الفصل الأول: المسيحيون والإنجازات المنسية
للمسيحيين في مصر والشام والعراق وبلاد النهرين تاريخ عريق في الإنتاج العلمي والفكري والأدبي، لكن مما يؤسف له، أن الكثير من تاريخ العرب المدون ظل لقرون طويلة حبيس الدين الإسلامي، و طمس منه كل ما يتعارض مع مصالح الفقهاء، لاسيما الحقائق المتعلقة بالمسيحية ودور مشايعيها في بناء الحضارة العربية.
وإنه لمن الغريب الأليم أن يجد الباحث أكواما مكدسة من الكتب والمجلدات اكتظت بالتحامل والتسفيه والهجوم على عقائد المسيحيين، لكنه لا يجد إلا القليل مما يدل على التراث العربي المسيحي، رغم كون هذا التراث شكل حيزا كبيرا ضمن تاريخ عربي لا يقل عن سبعة عشر قرنا، تمتد من القرن الرابع ميلادي إلى اليوم.
ولنا من التذكير بتراثنا و دور أجدادنا أغراض هي:
أ - إبراز دور المسيحيين في بناء الحضارة العربية، وإبطال مقولة "أن المسيحية سلعة مستوردة وأن المسيحيون ضيوف على الأوطان العربية". فعلى الرغم من أن مسيحيو المشرق، منذ دخول الإسلام بلادهم إلى الآن، لم يكونوا أسياداً على أوطانهم، فإنّ التاريخ يبرزهم في طليعة رواد الأدب والعلم. ولسنا نبالغ إن قلنا، أن أسس ومقومات الفكر العربي القومي الحديث شيدت على أيدي مفكرين مسيحيين.
ب - إبطال مقولة "أن الحضارة العربية والحضارة الإسلامية واحد". فالحضارة هي مدى ما وصلت إليه الشعوب في نواحي نشاطها الفكري والعقلي من علوم ومعارف وفنون وعمران وما إلى ذلك. وهذه لم تكن للمسلمين، لكنهم اكتسبوها من الشعوب المتحضرة بجوارهم. وليس بخافٍ على أهل العلم، أن العرب المسلمين لم يصطحبوا من الجزيرة شيئا من العلم أو الفن أو التقليد الفكري أو التراث الثقافي، ولا أتوا للبلدان المتحضرة بمهن وصناعات يغنون بها حضارة الشعوب. [195] وعليه لا يجوز أن الحضارة العربية تكون حكرا على الإسلام.
يقول ابن خلدون: "ليس في العرب حملة علم، لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية".[196] وقد كان من الغرابة في تلك الأزمنة أن يُسمع بعالم من المسلمين ضمن المجتمع العربي. نلمس هذه الحقيقة في قول ساخر للجاحظ في كتابه "البخلاء"، حيث يشير إلى واقع زمانه في قصة أسد بن جاني، وهي غالبا شخصية وهمية. فيقول: "قال (أسد بن جاني): أما واحدة فإني عندهم مسلم وقد اعتقد القوم قبل أن أتطيب لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب! وإسمي أسد وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً ومرايل ويوحنا".[197]
ت - تكريم آباءنا والتمثل بمن أظهروا إيمانا منقطع النظير وحبا للعلوم لم يعيا أو يكل وسط كل ما عانوه من قتل واضطهاد وتهجير. فكانوا الأمثل في تثقيف المحتل وإيصال الأدب والعلم إليه، مدفوعين بتكليف من المسيح، بأن يكونوا ملحا للأرض ونورا للعالم.
----------------------------
195 - تاريخ التمدن الإسلامي، جرجي زيدان، ج 4 ص 70 – 71، أيضا: الجامع في تاريخ الأدب العربي، حنا الفاخوري، ص 504
196 - مقدمة ابن خلدون ج1 فصل 43
197 - الجاحظ – البخلاء - قصة أسد بن جاني ص 64
إن النـزوع إلى الثقافة والأدب قديم في كنيسة المشرق بقدم المسيحية. وقد ظل المسيحيين، رغم معاناتهم، محبين للحرية وتوّاقين للتعبير عن قناعاتهم وأفكارهم وآرائهم في كل المجالات، اللاهوتية والفكرية والأدبية. لم تخنق صعوبة العيش حبهم للمعرفة، ولم يردعهم في ذلك وجودهم ضمن مجتمعات متشددة ومنغلقة تسودها مرجعية دينية مطاطية تتكيف بحسب أمزجة الحكام، ولا العيش في ظل أنظمة مستبدة كالت لهم من العذاب أشكالاً وألوناً، وتفنن حكامها في ابتداع طرق وأساليب لإذلالهم. بل على العكس من ذلك، لقد تفوقوا على كثيرين من أقرانهم، وكانوا السباقين في ميادين الفكر والآداب، وإليهم تنسب أعمال أدبية قيمة ومهمة، ولمدارسهم الشهيرة شأن خطير لا يستهان به في نهضة الفكر العربي قديماً وحديثاً.
- عدد الزيارات: 3903