Skip to main content

تأملات يومية

ويُدعى وباءً: نظرة كتابيَة للأوبئة المعاصِرة

ويُدعى وباءً: نظرة كتابيَّة للأوبئة المعاصِرة

عندما يُسمَّى في الكتاب المقدَّس الطَّاعون في تلك الأيَّام الغابرة، فإنَّ ما يحدثُ حولنا في عالَمنا اليوم يُدعى وباءً. فهل يا تُرى نمتلك الحكمة والفهم، إذًا، في تقدير الأحداث المتسارِعة التي نُعاينها ونختبر ظروفها حاليًّا؟

ولماذا هذا الانتشار السَّريع للأوبئة الحديثة وما هو مدى تأثيرها في عالَمنا المحتضِر؟

وإذ أكتبُ هذه الكلمات في هذا اليوم المفصليّ من تاريخ البشريَّة الحديث تحديدًا، نرى فيروس كورونا (2019-nCoV/COVID-19) الفتَّاك ينتشِرُ كالوباء حول العالَم. أشارَت منظَّمة الصحَّة العالميَّة (WHO) مؤخَّرًا إلى وجودِ أكثر من مئة ألف حالَة وحوالي الأربعة آلاف حالَة من الوفيَّات في أكثر من مئة بلدٍ حول العالَم، والأرقام المرعِبة تتزايدُ تصاعديًّا في كلِّ يوم. ماذا يجري حولَنا، هل تفلَّتت الأمور، ولماذا هذا الخوف المستجِّد من وباءٍ ضربَ العالَم قبلًا على مدى عقودٍ طويلة؟ 

تتوقَّف حركة الحياة تدريجًا كلَّما تزايدت حالات العدوى بالفيروس القاتل. فقد ألغَت أو حدَّت الكثير من المؤسَّسات والشركات حركة التَّنقُّل عبر البلدان خوفًا من انتشار الفيروس. وأُلغيَت المؤتمرات والندوات وأُقفِلت قاعات المحاضرات الجامعيَّة، والتزم الناس حجرًا صحيًّا اختياريًّا في بيوتهم وأمكِنة تواجدهم حرصًا منهم على السلامة العامَّة. وإن كانت أنواعٌ أخرى من الفيروسات هذه قد فتكت بالملايين من البشر، ففيروس كورونا تحديدًا يبثُّ الخوفَ والرعب كالنار في الهشيم، ربَّما لأنَّنا نجهل كيفيَّة انتشارهِ وعُمق تأثيرهِ الصحيّ على المديَين المتوسِّط والبعيد. 

يُسبِّبُ فيروس كورونا الجديد نوعًا حادًّا من الالتهاب الرئويّ (Severe Pneumonia) غير مألوف يُضعِف معهُ بلَمح البصر قدرة المريض على المقاومة، فيخفتُ نبضُ القلب ويثقُل التَّنفُّس وتتأثَّر وظائف الكلى والرئتَين. هل هذا الوباء المستجِّد علامةً فارقة في زمن العِلم والتّكنولوجيا، أم مُجرَّدُ حدثٍ استثنائيّ سيخبو مع الأيَّام؟ وهل يُمكِن اعتباره أحد العلامات المذكورة عن الأيَّام الأخيرة في الكتاب المقدَّس؟ يصعبُ القول تحديدًا، فالأوبئة رافقت البشريَّة منذ نشأتها. فلماذا إذًا البعض من المفسِّرين والدَّارسين للكتاب المقدَّس يُقدِّمون بعدًا استثنائيًّا لهذا الوباء ويُشدِّدون على اعتباره علامةً فارقة في تاريخنا الحديث؟

يُقدِّمُ سفر الرؤيا الكتابيّ صورةً نبويَّة قاتمة عن أربعة فرسانٍ يمتطون أحصنةً ذاتِ ألوانٍ مختلِفة (رؤيا١:٦-٨). وإذا كان الفرسان الثلاثة الأُوَل، أي الأبيض والأحمر والأسود، تميَّزوا بقدراتٍ فائقة حاملين دينوناتٍ إلهيَّة، كان الفرس الرابع ذا صفاتٍ تميَّزت عن الفرسان الأخرى – ’وَلَمَّا فَتَحَ ٱلْخَتْمَ ٱلرَّابِعَ، سَمِعْتُ صَوْتَ ٱلْحَيَوَانِ ٱلرَّابِعِ قَائِلًا: هَلُمَّ وَٱنْظُرْ !.فَنَظَرْتُ وَإِذَا فَرَسٌ أَخْضَرُ، وَٱلْجَالِسُ عَلَيْهِ ٱسْمُهُ ٱلْمَوْتُ، وَٱلْهَاوِيَةُ تَتْبَعُهُ، وَأُعْطِيَا سُلْطَانًا عَلَى رُبْعِ ٱلْأَرْضِ أَنْ يَقْتُلَا بِٱلسَّيْفِ وَٱلْجُوعِ وَٱلْمَوْتِ وَبِوُحُوشِ ٱلْأَرْضِ‘ (رؤيا۷:٦-٨). فالفرس الرابع تحديدًا لونهُ مائلٌ إلى لون الجسم الميِّت ويجلِب الوباء الذي غالِبًا ما يؤدّي إلى الموت. وبالإضافة إلى أوبئةٍ أخرى أتى الكتاب المقدَّس على ذكرها، نجدُ وصفًا مُخيفًا لثوراتٍ وأحداثٍ عالميَّة قاتلة. هل هو زمن الأيَّام الأخيرة الذي تضربهُ الويلات والدَّينونات الإلهيَّة؟ إنَّها بدون شكٍّ أيَّامٌ عصيبة ستختبرها الشعوب والأمم الَّذين أخطأوا إلى الله خالِقهم ورفضوا عبادة الإله الحيِّ الحقيقيّ وحدَه. سيستخدم الله حتمًا العوامِل الطبيعيَّة والأرضيَّة لإتمام دينونتهِ المحقَّة وجَلْبِ هذا الدَّهر الإنسانيّ إلى نهايته الحتميَّة.

 تُحاكي هذه الأوبئة تلك المذكورة في سفر الخروج في العهد القديم عندما ضرب الرَّبُّ المصريِّين وأرضَهم قُبيل خروج الشعب من العبوديَّة القاهِرة (خروج١:٦). فوسط عناد المصريِّين واستخفافهم بقدرة الله العجيبة، حوَّل الله المياه إلى دمٍ، وأطلق العِنان لأمواجٍ هائلة من الجراد، وضرب المصريِّين بالدَّمامل والآفات الجسديَّة المؤلِمة، ثمَّ قتل أبكارَهم. فكان هذا الحدَث الأخير بمثابة الحرب القاتلة التي أخضعت فرعون العاتي، الأمر الذي جعلهُ يُخلي سبيل أولاد إبراهيم المستعبدين نحو الحريَّة المنشودة.

هل يحقُّ لنا أن نعتبرَ سفر الرؤيا كإنذارٍ لما ينتظِر البشريَّة في المستقبل؟ هل يُمكِننا اعتبار الأحداث الواردة في سفر الخروج – الضَّربات والأوبئة وعبور البحر الأحمر وقيادة رجل الله موسى – أحداثًا حقيقيَّة ذات أبعادٍ نبويَّة؟ وكأحداثٍ كتابيَّة أخرى، فالأحداث النبويَّة في سفر الرؤيا كانت وما زالت محطَّ انتقاد الكثيرين من مُثقَّفين ولاهوتيِّين على حدٍّ سواء، الأمر الذي جعل الكثيرين من البشر يشكُّون بالكلمة الإلهيَّة ومصداقيَّتها. 

أمّا اليوم، فنحن أمامَ مشهدٍ مُختلفٍ ببساطةٍ لأنّه حقيقيّ ويؤثِّر في مجريات حياةِ الإنسان اليوميَّة. فمنذ ظهورهِ في أواخر العام المنصرِم، احتلَّ هذا الفيروس القاتل ولا يزال العناوين الرئيسيَّة حول العالَم، واستحوذ على اهتمامات الناس وانتباههم، فانتابهم الخوف والقلق على نفوسهم وعائلاتهم. دُعيتُ في النصف الأول من شهر مارس-آذار لتقديم محاضرة مُوسَّعة عن فيروس كورونا في إحدى الجامعات الأمريكيَّة العريقة في بيروت، ولما اعتليتُ المنبر مُتكلِّمًا تناولت وباقتضابٍ شديد المعلومات التي تردَّدت على مواقع إخباريَّة عريقة مثل ’CNN‘ و ’BBC‘ التي كانت تُشير إلى احتمال أن يكون هذا الفيروس مُهندَسًا جينيًّا. لم أُرِد أن أُركِّز على هذه النقطة بالذات، بل حاولت جاهدًا التَّركيز على، وتوجيه الأنظار إلى، المصادر والتَّوصيات العلميَّة والطبِّيَّة المتعلِّقة بالفيروس للوقاية منه ومكافحته كما قدَّمتها منظَّمة الصحَّة العالميَّة ’WHO‘ ومركز مكافحة الأمراض الأمريكيّ ’CDC‘.

ولكثرة العناوين الفضفاضة التي رافقت هذا الفيروس إلى الآن، يتبادرُ إلى أذهاننا السؤال التالي: ماذا حلَّ بعالَمنا المستقرِّ والمنظَّم نسبيًّا، ولماذا هذه الفوضى العارمة المسوقة بالخوف تجتاح مجتمعاتنا؟ يجب علينا كأولاد الله أن نفهم موقع هذا الحدَث العالميّ الاستثنائيّ – كما أحداثًا أخرى حصلت في الماضي أو نعاصرها – بالنسبة إلى الصورة الكبرى التي تُغطِّيها النبوَّة الكتابيَّة. فالكتاب المقدَّس وحده يُمكنهُ تفسير عالَمنا اليوم ومستقبله. وإذا كنتَ مؤمنًا بصواب الكلمة الإلهيَّة وعصمتها، عندها يمكنك أن تختبرَ قدرةَ الله وسلطانه على مجريات الأمور العالميَّة وتعرف عمق خطَّته لحياتك والآخَرين. كيف يمكننا أن نسبرَ غورَ هذه الأحداث الأخيرة والقادمة إن لم نُعطَ روح المشورة والفهم؟ ألَم يقُل النبيُّ في القديم هذه الكلمات المعبِّرة في سياق تعبيرهِ عن كسب المعرفة: ’أَعْطَانِي ٱلسَّيِّدُ ٱلرَّبُّ لِسَانَ ٱلْمُتَعَلِّمِينَ لِأَعْرِفَ أَنْ أُغِيثَ ٱلْمُعْيِيَ بِكَلِمَةٍ. يُوقِظُ كُلَّ صَبَاحٍ، يُوقِظُ لِي أُذُنًا، لِأَسْمَعَ كَٱلْمُتَعَلِّمِينَ‘ (إشعياء٤:٥٠)! ينبغي علينا، إذًا، أن نسأل الأسئلة الصَّادقة التي تقود إلى الحقِّ ولا نتسرَّع باستنتاجاتٍ وبأبعادٍ قد لا تُمثِّل ما يحدُث حقيقةً. 

أرجو صادقًا التَّدقيق في مصادر المعلومات المستقاة لمعرفة فحوى النبوَّة الكتابيَّة بتجرُّدٍ وعصاميَّة تاركين للروح القدس إرشادنا إلى ينابيع المعرفة والحقّ. فالأحداث التي نشهدها في عالَمنا المعاصِر، ومن بينها الأوبئة، ما هي إلّا ومضات ولمحات يسيرة من أحداثٍ ستشهدها الكرة الأرضيَّة على مساحة العالَم برمَّتهِ. لا يمكننا فصل الأحداث عن بعضها البعض، فالأحداث في الأيَّام الأخيرة مُتَّصِلة ومؤذِّنة لِحقبةٍ تُشبه دينونة الله العادلة لِعالَم شرِّير. وإن تألَّم الأبرار وجيزًا قبل الفراق نحو الأمجاد، وأخذوا حيِّزًا لا يُستهانُ به من آلام الزمان الحاضِر، ذلك لأنَّ جميع البشر هم تحت سلطان الله وحُكمهِ العادل. فمَن سيقف أمامهُ مُبرَّرًا ومَن ذا الذي يستطيع الوقوف في محضر القدُّوس البار؟

إنّ أحداث هذه الأيَّام هي بمثابة إنذارٍ للبشريَّة كي تعيَ المقاصِد الإلهيَّة فتتوب وتعود نحو عبادة الله – ’لَا يَتَبَاطَأُ ٱلرَّبُّ عَنْ وَعْدِهِ كَمَا يَحْسِبُ قَوْمٌ ٱلتَّبَاطُؤَ، لَكِنَّهُ يَتَأَنَّى عَلَيْنَا، وَهُوَ لَا يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ، بَلْ أَنْ يُقْبِلَ ٱلْجَمِيعُ إِلَى ٱلتَّوْبَةِ‘ (٢بطرس٩:٣). فكثرة الكلام عن فيروس كورونا قد لا يخلو من الخطأ والمبالَغة المقصودة وغير المقصودة، تمامًا كما فعل أيوب يوم تذمَّر بإصرارٍ غير اعتياديّ على قضاء الله العادِل – ’مَنْ هَذَا ٱلَّذِي يُظْلِمُ ٱلْقَضَاءَ بِكَلَامٍ بِلَا مَعْرِفَةٍ؟ اُشْدُدِ ٱلْآنَ حَقْوَيْكَ كَرَجُلٍ، فَإِنِّي أَسْأَلُكَ فَتُعَلِّمُنِي‘ (أيوب٢:٣٨-٣). 

لا شيءَ يحصل في هذا العالَم وهو ليس في عِلم الله السَّابق وتدبيره السَّامي للبشريَّة التي يدعوها أن تعود إليه قبل انسكابِ غضبهِ الشَّامل. يقول المرنِّم بحقٍّ هذه الكلمات المشجِّعة: ’اَلسَّاكِنُ فِي سِتْرِ ٱلْعَلِيِّ، فِي ظِلِّ ٱلْقَدِيرِ يَبِيتُ .أَقُولُ لِلرَّبِّ: مَلْجَإِي وَحِصْنِي. إِلَهِي فَأَتَّكِلُ عَلَيْهِ .لِأَنَّهُ يُنَجِّيكَ مِنْ فَخِّ ٱلصَّيَّادِ وَمِنَ ٱلْوَبَإِ ٱلْخَطِرِ .بِخَوَافِيهِ يُظَلِّلُكَ، وَتَحْتَ أَجْنِحَتِهِ تَحْتَمِي. تُرْسٌ وَمِجَنٌّ حَقُّهُ .لَا تَخْشَى مِنْ خَوْفِ ٱللَّيْلِ، وَلَا مِنْ سَهْمٍ يَطِيرُ فِي ٱلنَّهَارِ، وَلَا مِنْ وَبَإٍ يَسْلُكُ فِي ٱلدُّجَى، وَلَا مِنْ هَلَاكٍ يُفْسِدُ فِي ٱلظَّهِيرَةِ .يَسْقُطُ عَنْ جَانِبِكَ أَلْفٌ، وَرِبْوَاتٌ عَنْ يَمِينِكَ. إِلَيْكَ لَا يَقْرُبُ .إِنَّمَا بِعَيْنَيْكَ تَنْظُرُ وَتَرَى مُجَازَاةَ ٱلْأَشْرَارِ .لِأَنَّكَ قُلْتَ: أَنْتَ يَا رَبُّ مَلْجَإِي. جَعَلْتَ ٱلْعَلِيَّ مَسْكَنَكَ، لَا يُلَاقِيكَ شَرٌّ، وَلَا تَدْنُو ضَرْبَةٌ مِنْ خَيْمَتِكَ .لِأَنَّهُ يُوصِي مَلَائِكَتَهُ بِكَ لِكَيْ يَحْفَظُوكَ فِي كُلِّ طُرُقِكَ .عَلَى ٱلْأَيْدِي يَحْمِلُونَكَ لِئَلَّا تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ .عَلَى ٱلْأَسَدِ وَٱلصِّلِّ تَطَأُ. ٱلشِّبْلَ وَٱلثُّعْبَانَ تَدُوسُ. لِأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ. أُرَفِّعُهُ لِأَنَّهُ عَرَفَ ٱسْمِي .يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبُ لَهُ، مَعَهُ أَنَا فِي ٱلضِّيقِ، أُنْقِذُهُ وَأُمَجِّدُهُ .مِنْ طُولِ ٱلْأَيَّامِ أُشْبِعُهُ، وَأُرِيهِ خَلَاصِي‘ (مزمور١:٩١-١٦). ألا نعود إلى أحضان النعمة الإلهيَّة ونختبئ تحتَ ظلِّ جناحيه حتّى يعبرَ ظلمُ وادي الدُّموع هذا الذي نعيش فيه! فلماذا نخافُ إذًا في عالَمٍ مضطَّرب والرَّبُّ العالِمُ بكلِّ شيءٍ هو مرساةُ نفوسنا، وحافظُ أجسادنا وأرواحنا، وملجأنا الخيِّر والحصين – ’اِسْمُ ٱلرَّبِّ بُرْجٌ حَصِينٌ، يَرْكُضُ إِلَيْهِ ٱلصِّدِّيقُ وَيَتَمَنَّعُ‘ (أمثال١٠:١٨).

الموت, الحياة, الصحة, الحاجة , المرض, covid-19, فيروس كورونا, الالم

  • عدد الزيارات: 7804