الفصل الثاني: المسيحيون وأثرهم في لغة الضاد
"للعلم تاريخان، احدهما قبل اختراع الكتابة، والآخر بعدها"(جرجي زيدان).
لا حضارة بدون لغة، فالغة هي المحور الذي يدور حوله الوعي البشري، وهي وسيلة التعبير، التي بدونها ينقطع الإفصاح عن الفكر، كما ولا حياة دائمة في لغة لا تكتب، لأن ما لا يكتب يموت ويضمحل.
ليس من يعلم يقينا كيف ومتى نشأت اللغة العربية، ولا يوجد ما يرصد بالتحديد تطورها إلى ما هي عليه اليوم. في هذا الشأن يقول بروكلمان: "يبدوا أن أوائل علم اللغة العربية ستبقى دائما محوطة بالغموض والظلام، لأنه لا يكاد ينتظر أن يكشف النقاب بعد عن مصادر جديدة تعين على بحثها ومعرفتها". [198]
لكن من المسلمات عند أهل العلم والاختصاص أن اللغة العربية استمدت جذورها من النبطية، شقيقة السريانية. ويذهب بروكلمان إلى أن الخليل بن أحمد مؤسس النحو العربي، هو الذي ابتكر شكل الحروف، وعلامات القراءة، استناداً على نماذج سريانية.[199]
كانت الكتابة في الجزيرة العربية، قبل الإسلام وعند ظهوره، شائعة في بعض المناطق دون غيرها. فكان أهل اليمن يعرفون الكتابة بالخط المسند، وفي مناطق أخرى من الجزيرة عرفت الكتابة النبطية التي منها اشتق الخط العربي. ومع الزمن مات المسند وعاش الخط المتطور عن النبطي. ذلك أن النصارى العرب عملوا على إحياء الخط النبطي باستخدامه في كنائس العرب في العراق ودومة الجندل وبلاد الشام. فهو الخط الذي نشره المسيحيون وكُتب به القرآن وصار "قلم المسلمين".[200]
وقد نشأت عند العرب نظريتان في نشأة الخط العربي ومكان تطوره. قسم قال أنه نشأ في الأنبار والحيرة، أهم معاقل المسيحية في العراق، ثم انتقل إلى مكة والحجاز. وقسم قال بنشأته وتطوره في الحجاز. غير أن النظرية الأولى هي الأثبت عند المؤرخين وأهل العلم. ففي قول لعباس بن هشام، أن ثلاثة من طيء بمدينة بقة موطن المناذرة، الواقعة بين هيت والأنبار في العراق، وضعوا الخط وقاسوا هجاء العربية على هجاء السريانية. فتعلمه منهم قوم من الأنفار ثم تعلمه أهل الحيرة من أهل الأنبار. وكان بشر بن عبد الملك أخو أكيدر صاحب دومة ألجندل "يأتي الحيرة فيقيم بها لحين وكان نصرانيا. فتعلم بشر الخط العربي من أهل الحيرة".[201]
ويقول جواد علي: "كان للتبشير يد في نقل هذا الخط إلى الحجاز ... وقد كان المبشرون من أهل العراق نشطون في التبشير في جزيرة العرب، فلا يستبعد إن يكون من بينهم مبشرون حيريون نقلوا الكتابة إلى دومة الجندل والحجاز ومواضع أخرى من جزيرة العرب ... فأهل الأنبار، والحيرة، وعين الشمس، ودومة الجندل، وبلاد الشام، كانوا من النصارى، فلا استبعد احتمال استعمال رجال الدين للقلم السرياني المتأخر، الذي كوّن القلم النبطي في كتابة العربية،
-------------------------------
198 - تاريخ الأدب العربي، كارل بروكلمان، ج 2 ص 123
199 - بروكلمان، ج 2 ص 131 - 132
200 - المفصل في تاريخ العرب، جواد علي، فصل 82 و 120
201 - فتوح البلدان، البلاذري، مجلد 2، عمرو الناقد . قال به أيضا ابن نديم في الفهرست ص 5 -7
لحاجتهم إلى الكتابة في تعليم أولاد النصارى الكتابة، وتثقيفهم ثقافة دينية، فكانوا يعلمونها في المدارس الملحقة بالكنائس". [202]
أي كانت النظرية المأخوذ بها، فهي تشير إلى الأثر المسيحي الهام في تطوير ونشر الكتابة العربية التي تولد منها القلم العربي. وفي إشارة إلى تأثير الخط على النهضة العربية يقول جرجي زيدان: "على أن بعض الذين رحلوا منهم إلى العراق أو الشام قبل الإسلام تخلقوا بأخلاق الحضر واقتبسوا الكتابة منهم على سبيل الاستعارة، فعادوا وبعضهم يكتب العربية بالحرف النبطي أو العبراني أو السرياني...ومعنى ذلك أن السريان في العراق كانوا يكتبون ببضعة أقلام من الخط السرياني في جملتها قلم يسمونه "السطرنجي" كانوا يكتبون به أسفار الكتاب المقدس. فاقتبسه العرب في القرن الأول قبل الإسلام، وكان من أسباب تلك النهضة عندهم". [203]
للأسف لم يصل إلينا من العصر السابق للإسلام أية مخطوطات إنجيلية أو كنسية باللغة العربية، لكن أقدم المنقوشات العربية وجدت في أبواب كنائس العرب وأديرتهم قبل الإسلام. في دير هند الكبرى في الحيرة وما حولها وفي خرائب زبد قرب حلب، ونُقش حرَّان.[204] وفيما سلف جاء ذكر بعضها، والتي منها نستدل عن الكتابة التي تداولها المسيحيون العرب وكانوا هم معلموها وناقلوها، وبها أبلغوا بشرى الإنجيل لأبناء جنسهم.
إن اللغة العربية والتراث العربي بآدابه وعلمه الغزير هما خاصة المسيحي قبل غيره، وليس لأحد دور أفضل مما للمسيحي في إنهاض هذا التراث وهذه الحضارة. فمنذ الفتح الإسلامي لبلاد الشام والعراق ومصر في القرن السابع الميلادي، تعامل المسيحيون الشرقيون مع اللغة العربية باعتبارها الوعاء الثقافي لهم، وأصبحت مع الزمن هي اللغة الشعبية المستخدمة في العبادة عند معظمهم. وإن كان آباءنا قبل الإسلام قد أفصحوا عن مسيحيتهم بلغات عدة، يونانية وسريانية وقبطية، إلا أنه بهيمنة العرب على الشرق لم يتوانوا في استخدام اللغة العربية وتطويرها وتسخيرها لشرح معاني البشارة المسيحية. لذا نرى اللغة العربية قد ارتبطت ارتباطا وثيقا مباشرا بنشاطهم "فأغنوها أيما إغناء، فحازوا قصب السبق في تطويرها وإنماءها".[205]
------------------------------
202 - المفصل في تاريخ العرب، جواد علي، فصل 121
203 - تاريخ آداب اللغة العربية، جرجي زيدان، ج 1 ص 200
204 - المسيحية العربية، تاريخها وتراثها، الأب ميشال نجم ص 121 ، و مدخل إلى التراث العربي المسيحي، الأب سمير خليل اليسوعي، مجلة المسرة 1981 مجلد 67 ص 169 – 170 اكتشفت كتابات عربية قديمة ذكرها ياقوت الحموي وغيره في تاريخهم. راجع الباب الأول والفصل الخامس، أيضا معجم البلدان، ياقوت الحموي
205 - ميشال نجم، السابق، ص 8
- عدد الزيارات: 3871