إصحاح 5، آية 13
13-"خداه كخميلة الطيب ( * ) واتلام رياحين ذكية. شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا".
( 4 ) ان الأعداد التي تشير إلى ضرب سيدنا وربنا يسوع على خده ترينا ان خدي العريس يرسمان أمامنا صورة رمزية لاتضاعه بالنعمة _ هذا الأتضاع الذي عرضه إلى قسوة الإنسان واحتقاره له، فقد تنازل له المجد إلى الحد الذي جعله عرضة لاستهزاء البشر واحتقارهم له "بذلت ظهري للضاربين وخدي للناتفين. وجهي لم أستر عن العار والبصق"(أش50: 6) وهل يوجد تعبير أكثر تأثيرا مما جاء في ميخا5؟ فهناك نقرأ عنه له المجد بأنه "مدبر إسرائيل. الذي مخارجه منذ القديم منذ أيام الأزل"(ع2) فقد أتى من مجده الإلهي الأزلي ليولد كطفل في بيت لحم افراته ويا له من تنازل عجيب! ثم من جهة المستقبل فأنه "يقف ويرعى (قطيعه) بقدرة الرب بعظمة اسم الرب إلهه"(ع4) وهذا هو جلاله الملكي في الدهر الآتي، ولكنه بين "أيام الأزل" في الماضي، وجلاله الملكي في الزمن الألفي العتيد، قد تنازل بنعمة غنية وصار قريبا من البشر حتى تجاسر الإنسان الحقير على لطمه وضربه على خده "يضربون قاضي إسرائيل بقضيب على خده"(ع1) ألم تتم هذه النبوة حرفيا؟ نعم فان خديه الطاهرين اللذين كثيرا ما بللتهما دموع العطف والشفقة _ دموع الحنان والمحبة، قد لطما فعلا، كما غطتهما قبلات يهوذا الغاشة (أنظر مت26: 67، مر14: 65، لو22: 64، يو8: 22) لقد سلم المسيح نفسه لمثل هذه المعاملات الغاشة من يد البشر.
* * *
ويا له من جمال فاتن تراه عين الإيمان في ربنا المبارك! فان تنازله بالنعمة الذي كان ولا يزال موضوع احتقار البشر وكراهيتهم له هو بذاته الذي جعله جذابا ومحببا لقلب العروس. نعم ان اتضاعه في حياته وفي موته فوق الصليب الذي جعله مهانا ومرذولا من الناس يرى في عيون قديسيه ومحبيه في جمال فائق، وهذا هو معنى قول الرسول بطرس "فلكم أنتم الذين تؤمنون الكرامة (أي هو كريم)"(1بط2: 7) فقد كان المسيح الحجر الكريم الذي رفضه الناس، ولكن قيمته الغالية والكريمة يدركها المؤمنون به، ويجب أنهم ينمون في إدراكها أكثر فأكثر. حقا أنه أتضاع ربنا المبارك وتنازله بالنعمة ما يحبب قلوبنا فيه ويخضعها لإرادته ويفصلها عن العالم الذي رفضه، وأنه وان كان المسيح ممجدا الآن في الأعالي، ولكنه لا يزال إلى الآن في زمان رفضه من هذا العالم، فالمبشر على أتم استعداد ان يلطموه اليوم كما في الماضي، ومن بين هؤلاء كثيرون ممن يسمون باسم المسيح، إذ ما أكثر الملحدين الذين ينكرون مجد أقنومه الإلهي والأزلي ولا يؤمنون بقيمة عمله الفدائي ولا يوحي كلمته! أليست هذه بمثابة لطمات على خديه؟ أنه لا يزال مجروحا في بيت من يدعون أنهم أحباؤه، ولكن يا له من امتياز لأولئك الذين أدركوا قيمته التي تفوق التقدير، ان تكون لهم شركة معه في آلامه وهوانه!
* * *
ما أجمل ان نفكر لحظة في الفرق بين يوم أتضاع ربنا المبارك ويوم مجده العتيد ففي اليوم الأول احتقرته ابنة صهيون ورفضته في عمى بصيرتها الروحية، وذلك حينما رأته متواضعا، ولكن سيجيء عاجلا الوقت الذي فيه ستذكر ابنة صهيون هذه البغضة والقسوة وعندئذ سيملأ الحزن قلبها، وذلك عندما "يرفع البرقع" وكما كان يكشف البرقع عن وجه موسى عند دخوله إلى الخيمة _ إلى حضرة الرب، هكذا سوف يرفع البرقع عن قلب البقية التقية من إسرائيل حين "ينظرون إلى الذي طعنوه" وعوض القول "لا جمال فننظر إليه" سيقولون "أنت أبرع جمالا من بني البشر" والوجه الذي كان مفسدا والخد الذي أهين ولطم ستراهما الأمة البارة "كخميلة الطيب واتلام رياحين ذكية".
نعم ان خدي الحبيب ستكون فيهما جاذبية قوية لقلب وعواطف البقية التقية مستقبلا. فقد حسبته الأمة في عد إيمانها "مصابا مضروبا من الله ومذلولا" ولكن البقية المختارة ستعرفه حتى المعرفة وستدرك سر آلامه وتعترف قائلة "هو مجروح لأجل معاصينا مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا. كلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه أثم جميعنا"(أش53) فما أعجب عمل النعمة والمحبة الإلهية الغافرة! أنه سيكون يوم نصرة للرب ولمسيحه عندما تدرك البقية ان ذاك الذي احتقروه قبلا هو مسياهم. نعم أنه يهوه نفسه.
( 5 )"شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا (1)" وهنا نرى وجها آخر لاتضاع ربنا يسوع، فان كان اتضاعه أظهر فكر البشر وأراهم من جهته، فأنه أظهر أيضا غنى النعمة التي كانت في قلب الله من نحو الإنسان. هذا ما نراه في هذا الوصف الذي به تصف العروس حبيبها "شفتاه سوسن تقطران مرا مائعا" ويشير السوسن إلى النعمة الجذابة التي في المسيح يسوع، وقد أشار هو له المجد إلى ان في السوسن (أي الزنابق) شيئا يفوق كل مجد سليمان. والعنوان المعطى من الوحي الإلهي لمزمور45 يخبرنا بان هذا المزمور هو "على السوسن" وأنه "ترنيمة محبة" (أو ترنيمة الحبيب) (2) وهذا المزمور له ارتباط وثيق بسفر النشيد، فأنه يتحدث مترنما إلى الحبيب "انسكبت النعمة على شفتيك"(ع2) فالله جعل نعمته ذات جاذبية فائقة وذلك لأنه قدمها للبشر بواسطة ربنا يسوع، فهو لم يعلنها بواسطة ملاك أو بواسطة بوق من السماء، ولكنه أعلنها في ربنا يسوع الوديع والمتواضع القلب _ في يسوع ابنه الحبيب الوحيد، وما أعظم وأعجب هذه النعمة التي رآها فيه تلاميذه الذين صحبوه في أيام خدمته على الأرض! فيوحنا الحبيب يخبرنا بان ربنا يسوع _ الله الكلمة _ حل بينهم مملوء نعمة وحقا. . . وأنهم من ملئه قد أخذوا ونعمة فوق نعمة، لقد كانت النعمة الفائضة من شفتيه منسكبة في قلوبهم "مرا مائعا" وكم كانت تلك النعمة ثمينة وغالية لديهم ولا سيما عندما رأوها فيما بعد في ضوء آلامه وموته! فلم يكن ممكنا ان تخرج كلمة واحدة من كلمات النعمة من شفتي الرب لولا علمه السابق بقيمة موته، وكل كلمات النعمة التي خرجت من شفتي الرب تفقد معناها وقيمتها الحقيقية إذا لم تكن _ في تفكيرنا _ مقترنة بمحبته الإلهية التي أظهرها في آلامه وموته لأجلنا. فإذا كان قد قال "مغفورة لك خطاياك" أو "أذهب بسلام" أو "إيمانك قد خلصك" أو "من يؤمن بي فله حياة أبدية" فان هذه كلمات تنشر عبيرا عطريا لموته العجيب، إذ لولا موته ما كان ممكنا ان يفوه بكلمات كهذه لبشر خطاة. ان النعمة المعلنة في إنجيل لوقا إصحاحات 7و10و14و15و18و23 تفوح منها رائحة موته الذكية، وهذه الإصحاحات وغيرها كثير تقطر "مرا مائعا" وهذا ما أدركته العروس المتعلمة من الله وما يجب ان يدركه كل من تتلمذ للمسيح.
* * *
ان النفس التي تحب المسيح تعتز بكل كلمة من كلماته لأنها أغلى شيء لديها "لتسكن فيكم كلمة المسيح بغنى" لأننا لا نستطيع ان نعرفه حق المعرفة إلا بواسطة كلمته، فقد قال له المجد "أنا من البدء ما أكلمكم أيضا به"(يو8: 25) وإذا أردنا ان ننمو في معرفته فعلينا ان نتأمل بكل انتباه في الأناجيل وننعم النظر في كل قطرة من "المر المائع" المنسكب من شفتيه، ولنطل التأمل في كل عمل من أعماله، لان كل ما كأنه المسيح وقتئذ هو كذلك الآن وسيكون كذلك إلى الأبد، وفي دراسة الأناجيل نكون قريبين منه كما كان لخاصته في أيام جسده، ونستطيع ان نعرفه أكثر. ليت ذلك يكون اختبارنا عمليا.
* * *
- عدد الزيارات: 5445