من هو الغبي؟
(لو 12: 16 –21)
مثله الكثيرين من الأغنياء في عصره و عصرنا. تحلَّق الناس حوله واجزلوا له المديح والثناء. بجَّلوه، مجده، أكرموه و كالوا له الكلمات الرنانة الطنَّانة على حركاته و سكناته.
فإذا أعطى نقطة من بحر غناه قالوا: ما أكرمه
وإذا لبس و تأنق في مظهره قالوا: ما أروعه
واذا أفتر ثغره عن ابتسامة قالوا: ما ألطفه
واذا عبس وانقبض وجهه قالوا: ما أعظمه
واذا سار العجيلى في الطريق قالوا: ما أرشقه
واذا قام بعمل صغير أو كبير قالوا: ما أقدره
واذا سكت ولم يفتح فاه قالوا: ما أوقره
واذا نطق و تكلم في موضوع ما قالوا: ما أحكمه
غير أن هذا الكريم العظيم الحكيم عند الناس، كان غبيا جاهلا عند الله. ذلك لأنه أسقط الله من حسابه، و بكلمات أخرى:
1-اهتم بالأرضيات دون الروحيات.
"ففكر في نفسه قائلا ماذا أعمل؟ لان ليس لي موضع اجمع فيه أثماري.وقال أعمل هذا: اهدم مخازني وابني أعظم واجمع هناك غلاتي وخيراتي".
لم يأتي على ذكر الله أو بيت الله أو خدمة الله على الإطلاق.كان كل همه الغلات والخيرات والأمور التي تمت إلى الروحيات بصلة.هذا الرجل يصدق عليه ما قاله الكتاب عن أمثاله انهم "ارضيون جسديون نفسانيون".
وضع هذا الغني خططه بمعزل عن الله وانهمك في أمور الحية الدنيا الملموسة والمحسوسة على غرار أولئك الذين تحدث عنهم يعقوب في رسالته، وعلى غرار الذين ينصرفون إلى ملاذ الدنيا ومتعها العابر ة كابي نواس حين قال:
يا من يلوم على حمراء صافية صر في الجنان ودعني اسكن النار
وعلى غرار الذين يستميتون في سبيل الحصول على مركز أو رجاه أو لقب فيعتقدون انهم ملكوا الدنيا من طرفيها .
أمثال هذا الرجل كشارب الماء المالح: كلما ازداد عطشا .
أمثال هذا الرجل يفعلون كما فعلت تلك السيدة التي دخلت مخزنا لتشتري إحدى الحاجات. ولما همت بالدفع سقطت خمسة قروش من يدها إلى الأرض.فتركت محفظتها حيث هي وأخذت تبحث عن الخمسة القروش، وبعد جهد وتعب لم تعثر لها على اثر.ولما رجعت إلى الحفظة وجدت لتعاسة حظها إن نشالا خطفها.فكانت خسارتها مزدوجة .
أمثال هذا الرجل،على حد قول أحدهم،كرجل نجا من خوف فيل هائج إلى بئر فتدلى فيها وتعلق بغصنين كانا فوقها فوقعت رجلاه على شيء في طي البئر فإذا أربع حيات قد أخرجنا رؤوسهن من أحجارهن.ثم نظر فإذ في قاع البئر تنين فاتح فاه منتظر له ليقع فيأخذه.فرفع بصره إلى الغصنبن فإذا في اصلهما جرذان اسود وابيض وهما يقرضان الغصنين دائبين لا يفتران .وبينما هو منهمك في النظر لأمره والاهتمام لنفسه إذا به يبصر قريبا منه كوارة فيها عسل نحل فذاق العسل فشغلته حلاوته و ألهته لذته عن الفكرة في شيء من أمره والتماس الخلاص لنفسه.ولم يذكر أن رجليه على الحيات أربع لا يدري متى يقع عليهن،ولم يذكر أن الجرذين دائبان في قطع الغصنين و متى انقطعا وقع على التنين، فلم يزل لاهيا مشغوفا بتلك الحلاوة حتى سقط في فم التنين فهلك.
أليس هذا ما حصل للغني الذي نحن في صدده الآن. فلا هو تمتع بالخيرات،لأنه مات في تلك الليلة بالذات، ولا ربح الحياة الأبدية. يا لعظم الخسارة التي لا تعوض.
قال يسوع "اطلبوا أولا ملكوت الله و بره و هذه كلها تزاد لكم." أي يجب وضع الأمور الأولى أولا والله يهتم بالباقي.
2-اهتم بنفسه دون غيره .
"واقول لنفسي لك خيرات كثيرة". رب سائل يسأل: و هل محبة النفس خطية؟ كلا، ليست محبة النفس ذاتها خطية، أنما محبة النفس دون محبة الآخرين خطية. هكذا كان الرجل. كانت ذاته محور حياته لدرجة أنها أصبحت ألها يعبده و يسجد له.
هذا الرجل وامثاله هم كركاب الأرجوحة المستدير في مدينة الملاهي، يدورون و يدورن دون أن يتقدموا و خطوة واحدة إلى الأمام. و في أحايين كثيرة يصابون بالدوار ولا يعودون يرون شيئا. أن محبة الذات تعمي صاحبها عن حاجة الناس و حالتهم حتى يصبح لسان حاله "من بعدي الطوفان".
أن وصية الرب هي أن "تحب قريبك كنفسك" أي تحبه بنفس القدر والقدرة و هذا لا يستطيع فعله ما لم "تحب الرب إلهك من كل قلبك" أولا، لأن الوصية الثانية متفرعة من الأولى.
3-اهتم بالحياة دون الممات .
"يا نفس لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين عديدة، استريحي و كلي واشربي وافرحي. فقال له الله يا غبي هذه الليلة تطلب نفسك منك و هذه التي أعددتها لمن تكون؟"
حسب صاحبنا أن "تنعم يوم لذة" وان الحياة هي أكل و شرب و مرح و راحة. يبدوانه اعتنق فلسفة "عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة". وفاته أن كل ما في الأرض باطل حتى الثراء،والدهاء، والحمراء، والنساء،والأصدقاء، والمائدة الخضراء. فاته أن الحياة _ مهما طالت _ قصيرة حتى لو قدر له أن يعيش قدر ما عاش القدماء. فاته أن الحياة هي ظل، و نفخة و بخار. فاته أن الحياة هي كحركة من حركات رقاص الساعة، كشرار تنطفئ بسرعة، كأثر قدم على رمال الشاطئ، كوميض البرق، كظل الطائرة، كطرفة عين، أو على حد قول جبران خليل جبران، سطور كتبت بماء. فاته أن الحياة هي فترة استعداد للأبدية و ملاقاة الله.
أن هذا الإنسان لم يفكر قط بالموت. ولكن الموت لم ينسه بل أتاه على حين غرة حين جاءه الصوت الإلهي: "في هذه الليلة تطلب نفسك منك."
ما أجمل أن يتعقل الإنسان و يفطن و يتأمل أخرته، ما أجمل أن يفكر الإنسان بالله و نفسه الثمينة، ما أجمل أن يفكر بالموت وما وراء القبر، ما أجمل أن يضع الإنسان الله في حسابه لئلا يكون غبيا مثل هذا الغني و يلاقي نفس المصير العسير: أعني الموت الجسدي والموت الأبدي.
و في وسعك أن تفعل هذا أيها العزيز بالتجائك إلى يسوع الذي يخلصك فورا و يمنحك حياة و هدفا و معنى. و بذلك تكون قد بدأت تكنـز في السماء لا على الأرض.
صـــلاة: نتوسل إليك يا إلهنا الصالح أن تصرف اهتمامنا عن الأرضيات والذات والمنظورات و تحصره في ما هو ابقى وانقى وارقى. باسم المسيح. آمين.
- عدد الزيارات: 5792