Skip to main content

الفصل الثالث: المسيحية والنقابات والحروب

من القضايا الشائكة التي تستأثر باهتمام المؤمنين المسيحيين في مجتمعاتنا العربية قضية الانتماء إلى النقابات العمالية، وما قد ينجم عن هذا الانتماء من مشكلات ومتاعب سياسية، وأخلاقية، وضمائرية.

إن الهدف من تأسيس النقابات هو المحافظة على حقوق العمال من جشع أرباب العمل. وهذا هو هدف نبيل بحد ذاته ولا سيما في المجتمعات الديمقراطية حيث يتعذر على الحكومات التعدي على الحريات التي يكلفها القانون، أو التدخل في شؤون المؤسسات، ما لم تخل هذه المؤسسات بأحكام الدولة المرعية. ولكن النقابات التي اتسعت مجالات صلاحياتها أصبحت قوة رهيبة يسخّرها أرباب السياسة من أجل تنفيذ أهداف ومآرب شخصية وعلى الأخص في أثناء المعارك الانتخابية أو لتطبيق سياسة معينة ترعب الدولة في فرضها على الأمة.

فما هو موقف المؤمن المسيحي والكنيسة في هذه الحالة؟

إن الكنيسة في الدرجة الأولى تؤيد واجبات العمال وتدعم حقوقهم، وتمجد العمل من حيث هو طاقة إنتاجية، وتطالب بالإنصاف في دفع الأجور، وحق تأسيس النقابات شريطة أن لا تصبح النقابات ألعوبة في أهواء السياسة، وأداة طيّعة في خدمة القائمين عليها. ومن حيث أن الكنيسة هي لكل الطبقات الاجتماعية لا يجوز من ثمّ، أن تتحيز إلى فريق دون فريق من غير عدل، بل تسعى جاهدة إلى تقريب وجهات النظر بين أرباب العمل والنقابات لكي لا تكون هناك فئات مظلومة أو منبوذة. بمعنى آخر تعمل على خلق توازن عادل بين الفئتين المتنازعتين.

ومن حيث المبدأ فإن انتساب المؤمن إلى نقابة أمر مشروع، بل حق من حقوقه بحكم القانون، وفي حدود دستور دولته. وأكثر من هذا، وبناء على قاعدة "أنتم ملح الأرض" فإن من واجب المؤمن المؤهل أن يسعى إلى تسلم مراكز قيادية في النقابة لأنه أجدر من سواه في المحافظة على أهداف النقابة الشريفة ونقاوتها من شوائب السياسة. إن القيم الأخلاقية المسيحية التي يتمتع بها المؤمن خير ضمان على نزاهته وحسن بلائه، فلا يفرّط في حقوق رفاقه العمال ولا يتشبث أيضاً بمطالب مجحفة. إن وجود لفيف من المؤمنين المسيحيين على رأس قيادات النقابات العمالية يحفظ النقابات من التردي في مستنقعات السياسة، ويولد استقراراً في طبيعة العلاقات القائمة بين المؤسسات والعمال.

إذاً، ومن حيث المبدأ أيضاً، فإن كلاًّ من الكنيسة والفرد المسيحي لا يجد ضيراً من الانتساب إلى نقابة، والعمل على تطوير مصالحها من غير أغماط في حق أرباب العمل.

ولكن كيف يتصرف في حالة نشوب نزاع بين المؤسسات والنقابات؟ هل ينضم إلى المتظاهرين أو المضربين بحكم انتمائه إلى النقابة أم يتمرد على مواقفها؟ هل الحياد في هذه الحالة سياسة حكيمة أم مظهر من مظاهر الهزيمة؟ وكيف يمكن للمؤمن أن يوفق بين نزعته المسالمة وولائه للنقابة؟

إن السؤال الأول الذي على المؤمن المسيحي أن يطرحه على نفسه: هو هل هذا الإضراب أو المظاهرة قائمة على مطالب عادلة؟ بل ما هو الغرض من هذا الإضراب، أهو لتحقيق مكاسب شخصية لتوطيد زعامة القياديين النقابيين؟ هل هذه المظاهر خاضعة لأغراض حزبية مشبوهة لا تستهدف حقاً مصالح العمال؟ هل هناك غايات خفية تكمن وراء هذه الإضرابات لإثارة الاضطراب والفوضى؟

إن تحري الأسباب الحقيقية لكل إضراب يسعف المؤمن على تحديد موقفه من سياسة نقابته وعلاقتها بأرباب العمل فإن تبين له أن دواعي هذا الإضراب مثار شك فعلية أن يمتنع، على أقل تقدير. عن الاشتراك فيه لأنه في أساسه لا يخدم مصلحة الحركة العمالية، ولا يحفل بالمحافظة على حقوقهم، بل يرمي إلى تحقيق مكاسب لا يرضى عنها ضمير المؤمن.

أما إن كانت دواعي الإضراب عادلة، وقد أخفقت كل الوسائل الأخرى لإيجاد حل أو حلول للخلافات بين الفريقين لا مانع أن يسهم المؤمن في هذا الإضراب طالما أنه يتخذ مظهراً سلمياً، إذ لا يجوز للمؤمن أن يتمتع بالنتائج الإيجابية التي يسفر عنها الإضراب، إن كانت على صعيد رفع الجور أو الفوائد والضمانات الصحية، أو سواها من الحقوق العادلة المشروعة التي كابد زملاؤه أشد المشاق في تأمينها بينما التزم هو جانب الحياد من غير أيّة مشاركة ايجابية. في رأيي أن مثل هذا الموقف هو موقف انتهازي ينم عن روح أنانية ولا سيما إن كان المؤمن مقتنعاً بعدالة القضية.

من المؤسف حقاً أن لفيفاً كبيراً من المؤمنين المسيحيين يعتقدون أن المظاهرات، كل المظاهرات والإضرابات هي من عمل الشيطان. أنا لست أنكر أن مجموعة كبيرة منها تحركها أصابع مشبوهة هي في الواقع أصابع الشيطان، وإنها في كثير من الأحيان تفضي إلى العنف وسفك الدماء. وهو أمر يستنكره كل مسيحي أيما استنكار. غير أنه من خطل الرأي أيضاً تعميم هذا الحكم على كل اضراب أو مظاهرة، لأن نزعه الاستغلال لدى فريق من أرباب العمل هي جزء من عملية التنافس بين الشركات الضخمة والمصانع والمؤسسات، والضحية في معظم الأحيان هو العامل لهذا على المؤمن، كما أرى، أن يسهم بطريقة ايجابية سلمية في أي اضراب يعتقد جازماً أنه عدل وحق وشريف، ولا يكون كمثل صديق لي أبى أن يشترك في اضراب سلمي على الرغم من وضوح عدالته، وعندما سألته عن دواعي اقتناعه كان جوابه:

-إنني مؤمن مسيحي ولا يجوز لي أن أنضم إلى مثل هذا الإضراب

-فأجبته:

-هل أنت عضو في النقابة؟

-نعم.

-أمقتنع أنت بعدالة قضية النقابة وشرف أهداف الإضراب؟

-نعم، ولكني لا أومن بالإضراب.

-ولكن كيف تتصرف إن حصل المضربون على حقوقهم؟ هل تقبل أن تتمتع بهذه الحقوق؟

-لم لا؟

-كيف يجوز لك أن تتمتع بحقوق رفضت أن تسهم في الحصول عليها وتركن سواك يخوضون معركتها بينما وقفت، كأي انتهازي، تنتظر نتائج الإضراب لتستغل ثماره

-لا، لا، إنما اعتبر أن هذه النتائج، إن تحققت، هي من نعم الرب عليّ.

هناك كثيرون من المؤمنين المسيحيين يستخدمون هذا المنطق الملتوي، ويتجاهلون أن الاستغلال المعنوي، والانتهازية الأخلاقية هما كأية خطيئة أخرى ترتكب في حق الله، فضلاً عن أن هذه المواقف تعكس صوره المقيتة عن القيم الأخلاقية التي ينادي بها المؤمنون.

وبدلاً من كونهم شهادة حية عن الحق المسيحي يصبحون نموذجاً سيئاً للمؤمن. وتفقد شهادتهم فعاليتها. وما ينطبق على المؤمنين المسيحيين ينطبق على موقف الكنيسة الرسمي، فالكنيسة هي داعية حق وإنصاف ومن طبيعة قيمها أن تعمل في سبيل خلق مجتمع متوازن يتمتع أفراده بحقوق متساوية. بقول بولس الرسول في رسالته إلى أهل كولوسي 4: 1 "أيها السادة قدموا للعبيد العدل والمساواة عالمين إن لكم أنتم أيضاً سيداً في السماوات".

هذا وصيته صريحة بممارسة العدالة والمساواة في حقبة من التاريخ كانت فيها الطبقية هي السمة الغالبة على المجتمع ومع ذلك فإن القيم المسيحية في نظر بولس كانت أسمى من كل عرف وتقليد. ويمكن لهذا المبدأ أن يسود الوشائج التي تنظّم علاقات أرباب العمل بالعمال، وبالتالي يمكن للكنيسة بما تتصف به من عدل وعدم انحياز أن تلعب دوراً بنّاءاً لتعميق هذه القيم وتطويرها لخلق جو موائم من التفاهم من غير إجحاف بحق أي من الفريقين إذ على الكنيسة أن تعي طبيعة العلاقات الاجتماعية، والاقتصادية القائمة بين الطبقات. أما القياس الذي اعتمده بولس في هذه الدعوة فقد لخّصه في الشطر الأخير من النص المقتبس.." عالمين أن لكم أنتم أيضاً سيداً في السماوات". ولعل هذا التذكير وحده يجعل من المؤمنين المتولين مناصب ذات فعاليات سياسية أو اقتصادية، أكثر تقديراً واعتباراً لإنسانية الإنسان وحقوقه العامة والخاصة، ويضفي على الكنيسة ككل صورة إنسانية تشع حناناً وإنصافا ورحمة.

ثم إن كان مبدأ العدالة عنصر جوهري في قرارات الكنيسة والمؤمنين المسيحيين من جملة قضايا وطنية وسياسية، فإن هذا المبدأ يزداد خطورة وأهمية في موقف الكنيسة وجماعة المؤمنين من الحرب. فالكنيسة، مبدئياً، لا تعارض الحرب العادلة ولكنها تستنكر الحقد الجاثم على صدور الناس فيمنعهم من ممارسة المحبة فالمسيحية، في جوهرها، محبة وسلام ترفض كل أشكال العنف وصوره فمنذ الليلة التي ولد فيها المسيح هتف جوق من ملائكة السماء قائلين "وعلى الأرض السلام". غير أن أهواء الإنسان ومطامعه وجشعه غلبت على دعوة السلام التي نادى بها المسيح إذ أصبحت أداة خطيرة في يد ابليس يسخرها في سبيل تحقيق مآربه التي تتناقض جملة وتفصيلاً مع إرادة الله ومحبته. فبات يتعذّر على المؤمن، في كثير من الأحيان، أن يميز ما بين الخطأ والصواب، بين الظالم والمظلوم، لأن الحقيقة قد ضاعت معالمها أو اكتنفها الغموض وكأنها أصبحت قاسماً مشتركاً بين الظالم والمظلوم. وإن نشبت حرب الطرفين فإن كلاًّ منها يدعى أنه صاحب الحق المهدور وإن الآخر هو المعتدي. في مثل هذه الحالة يصبح الخيار عسيراً. وما لم تتوافر أدلة قاطعة على جناية المعتدي، فإن الموقف يزداد تعقيداً إذ أن كل طرف لا بد وأن يختلق تبريراً لاعتداءاته.

إن الحرب مصدر شرور وويلات ولا سيما في عصر تطورت فيه التكنولوجيا العسكرية إلى حد رهيب فلم تبق بقعة من بقاع الأرض تعجز الصواريخ والقنابل عن بلوغها. وقد أقضى التنافس الاقتصادي والعسكري بين الدول إلى خلق جو مرعب من الخوف والتوقع المفرع لدى عدد كبير من الدول الصغيرة التي تنقصها الخبرة، والتقنية والموارد الاقتصادية والمالية والبشرية، والتي يمكن أن تتعرض في أي وقت إلى هجوم عدائي من دولة طامعة في توسيع حدود سيطرتها، لسبب أو آخر. فكيف يتصرف المؤمن في مثل هذه الحالة؟ وما هو دور الكنيسة في معترك جنون القتال؟

إن بعض المسيحيين يعتقدون أن الحروب والتأييد الأخلاقي لها يتناقض مع تعاليم المسيح، لذلك يجب على الضمير الإنساني أن يستنكرها. هذا حق لا جدال فيه لأن المسيح نفسه قال: "طوبى لصانعي السلام لأنهم أبناء الله يدعون". بيد أن السؤال الذي يجدر طرحه في مثل هذه الظروف هو: من هو المعتدي؟ أدولتي هي المعتدية أم المعتدي عليها؟ في الإجابة عن هذا السؤال حل لمعظم المشكلة الأخلاقية. لأن الموضوع بجملته لا يقتصر على مجابهة فردية بين خصمين متنازعين إنما يتعلق بمصير أمة بأسرها. فالمؤمن كفرد يمكنه أن يتحمل كل صنوف الاضطهاد ويتقبّلها برحابة صدر شهادة منه على إيمانه المسيحي ومحبته الأصيلة، بل أنه يبذل كل جهد لإزالة دواعي الخصام حتى لو استدعى الأمر التنازل عن بعض حقوقه المشروعة. ولكن إن كانت القضية هنا ترتبط بمصير الأمة ومستقبلها، وإن كان تخاذل المواطنين عن الدفاع عن أرضهم وأسرهم وعائلاتهم قد يسفر عن انهيار الوطن ووقوعه تحت رحمة حكم العدو، فإن الموقف في مثل هذه الحالة يستدعي نظرة أكثر شمولاً من التشبث بالرؤيا الفردية. من هنا أصبح الوطن من الضروري تحديد من هو المعتدي. وإن اتضح للمؤمن أن الوطن في حالة دفاع عن النفس وإن الجهود التي تضافرت لإحقاق السلام قد أخفقت فأنا لا أرى أي تعارض بين دعوة المسيح إلى المحبة والصفح عن الإساءة وبين احترام المؤمن لكرامة وطنه والدفاع عن أرضه وبلاده.

والواقع أن خوض المؤمن للقتال في حالة الدفاع عن النفس والاشتراك في حرب عادلة ولا سيما على صعيد الوطن هو واجب أخلاقي واجتماعي، هذا إن أخفق كل حل سلمي آخر وأصبح لا مناص من الحرب. فالمؤمن المسيحي هو جزء من الوطن شاء أم أبى، وإذا توافرت لديه القناعة الكاملة إنه يدافع عن أرضه ضد هجوم المعتدي، وإن وطنه ليس المبادىء في القتال وليس لديه مطامع جائرة في حربه الدفاعية، فلست أجد وهذا اعتبار شخصي – ما يمنع المؤمن من القيام بواجبه الوطني لأنه يكون بذلك:

أولاً: قد استجاب لدعوة الكتاب المقدس التي تحث على طاعة الرؤساء والسلاطين ولا سيما في أمر لا يتعارض مع مشيئة الله، أي الحرب العادلة.

ثانياً: قد أسهم عن قناعة أخلاقية وأدبية في الدفاع عن وطنه ونفسه وأهله.

ثالثاً: قد أعرب عن إخلاصه وتضحيته في سبيل الحفاظ على عزة قومه وبلاده وأمته.

ولكن ماذا يحدث إن كانت دولة المؤمن هي المعتدية؟

بكل بساطة أجيب: الرفض القاطع في الاشتراك في الحرب قد يبدو هذا الرأي مرفوضاً لدى أصحاب المطامع، وقد يعتبر في نظر البعض الآخر خيانة وطنية ولكن كيف يمكن للمؤمن المسيحي أن يخوض حرباً غير مقتنع بعدالتها روحياً وأدبياً وأخلاقياً؟ إن المقياس الأول في القيم المسيحية هو "إرادة الله" وحين يسأل المؤمن أو الكنيسة:

هل إرادة الله أن تعتدي دولتي على حقوق الدول الأخرى وتستولي على أراضيها وتستغل مواردها من غير حق؟

فإنه يقف أمام طرح أخلاقي وديني معاً؛ والجواب من غير شك يكون مناقضاً لسياسة تلك الدولة وأغراضها. ولا ريب أن المؤمن، في مثل هذه الأحوال، يعاني من أزمة أخلاقية وروحية لا يتحرر منها إلا حين يستقر على رأي لا يتنافى مع قيمة المسيحية ويرضي ضميره أيضاً.

والجدير بالذكر أن عدداً لا يستهان به من أبناء ألمانيا الهتلرية، ممن ينتمون إلى طوائف دينية وأحزاب اجتماعية وسياسية مختلفة، فضلوا الهرب من ألمانيا في أثناء الحرب العالمية الثانية على البقاء فيها والرضوخ لإرادة هتلر النازية. وكذلك فعل عشرات الألوف من المجندين الأميركيين إبان حرب فيتنام لاقتناعهم، أخلاقياً ودينياً، إن الحروب التي دعوا لخوضها هي حروب غير عادلة. وفي مثل هذا الرفض تحقيق لعدة أهداف منها: التعبير عن موقف مسيحي صادق، وإثارة قضية أخلاقية على صعيد جماعي، وإيقاظ الرأي العام على ما يجري من ظلم، وأخيراً شعور المرء بالرضى الذاتي لأنه اتخذ موقفاً ينسجم كلياً مع قناعته الشخصية وإرادة الله.

وهنا لا بد من التنويه أن هذا الموقف الشخصي قد يكون موقف الأقلية الواعية الذي قد يتناقض مع اتجاه الأغلبية الساحقة المنجرفة مع تيار العاطفة العمياء ولا سيما في المجتمعات الشرقية التي تتحكم فيها العواطف فتلجم فوق العقل والمنطق. ومعنى هذا أن المؤمن يتعرض من جراء اتخاذ ذلك الموقف إلى الاضطهاد والنبذ وربما القتل بتهمة الخيانة الوطنية فلكل شيء ثمن وقد يكون الثمن باهظاً جداً.

  • عدد الزيارات: 4941