وهنا أخذ صديقنا المغرور يسبح في بحرٍ من
الخيال
والخيال، كما نعلم هو غير الواقع. فهو يُضخّم الحقائق والأمور فتظهر مغريةً جذّابة، ويصوّر الأشياء النظريّة كأنّها عملية. وهذا، لا شكّ، يُبهج القلب ويُفرحه.
فتصوّر نفسه حرّاً طليقاً
يفكّر كما يشاء
يفعل كما يشاء
يحيا كما يشاء
وتصوّر نفسه محطّ الأنظار والأبصار
موضوع احترام الناس
موضوع مديح الناس
موضوع حديث الناس
وتصوّر نفسه يُغمر بسيل من الألقاب
يا بك
يا باشا
يا افندم
وتصوّر نفسه يغرف من بحر الملذّات والشهوات الشبابيّة.
صورٌ تتلوها صور مرّت في ذهنه وخياله. وهكذا تغلب عامل الإغراء على عامل البقاء ووقع أخونا في الفخّ.. فتمّ فيه قول رجل الله توما الكمبيسي: إنّ التصوّر هو أوّل خطوةٍ في التهوّر. وكانت النتيجة أنه سقط في
الخطيّة
حاول صاحبنا أن ينفّذ كلّ ما تخيّله عقله. فنهض لساعته وطلب نصيبه من الميراث، وهو ثلث ما يملكه الأب. ثمّ ترك البيت، ربّما من غير كلمة اعتذار أو قبلة وداع، غير آبهٍ بتوسّلات ودموع أبيه. وذهب إلى مدينةٍ بعيدة. ولماذا بعيدة؟ لكي يتسنّى له أن يفعل ما يشاء وهو بعيد عن أعين الرقباء. وهناك التصق بزمرة من الأصدقاء والعشراء الأردياء فأفسدوه. والمعاشرات الرديّة تفسد الأخلاق الجيدة. فانصاع لغرائزه وشهواته، ولم يمنع شيئاً حلالاً كان أم حراماً حتى غرق إلى ما فوق رأسه في الشرّ.
فصار يسهر ويسكر (15: 13)
وصار يعهر ويبطر (15: 30)
حتى بذّر كلّ ما كان له.
حقاً "الخطيّة خاطئةٌ جداً". إنّها شرّ ومرّ. فهي تنجّس و(تجرّس) و(تفلّس) والإفلاس قاده إلى
الخواء
وأنا أعني الجوع. بحث عن المال فلم يجد في جيبه شيئاً منه لأنّه كان قد طار. بحث عن الأصدقاء الذين صرف قسماً كبيراً من ماله عليهم فوجد أنّهم قد طاروا. فماذا يفعل؟ جائع. وحيد. كاد عقله يطير. انتظر أياماً قليلة لكنّ حالته كانت تزداد سوءاً.
فضمر جسمه
وشحب لونه
وبرزت عظامه
وجحظت عيناه
وخارت قواه
واتّسخت ثيابه.. حتى صار أشبه بالشحّاذين.
تمنّى لو كان بإمكانه أن يأكل خرنوباً كالخنازير فلم يعطه أحد. وأخيراً وجد باباً واحداً للتخلّص من الموت والهلاك ألا وهو رعاية الخنازير.
كانت الخنازير خير معلّم له لأنّه رأى نفسه فيها
رأى الخنازير تتمرّغ في الأوساخ فقال: هذا أنا
رأى الخنازير تنظر إلى الأرض فقال: هذا أنا
رأى الخنازير كريهة الرّائحة فقال: هذا أنا
رأى الخنازير قبيحة الشكل والمنظر فقال: هذا أنا
رأى الخنازير تأكل الخرنوب فقال: هذا أنا. فصمم على
الخلاص
وكان هذا على ثلاث درجات:
1- ثاب: "رجع إلى نفسه". العبارة نفسها قيلت على بطرس بعد أن كان نائماً في السجن (أعال 12: 11).
أي أنّه رجع إلى عقله ورشده بعد أن كان غارقاً في نوم الخطية وأخذ يُقارن الأمور بعضها ببعض. وقال في نفسه
شتّان ما بين أبي وهذا الحقل الذي أرعى فيه
شتّان ما بين خدّام أبي وهذا الحال الذي أنا فيه
شتّان ما بين خبز أبي وهذا الخرنوب الذي أنا أشتهيه
شتّان ما بين الأنغام الموسيقية وصوت الخنازير الكريه
2- تاب: "أقوم وأذهب إلى أبي" أي أنّه صمم على وضع حدّ لحياته تلك والإقلاع عن الخطيّة وتركها إلى غير رجعةٍ.
3- آب: "فقام وجاء إلى أبيه". كان راجعاً وهو يركض كمن يركض لحياته
رجلاه داميتان
ثيابه رثّة
بطنه فارغ
شعره مشعّث
ولما أصبح على مسافةٍ من بيت والده خارت قواه ولم يعدّ يقوى على الركض أو السير فجلس يبكي وينتحب ويتمتم قائلاً: أخطأت.. أخطأت.. أخطأت.. فلمّا رآه أبوه تحنن وركض ووقع على عنقه وقبّله وقبّله. وعلى الفور اعترف الابن بما اقترف وأظهر عن انكسار وانسحاق أمام أبيه. وعندئذٍ الأشياء العتيقة مضت وأصبح كلّ شيء جديداً.
كان عرياناً فأخرجوا له الحلّة الأولى
كان حافياً فألبسوه حذاءً جديداً
كان ذليلاً فجعلوا خاتماً في يده
كان جائعاً فقدّموا له العجل المسمّن
كان ميتاً فعاش
كان ضالاً فوُجد
أخي القارئ! إن كنتَ في حالةٍ أشبه بحالة الابن الضالّ أريد أن أُؤكّد لك أن
من ابتعد وغاب..
إذا تاب وآب..
قبِلَهُ الآب..
بكلّ ترحاب…
- عدد الزيارات: 7808