الفصل الأول: الكنيسة في معمعة السياسة
المسيحية، في جوهرها وظاهرها، مجموعة مواقف تعبر في صفائها عن الإيمان والعقيدة والممارسة، أي أنها تنطق من خلال مواقف حياتية عن الرؤيا المسيحية للقضايا الدينية والدنيوية. فالمسيحية لم تكن في يوم ما معتصمة في برج عالي تطل منه على عالم سعيد خال من المآسي والويلات، بل على النقيض خاضت معركة ضروس في سبيل نصرة الفقراء والمتألمين، وعايشت نكباتهم، وتوجعت لآلامهم حتى اتّهمها أعداؤها أنها ديانة البؤساء والتعساء. ولا ريب أن مواقف المسيح وتعاليمه ووعيه لمشكلات الإنسان، في كل زمان ومكان، وإن كان بعض أرباب الدين قد شوّهوا هذه الصورة وأساءوا إلى العقيدة.
وإذ لسنا هنا في معرض تأريخ سير نشوء المسيحية وتطورها، أو في تحليل وتعليل مواقفها من جملة قضايا جابهت نموّها وتقدمها عبر العصور لضيق مجال البحث، فإننا لهذا لا بد أن نتناول قضية معاصرة متشعبة الفروع. أصبحت في العقدين الأخيرين مشكلة المشاكل في أوساط طوائف المسيحيين المؤمنين من أبناء الضاد ممن وجدوا أنفسهم يشتبكون مع أنفسهم في حرب أخلاقية روحية ضارية حتّمتها عليهم ظروف خارجة عن إرادتهم في مجتمع هبّت عليه عواصف سياسية هوجاء قلبت طائفة من النظم الفكرية والسياسية وحتى الدينية السائدة وتحولت إلى أزمات نفسية وعقائدية تخطت الفرد إلى المجموعة، والمجموعة إلى المجتمع – أي أوساط المؤمنين.
هذه القضية "مفهوم الوطنية"
ولعل الحديث الذي دار بين شابين في أحد المطاعم يعطينا لمحة عابرة عما اعترى هذا المفهوم من تشويش أو على الأقل من تباين في النظرة والرؤيا. قال أحدهما: أنا وطني، أنا انتمي إلى المقاومة الوطنية. أما أنت فسلبي تعيش على هامش الحياة.
-لا، أنا لست سلبياً ولكنني أفهم الوطنية على غير ما تفهمها أنت.
-يعني أنت وطني على طريقتك الخاصة، الطريقة السلبية؟
-لا، أنا لم أقل هذا، أنت مجحف بحقي...
-الوطنية أيها المتفذلك هي كفاح ونضال وبذل دماء غالية، هي صراع مستمر ضد أعداء الأمة والسلبيين ممن يعيقون مسيرة المقاومة، الوطنية هي...
أثار هذا الحديث الذي سمعته صدفة فيضاً من الخواطر، وسألت نفسي،
ما هو مفهوم المسيحية للوطنية؟
طرحت هذا السؤال وفي ظنّي أن الجواب عنه يسير وفكرت...
أن الوطنية هي محبة الوطن. هذا صحيح ولكن كيف يمكن للمسيحي الملتزم بإيمانه أن يعبر عن محبته للوطن؟ أيكون هذا بمجرد إخلاصه لوطنه؟ وكيف يكون الإخلاص؟ ما معناه؟ ما هو تعريفه؟ ألا يتطلب الإخلاص أحياناً مواقف معينة من شأنها أن تكون سلبية أو على الأقل ايجابية في ثوب سلبي؟ ما هي الحدود التي يتوقف عندها المسيحي ولا يستطيع أن يتجاوزها لأنها تتناقض مع إيمانه وعقيدته؟ وأكثر من ذلك. هل مقومات الوطنية في عرف المؤمن المسيحي هي ذاتها في عرف سواه؟
فجأة أدركت أن القضية أكثر تعقيداً مما كنت أظن وأن تشابكاتها تتعدى النظرة السطحية التي تطرحها الظروف العارضة. وفي مجتمع كالمجتمع العربي حيث تغلب عليه قضية هي من أخطر قضايا التاريخ المعاصر من خلال مشكلة الشرق الأوسط العربية – الإسرائيلية، لا يمكن للمؤمن المسيحي أن يتجاهل أهميتها ومدى تفاعلها مع مختلف الاتجاهات الوطنية والحزبية وحتى مواقف الحكومات التقليدية. والقول التصوفي بأننا غرباء عن هذا العالم نمر به في رحلة عابرة ريثما نستقر في الموطن الأخير، هو قول صحيح من وجهة نظر روحية. ولكن الوجهة الروحية أو الموقف الروحي هو وجه واحد من وجوه وجودنا الفعلي في حدود مجتمع ما. حيث أن هذا الوجود يتخذ واقعاً مستمراً من حيث علاقته بالوطن أو من حيث دوره في رسم صورة أصيلة عن وظيفة المؤمن بل الكنيسة المسيحية من قضايا الوطن ومشكلاته، فإن أي تجاهل لأهمية هذه القضية يسفر عن تعقيدات اجتماعية، وسياسية، واقتصادية وحتى أخلاقية ذات ارتباط وثيق بدور الكنيسة كقوة فاعلة في المجتمع. وعليه، أصبح من المحتم معالجة هذا الموضوع بكثير من التبصر والوعي من غير إخلال بتعاليم الكتاب المقدس أو تشويه حقائقه.
فالمسيحي هو مواطن ينتمي إلى بلد ويخضع لقوانينه وتسري عليه شرائع الدستور؛ وكل إجحاف يحيق بالوطن هو إجحاف بحق مواطنيه أيضاً، والكنيسة في العرف الديني هي مجموع أعضائها ومن هنا مهما حاول الفرد المسيحي، أو الكنيسة بأسرها التغاضي عن واقع الأحداث المحدقة بالوطن، داخلية كانت أم خارجية، فإنه لا بد أن يجد نفسه في موقف تحد فيه كثير من مجابهة النفس قد تبلغ أحياناً حد التضحية بالذات.
لقد كان قول المسيح: "أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله" هو القاعدة الأساسية التي اعتمدتها الكنيسة منذ بواكير نشوئها اعتقاداً منها أنها تنقّي الكنيسة من شوائب السياسة محافظة على أصالة دورها الروحي والاجتماعي في خدمة الإنسان. والحق يقال أن هذا الموقف في ظاهره لم يجانب الصواب لسببين رئيسين: أحدهما أن دور الكنيسة في العصور الوسطى قد تسرّب إليه الفساد حين سعت الكنيسة إلى فرض وجودها السياسي وأغفلت مهمتها الروحية، فطغى الطموح السياسي على أربابها الذين نزعوا نحو السيطرة على الممالك والأمم باسم الدين والحق الإلهي. كان وجه الخطأ في هذا الموقف أن الكنيسة أصبحت آنذاك لعبة في أهواء السياسة بكل ما في السياسة من نفاق وخداع. وبدلاً من أن تكون الكنيسة عنصر تنقية أو الجانب المشرق في دهاليز السياسة وأقبية المؤامرات، انساقت في لعبة الشيطان واستغلت نفوذها لتحقيق مكاسب دنيوية وسياسية وحتى عسكرية. أما وظيفتها الروحية في تلك الفترة فقد أصبحت شعاراً مزيفاً تستغله لبلوغ مآرب مقيتة.
أما السبب الثاني وهو وليد السبب الأول وصنو له: فقد أدى تدخل الكنيسة في شؤون السياسة من غير إدراك واف لمخاطرها وانعكاساتها السلبية على كيان الكنيسة، ومحاولة الكنيسة فرض سيطرتها على طائفة من الممالك والإمارات، إلى خلق جو من الصراع الخفي والعلني ما بين الكنيسة والسلطات المدنية. فأنهك هذا الصراع قوة الكنيسة، واستنزف فاعليتها، وأفقدها قدرتها على الحركة إذ أصبحت مهمتها متهمة ومثار شك مما فجّر عليها ثورة عارمة أفضت بها، فيما بعد إلى الانكماش والتقهقر، وحولها من قوة إيجابية تعمل لخير المجتمع وصالحة إلى تنين جريح يصارع في سبيل البقاء ولا يربأ عن استخدام أشد الوسائل تنكيلاً خوفاً من تقلص سلطتها وأفول نفوذها.
إن هذه النتائج الفاجعة التي ترتبت عن تدخل الكنيسة في السياسية في العصور الوسطى كانت نتيجة حتمية للفهم الخاطيء لدور الكنيسة في السياسة وللممارسة الدنيوية التي بنت عليها دورها السياسي. فالكنيسة كمؤسسة دينية التزمت في مواقفها بصيغ المؤسسات المدنية وأنظمتها وتبنت أهدافها وشعاراتها. ووجدت نفسها تتمتع بنفوذ أوسع وأكثر خطورة من نفوذ الحكومات إذ امتدت سلطاتها، باسم الدين، إلى ما وراء حدود تخومها الجغرافية حتى شملت كل كنيسة محلية أو طائفة تنتمي إليها، واضطهدت كل فئة أبت الانصياع لاستبدادها. فالكنيسة في عرف أربابها هي الممثل الشرعي للسلطة الإلهية على الأرض قوامة على شؤون الدين والدنيا، سلطتها تفوق سلطة الملوك والأمراء لأنها مستمدة مباشرة من الله، وقد أفضى تطبيق هذا المبدأ إلى تضارب مصالح الكنيسة بمصالح الدولة كان من نتائجه، على المدى البعيد، إخفاق الكنيسة في بلوغ أي منهما.
في إطار هذه الصورة، وبناء على النتائج المفجعة التي أسفر عنها تدخل الكنيسة في السياسة، طرأ على موقف الكنيسة في القرون التالية لحقبة العصور الوسطى تحول جذري في نظرة الكنيسة إلى السياسة؛ فنزعت من ثم، نحو الانطواء على ذاتها بعيداً عن مصطرع السياسة وأهوائها، وفرضت على كهنتها ورهبانها عدم خوض معمعة السياسة بل التسامي فوق الحزازات، والحزبيات والانتماءات التي لا علاقة لها بوظيفة الكنيسة. ولكن هذا الموقف وإن كان يعبر عن الموقف الرسمي للكنيسة، فإن لفيفاً كبيراً من رجال الدين لم يلتزموا به التزاماً كلياً ولا سيما في العالم الثالث، وفي أمريكا اللاتينية أيضاً؛ مع فارق كبير هو أن مواقف رجال الكهنوت السياسية هي مواقف فردية لا تلتزم بها الكنيسة وإن كان لها تأثير عميق على رعاياهم ومجتمعاتهم.
وباستثناء قلة من الطوائف المسيحية، فإن معظم الكنائس الرسمية قد مرت في مراحل مماثلة لمراحل الكنيسة الكاثوليكية. وإن لم تبلغ في عنفوانها وصولتها مبلغ كنيسة روما. وقد جرت هذه المواقف الويلات على الكنيسة، على الصعيدين الروحي والاجتماعي إذ لم يلبث أن أحاق الجور والتعسّف بالطوائف المسيحية غير التابعة لكنيسة الدولة الرسمية فأصاب الاضطهاد فئات مختلفة من الناس فهاجر البعض منهم إلى العالم الجديد طلباً للحرية الدينية؛ واعتصم البعض الآخر بالسرية. ومن وقع في قبضة مضطهديه تذوق صنوف العذاب في غياهب السجون والمعتقلات.
وما إن انقشعت غيمة الاضطهاد في مطلع العصر الحديث عن أبناء الطوائف المسيحية المختلفة حتى طغت موجة الشيوعية التي ما برحت تنخر في جسم المجتمعات. وأعقبتها، من ثم النازية، وإذا بالمسيحيين يسامون أشد ألوان التنكيل على أيدي رجال الحكم في البلدان التي شاعت فيها هذه المذاهب الهدامة. وبالتالي، وجد هؤلاء المسيحيون أنفسهم ضحية طغيان حكم غاشم همّه الأول القضاء على الدين بالقضاء على معتنقيه. وفي مثل هذا الوضع المتأزم يطرح السؤال الخطير: ما هو موقف الكنيسة من السياسة والحكم وما هي الخطة التي عليها أن تلتزم بها في خضم الصراع الناشب بين الجماهير والحكم؟ هل تنضم إلى فريق دون فريق؟ كيف يمكن أن توفّق بين وظيفتها الروحية ومسؤوليتها الأدبية تجاه رعاياها؟
هذه هي
وصيتي
أن تحبوا
بعضكم بعضاً
كما أحببتكم
يوحنا 15: 12
كلمة المسيح إلى رسله الكرام
- عدد الزيارات: 5911