الفصل الثاني: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله"
حاول أغسطينوس في القرن الخامس الميلادي أن يميز ما بين مدينة الله "والمدينة الأرضية" على اعتبار أن لكل منهما خصائصها المتباينة التي تميّزها عن الأخرى. ولم يكن أوغسطينوس في بحثه هذا إلا المعبر عن موقف الكنيسة المسيحية آنئذ من مفهوم الوطنية الذي اعتمد النظرة التقليدية للآية: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله". إذ رأى المفسرون ومعظم اللاهوتيين في نص هذه الآية إعلاناً صريحاً لفصل الدين عن الدولة وبالتالي لاتخاذ موقف محدد من كل ما له علاقة بالدولة والسياسة.
ولكن المتأمل في نص هذه الآية لا بد وأن يتساءل: أحقاً أراد المسيح أن يحظر على أتباعه التدخل في شؤون الحياة السياسية والإدارية ؟ أحقاً أراد المسيح أن يعزل الكنيسة عن خوض معترك جانب مهم من جوانب الحياة ؟ في رأيي أن هدف المسيح كان مخالفاً إلى حد بعيد للتفسير التقليدي الذي اصطلح عليه فريق كبير من المفسرين وذلك لعدة أسباب:
أولاً: إن المسيحية هي جزء من الحياة، بل هي أكمل وجه من وجوهها لأنها ممارسة عملية
للإيمان والعقيدة؛ ولأنها ممارسة فعلية وعملية فلا بد أن تخلّف أثراً عميقاً في حياة الناس وواقعهم. وهذه الواقعية المرتبطة بشؤون الدنيا والآخرة معاً لا يمكن أن تحدث في فراغ، كما لا يمكنها إلا أن تمس أحوال الأمم والشعوب التي تعتنقها. فهي وفضلاً عن كونها ديناً وعقيدة وإيماناً فهي تشتمل على قيم أخلاقية، ومقاييس أدبية ضابطة للسلوك الفردي والجماعي. وهذه القيم لا يمكن تطبيقها في فراغ.
ثانياً: قال المسيح موجهاً حديثه إلى المؤمنين: "أنتم ملح الأرض فإن فسد الملح فبماذا يملح". إن نظرة المسيح كانت أكثر شمولاً لمناحي الحياة مما يرتئيه بعض اللاهوتيين. ففي قوله: "أنتم ملح الأرض" لم يترك مجالاً لأي سوء فهم، أو تأويل غامض للغرض من دور المسيحيين في الأمم والدول التي ينتمون إليها. لأن المسيحية، في سعيها الروحي والعملي، تشكل الصورة الحقيقية للغاية من وجودها. إنها صورة حية عن الدعوة للإنصاف الاجتماعي التي نجد بذورها في أسفار عاموس، وهوشع وأشعياء، وميخا؛ وملامح منها في سفري أرميا وحزقيال. بل إن جملة مواقف المسيح كانت تعرب بصراحة عن دعوة حض لإحقاق العدل الاجتماعي والفردي النابع من سيادة حكم وإله عادل. لهذا لا يجوز أن يقتصر أثر المسيحية والمسيحيين على فئة دون فئة أو على ناحية من الحياة دون أخرى. أي تحديد ضيق للمسيحية معناه تجميد فاعليتها، وهو أمر يتنافى مع طبيعتها. وكون المسيحيين ملح الأرض، يلقى عليهم تبعة جلّى عبّر عنها المسيح في الجزء الباقي من نص الآية حين قال "وإن فسد الملح فبماذا يملّح؟ صحيح أن المسؤولية الروحية هي الصفة الأغلب على العمل المسيحي، ولكن أليست السياسة والوطنية وشؤون الدولة هي وجوه حقيقية من وجوه الحياة أيضاً؟
ثالثاً: إن تصوري لعبارة "أعطوا ما لقيصر لقيصر" لا يعني اتخاذ موقف مناقض للقيم الروحية. فالمسيح، كما أرى، حثّ المسيحيين على القيام بمسؤولياتهم تجاه دولتهم وشعوبهم شريطة أن لا تتناقض هذه المسؤوليات مع القيم الروحية المسيحية فالمسيحيون منذ القرن الأول حتى القرن العشرين قد وقروا شرائع دولهم، واحترموا القوانين. فالتصرف المسيحي في الدرجة الأولى هو تعبير عن القيم الروحية الداعية إلى المحبة والعدل. ومن هنا، فالنظرة المسيحية إلى الدولة والسياسة والوطنية مبنية على جوهر تلك القيم. نحن نفي بمسؤوليتنا بل من واجبنا أن نفي بها تجاه أممنا وشعوبنا طالما تلك المسؤوليات لا تتنافى مع إرادة الله في حياتنا. هذا ما فعله بطرس الرسول في مجابهته مع رؤساء الكهنة والفريسيين. لا يحق للمسيحي مثلاً أن يتمرد على حكم دولته الشرعي رغبة في الثورة والعصيان. ولكنه أيضاً لا يستطيع أن يخضع لأمر الدولة بالكف عن عبادة الرب، والتبشير بانجيل المسيح؛ لأن شريعة الله أسمى وأعظم وأوجب بالطاعة من قوانين الدولة المرعية المخالفة لحكم الله. لقد رفض المسيحيون عبر العصور أن تستحوذ الدولة على كل ولائهم، ولا سيما إن كان هذا الولاء يتضارب مع أوامر الله ونواهيه. وكثيرون من المسيحيين قد لاقوا حتفهم في المعتقلات النازية والشيوعية مفضلين ذلك على أن يعطوا لقيصر ما هو من حق الله. فالقول "أعطوا ما لقيصر لقيصر" يتفق مع السياق المسيحي العام للولاء الأصيل؛ إنما ليس هو ولاء أعمى أو مطلقاً إذ أن المسيحي يرفض كل مطلب يتعارض مع إيمانه وضميره، لأن حق الله هو واجب من حق القيصر.
رابعاً: من حق المسيحي بل من واجبه أن يسهم بكل إمكانياته في بناء مجتمعه وتطويره؛ ويجب أن تكون أبواب العمل مشرعة في وجهه وفقاً لأهليته وجدارته. فخير للوطن أن يكون على رأسه رؤساء وملوك وقادة مؤمنون يخافون الله، ويعملون بمقتضى شريعته من أن يتولى شؤون الناس قوم لا يفرقون بين الحق والباطل، همهم من دنياهم سلطة غاصبة ومال حرام، وطغيان عات. فحين يتولى مؤمن مخلص مركزاً مرموقاً في الدولة، ويقوم بمسؤولياته بمثالية المسيحي الواعي لقيمه يصبح هذا المسيحي خير مثال يحتذى به، ولعله بحكم واجباته، وبمجرد وجوده يضحي عنصراً فاعلاً في البيئة المحيطة به يتمكن معه من خلق روح مسؤولة لدى بعض المتهاونين ممن اتخذوا من وظائفهم وسيلة لتحقيق بعض مآربهم الشائنة. على جميع المسيحيين في مختلف ظروفهم أن يعملوا جاهدين في سبيل تقريب نظام دولهم وأسلوبهم مما هو منسجم مع القيم الإلهية للحياة الإنسانية.
إن الناس في الأغلب يسيرون على دين ملوكهم؛ فإن صلح السلطان احتذوا به وهابوه، وإن فسد ضلوا واستهانوا به لهذا، لا غرابة أن يحذو الموظفون المرؤوسون حذو رئيسهم أو قائدهم في أخلاقهم، وتصرفاتهم، ومواقفهم. لذلك لست أرى أي مشكلة في خوض المؤمن معترك السياسة أو تبوء مركز رفيع في الدولة شريطة أن لا تفسده أو تفضي على قيمة الأخلاقية.
لا شك أن الصراعات السياسية تتخذ أشكالاً وصوراً مختلفة بعضها يبعث على الاشمئزاز والاحتقار، والبعض الآخر مثال فخر واغتباط. والحق يقال، أن أي سياسي مثلاً يحاول أن يحتفظ بمستوى أخلاقي رفيع لا بد وأن يجابه طائفة من المشكلات والأزمات الضمائرية، لأنه يبحر في محيط هائج. وإن لم تكن سفينة حياته متينة أشد المتانة فإن الأمواج العابثة تجرفها وتغرقها أو تحطمها على صخور الموآمرات. من هنا، يجب أن يتمتع المؤمن بصلابة أخلاقية؛ ولا يمكنه أن يستحوذ على هذه الصلابة أن لم يحظ بقوة روحية داخلية أو قوة المسيح الذي وعد أن يكون معنا ملازماً لنا، حافظاً لقيمنا التي هي قيمه أيضاً. والشرط الأوحد هو أن لا نتخلى عنه بل نتمسك به بصدق وإيمان نسترشده في حياتنا، ونستهديه في كل خطوة نقدم عليها.
ولكن ماذا يكون موقف الكنيسة والمؤمنين في دولة خرج حكامها على كل تشريع ودين، وانحرفوا عن الحق والإنصاف؟
وإذ صحّ القول أن الكنيسة تلعب دوراً هاماً في تطوير المجتمعات على الصعيدين الروحي والاجتماعي، فإنها لا تستطيع أن تقف مكتوفة اليدين أمام مظالم الحكم وديكتاتورية السياسة. فالظلم بطبيعته إجحاف بحق الحياة والعدالة، واستخفاف بحرية الإنسان. ينص العهد القديم على حق اليتيم والأرملة والبائس والفقير، ويندد بالطغاة الجائرين الذين استغلوا الضعفاء وسلبوه مال المسكين، فصب الرب عليهم جام غضبه سواء كانوا ملوكا أم أغنياء، حكماء أم قضاة. ونهج المسيح في أقواله وحياته على منوال روح العهد القديم، فكان نصير البؤساء والمظلومين مما أثار عليه حفيظة الحكام من ولاة ورجال دين. فقد أدرك بثاقب بصيرته رياءهم فنعتهم بأولاد الأفاعي، واتخذ منهم موقفاً سلبياً لأنهم أبوا أن يقوّموا اعوجاج قلوبهم، والتواء سرائرهم.
والكنيسة ككل، يمكنها أن تتخذ أحد الموقفين: إما أن تندد بالظلم والتعسف تبرئة لنفسها من الموافقة الضمنية من المشاركة في ارتكاب هذه الجرائم، سياسية كانت أو أخلاقية أو تلجأ إلى الصمت أو الموافقة الصريحة على خطط الدولة وسياستها؛ وبذلك تسير السلطة الدينية في ركاب السلطة الزمنية على حساب الشعب المظلوم.
إن مقاومة الكنيسة لطغيان الحكم، مدنياً أو عسكرياً، لا يعني تسلم الكنيسة لزمام السلطة المدنية؛ وإنما هو موقف أخلاقي على اعتبار أن المسلك السياسي أو التطبيق التشريعي يتناقض مع القيم المسيحية، ويتعارض مع ما يدعو إليه الكتاب المقدس من رحمة، وعدل، وإنصاف، وحق، وخير. فالدولة قد نشأت لغرض النظام، وإحقاق العدل؛ فأن أخفقت الدولة في ممارسة صلاحياتها، وأخلفت في تطبيق شرعة الحق فإنها تكون قد فشلت في تحقيق وظيفتها الأساسية وهي المحافظة على كرامة الإنسان وحريته.
تختلف الدولة في فلسفتها التطبيقية للسياسة عن نظرة الكنيسة أو المؤمن إليها، ويمكن حصر هذه الاختلافات في النقاط التالية:
أولاً :تميل الدولة إلى اعتبار سلطتها وقوتها متفوقتين بينما الكنيسة والمؤمن مدينان بولائهما المطلق لله وحده.
ثانياً :اهتمام الدولة الرئيسي مقصور على مجتمعها الوطني بينما يحلم المؤمن بمجتمع عالمي يسوده الإخاء ايماناً منه أن الناس جميعاً يحظون بمحبة الله. لهذا كان موت المسيح على الصليب لفداء العالم بأسره وليس من أجل فئة أو شعب خاص.
ثالثاً :إن مطلب الدولة الأخلاقي الأول هو المحافظة على العدل والأمن، بينما يرى المؤمن أن أسمى واجباته هي في محبته لله ولأبناء الجنس البشري.
رابعاً :قد تجد الدولة نفسها أحياناً ملزمة على استخدام القوة القسرية لتطبيق النظام. وفي طوق المؤمن أو الكنيسة أن تتقبل في بعض الأحوال أشكال القوة القسرية كأمر حق وضروري؛ ولكن الضمير المسيحي يثور أيضاً على بعض تطبيقات هذه القوة إن اتسمت بالظلم. فالقمع الجسدي مثلاً قد يكون له ما يبرره ولكن لا يجب استخدامه إلا عند الضرورة القصوى وضمن حدود العدل والحق علماً أنه لا توجد دولة من غير رجال أمن لحماية مواطنيها.
يدرك المؤمن أنه لا توجد دولة كاملة.
ولكنه يدرك أيضاً أن المجتمع سواسية في نظر الله. هذه هي الديمقراطية. وبناءً على هذا، يتوجب أن يتساوى الجميع في نظر القانون وفي الحقوق السياسية. هذه قيمة روحية وأخلاقية وسياسية. لا ريب أن المؤهلات العلمية والعقلية والمهنية تميز بين إنسان وإنسان، ولكن هذا التمييز في جوهره هو تمييز شكلي لا يجب أن يؤثر على ديمقراطية الحقوق الإنسانية. من العدالة أن يحظى كل امرئ بنفس الفرص التي تتاح لسواه وكما أن الجميع سواسية في نظر الله فعلى التشريع البشري المنصف أن يستمد مضمونه، في جوهره، من هذا الحكم غير المتحيز.
إن المسيحية تؤمن بالديمقراطية وبالعدالة، وبالحرية الفدية شريطة أن لا تكون هذه على حساب حقوق الآخرين، لأن جميع الشرائع البشرية مستمدة في جذورها من:
أولاً :الدين الطبيعي الذي غرسه الله في الإنسان منذ هبوط الوحي وقبل سن الشريعة، وكان الضمير والعقل قوّامين عليه.
ثانياً :الشرائع الإلهية ومبادئها العامة التي استوحت منها الدول قوانينها.
ولكن قد ينوه البعض قائلاً: إن مفهوم النظام والعدالة مفهوم نسبي وما يراه قوم نظاماً قد
يكون في عرف الدولة فوضى. ثم ألم يحضّ الكتاب على إطاعة الرؤساء والملوك لأنهم معينون
من قبل الله؟ إن الإجابة عن التساؤل الأول لا يشكل في جوهره معضلة في نظري، لأن
القيم المسيحية كما نص عليها الكتاب المقدس، يمكن أن تكون المقياس الثابت الذي تقاس
عليه أخلاقية السياسة، وتصرّف الحكم. فالقضاء يقوم على الإنصاف والسياسة تسعى
لصيانة كرامة الإنسان وحقوقه المشروعة. والعقاب هو جزء من حق القضاء العادل.
هذه جميعها مبادئ كتابية أقرها الشرع الإلهي. وفي إطار هذا المفهوم في أخلاق الحكم
والسياسة تستطيع الكنيسة ككل، والمسيحيون كأفراد، أن يلتزموا بمواقف معينة من الحكم
والسياسة، إذ يتوافر لديهم المقياس الأخلاقي المعتمد في الشرع الإلهي. ومن هنا فدعوة
المؤمنين، أصحاب القيم، على العمل في حقل الحكم والسياسة هي دعوة مشروعة وضرورية
لأنهم ملح الأرض.
أما موضوع إطاعة الملوك والرؤساء، الصالح منهم والطالح، فهو أكثر تعقيداً والإجابة عنه تقتضي قناعة شخصية وإدراكاً واعياً واقعياً لمتطلبات الظروف وأحوال الدولة. إن التاريخ حافل بأحداث جسام مرت في حياة الأمم والشعوب ممن قاسوا من طاغوت حكام عتاة كنيرون وهتلر وستالين وسواهم. فماذا يكون موقف الكنيسة بجملتها، والمسيحيين كأفراد متن مثل هؤلاء الحكام؟ يرى البعض أن القضاء عليهم بل اغتيالهم ينقذ البشرية من ويلات رهيبة، فيكون التضحية بفرد، إنقاذاً لحياة الأمة لخيرها. بل إن القضاء على مثل هذا الطاغية هو الوطنية بعينها لأنه يحرر البلاد وربما البشرية من مطامع وشر هذا الطاغية. ولعل هذا الاعتقاد بالذات هو الذي حدا بشخصية مسيحية لاهوتية شهيرة مثل بونهوفر للتآمر على حياة هتلر.
وفي رأي البعض الآخر أن التآمر والثورة والاغتيال هي تجسيد حي للعنف، والكتاب المقدس يؤكد بصراحة أن القاتل بالسيف بالسّيف يقتل. ثم أليس جوهر المسيحية يقوم على المحبة؟ ألم يبشر المسيح بمحبة العدو ومباركة اللاعن و الصلاة من أجل المسيء إلينا؟ فما بالنا ننزع إذا نحو العنف والتآمر والاغتيال؟ ألم يصرح الرب في كتابه العزيز "لي النقمة أنا أجازي يقول الرب؟".
إن ما أعرضه من رأي في الفقرات التالية يعتمد الاجتهاد الخاص، وقد يجانبني الصواب في ما أبديه؛ علماً مني أن لفيفاً كبيراً من المؤمنين المسيحيين يرفضون حتى مبدأ البحث في هذا الموضوع، لأننا في اعتقادهم غرباء في هذه الأرض وعابرو سبيل، وعلينا أن نتحمل ما نعانيه من فواجع بصبر جميل مهما كان، الثمن ففي رأيي:
أولا: إن على الكنيسة والمسيحيين التنديد بالمظالم الغاشمة التي تصدر عن الهيئة الحاكمة في الدولة فإن من واجب المسيحي أن يسعى أولاً، وباهتمام بالغ، إلى تصحيح المظالم بجميع الوسائل الشخصية والسياسية، وإن الحكومة أو الحاكم يفترض فيه أن ينفّذ بحق وعدل شريعة الانصاف ولكنه إن حاد ونزح نحو الظلم والاستغلال والديكتاتورية والعقل فإنه يخرج بذلك على إرادة الله، وكل ما هو خارج على إرادة الله مدعاة لرفض المؤمن واستنكاره، إذ لا يمكن للمؤمن الرضى بما هو مخالف لارادة الله وهذا لا يقتصر فقط على تصرفات الحاكم بل على كل ما من شأنه أن يتناقض مع المشيئة الإلهية. إذ كيف للمؤمن أن يستنكر الخطيئة ولا يندد بمرتكب المظالم؟ ولعل يوحنا المعمدان هو خير مثال على موقف المؤمن يحثّنا على الانصياع إلى الحاكم، ولكن الكتاب المقدس يطلب منا أن نمارس قيمنا الأخلاقية المسيحية.
ثانياً: إن أخفق التنديد فالتظاهر السلمي أو المقاومة السلبية قد تكون الخطوة التالية. إن الهدف من هذه الحركة هو تحذير الحكم من الحالة المتردية التي أشرفت عليها البلاد. فالمسيحي يبذل كل جهد ممكن لتفادي كل ثورة دموية باستخدام وسائل شريفة فعالة، لأن كل ثورة تسفر عن سفك دم وحقد. وغالباً ما تحطم الثورة أكثر مما تبني. لهذا يسعى المؤمن لأن يكون قوة مصالحة عاملة على إزالة أسباب الثورة للحيلولة دون نشوبها وللمحافظة على العدالة والنوايا الطيبة في حالة حدوثها. إن من حق كل مؤمن مسيحي ناضج أن يعمل على تطوير نظام اجتماعي صالح يرعى حقوق الأفراد بالتساوي، وينمي روح المسؤولية في نفوسهم.
ثالثاً: إن لم تجد المقاومة السلبية نفعاً فمقاطعة مصالح الدولة أو العصيان المدني قد يكون أداة فاعلة في تحقيق بعض الأهداف. والعصيان المدني هو وليد قناعة فردية وليس موقفاً كنسياً رسمياً؛ وعلى سبيل المثال موقف الذين رفضوا الاشتراك في حرب فيتنام. والغرض من هذا كله منع نشوب حرب أهلية أو ثورة دموية تنشر الخراب والدمار.
رابعاً: في أقصى الحالات وبعد استنفاذ كل وسيلة سلمية قد يكون قلب نظام الحكم هو السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد من تعنّت الظالم وجبروته وديكتاتوريته على أن لا تكون تلك الثورة أو ذلك الانقلاب سوى خطوة إعدادية نحو تطبيق إيجابي للقانون والعدالة.
أنا أدرك سلفاً أن هذا موقف ممقوت لما قد يترتب عنه من عنف أحياناً، ولكن لسوء الحظ قد يكون في بعض الظروف هو السبيل الوحيد لتفادي أهول الكوارث والمآسي. ولا يعني هذا أن على الكنيسة أن تسهم في عملية الانقلاب بل هو موقف فردي ناجم عن اقتناع ذاتي بضرورة هذا الانقلاب وإلا فعلى المواطن المسيحي إن لم يكن مقتنعاً بصوابية هذه الخطوة، أن يمتنع عن الاشتراك فيها.
هذا اجتهاد خاص قد تخالفني فيه الأكثرية المسيحية، ولست أدّعي أني بلغت فيه حد اليقين.
- عدد الزيارات: 14016