الحياةُ في مجالَين
هل سبقَ ولاحَظتُم يَعسُوباً أو فراشَةً خَيَّاطَةً وهي تطيرُ، كيفَ تَستَخدِمُ أجنِحَتَها المُزدَوِجَة لتنتَقِلَ من زهرَةٍ إلى أُخرى؟ أحياناً تُحَلِّقُ مثلَ طائِرَة الهليكُوبتر، ثابِتَةً مُعَلَّقَةً في الفَضاء. وتستطيعُ هذه أو الفَراشَة الخَيَّاطَةُ أن تُحَلِّقَ بهذا الشَّكلِ طوالَ النَّهار. إنَّ هذه المَخلُوقات المُدهِشَة هي مُعجِزَةٌ بِحَدِّ ذاتِها في الطَّيرانِ النَّفَّاث، معَ أجنِحَتِها المُزدَوِجَة التي تَسمَحُ لها بالطَّيرانِ بِدُونِ توقُّف.
تقضِي الفَراشَة ُالخَيَّاطَةُ أوَّلَ أربَع سنواتٍ من وُجُودِها في قَعرِ مُستَنقَعٍ منَ المياه. فإذا قُمتُم كما يفعَلُ عُلماءُ الطَّبيعة، بإقتِطاعِ صُورَةٍ مَقطعِيَّة عن حياةِ اليَعسُوب تحتَ المياه في أُولى سني حياتِها، سوفَ تكتَشِفُونَ أنَّ هذه الحشَرة المائِيَّة مُزَوَّدَةٌ بجِهازَي تنفُّس. فاليَعسُوبُ الذي يعيشُ تحتَ الماء لديهِ نظامٌ تنفُّسِيٌّ يسمَحُ لهُ بتنشُّقِ الهواءِ تحتَ الماء من خلالِ جسدِهِ الطَّويل الرَّفيع، وبإمكانِهِ إستخراجَ الأُوكسجين منَ الماء، تماماً كما تفعَلُ باقي الحيواناتُ المائِيَّة. وسوفَ تكتَشفُونَ أيضاً أنَّ هذا المَخلُوق المُدهِش لديهِ جهازٌ تنَفُّسِيٌّ آخر، سوفَ يُمَكِّنُه ذاتَ يَومٍ من تنفُّسِ الهواءِ مُباشَرَةً عندما يدخُلُ المجالَ الآخرَ من حياتِهِ.
فعندما تكتَمِلُ مرحَلَةُ الحياةِ المائِيَّة لليُعسُوب، يرتَفِعُ إلى سطحِ الماء، ويزحَفُ إلى اليابِسَة، حيثُ يُجفِّفُ أجنِحَتَهُ تحتَ الشَّمس، ويفرُدُ هاتَينِ المَجمُوعَتَين منَ الأجنِحَة الغريبة المُدهِشَة، ويبدَأُ بعَيشِ النِّصفِ الثَّاني المجيد من حياتِهِ. لقد صمَّمَ اللهُ هذا اليَعسُوب أو الفراشة الخَيَّاطة لتعيشَ حياتَها في بُعدَين أو مجالَين أو عالَمَين.
لدينا هذا القاسَمُ المُشتَرَك معَ اليَعسُوب. فبِحَسَبِ بولُس، نحنُ أيضاً صُمِّمنا من قِبَلِ اللهِ لنعيشَ في عالَمين أو مجالَين. يُعطينا اللهُ جسداً أرضِيَّاً لنعيشَ حياتَنا هُنا على الأرض، وسيُعطينا اللهُ جسداً سماوِيَّاً سوفَ يُؤَهِّلُنا لنَعيشَ إلى الأبد في المجالِ الأبديّ من وُجُودِنا الثَّانِي الذي خطَّطَ لهُ اللهُ بِعنايَتِهِ الإلهيَّة.
وإذا تكلَّمنا مجازِيَّاً، إذا كُنَّا سنأخُذُ "صُورَةً مَقطَعِيَّةً" لمُؤمِنٍ مُتَجَدِّد، سوفَ نكتَشِفُ أنَّ المُؤمِنَ المَولُودَ من جديد، مثلَ اليَعسُوب، مُزَوَّدٌ بجهازَينِ للحياة. فكُلُّ تلميذٍ حقيقيٍّ ليسُوع المسيح مُجَهَّزٌ بجَسَدٍ أرضِيّ، أو بجهازِ حياةٍ يسمَحُ للمُؤمِن بأن يعيشَ المجالَ الأوَّلَ من حياتِهِ. وسوفَ نكتَشِفُ أيضاً أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ حقيقيٍّ مُزَوَّدٌ بما يُسَمِّيهِ بُولُس "الخليقَة الجديدة"، أو "الإنسان الجَديد"، أو "الإنسان الدَّاخِليّ." بحَسَبِ بُولُس، عملُ الرُّوحِ القُدُس المُعجِزِيّ هذا، هُو أشبَهُ بالجِهازِ التَّنَفُّسِيّ الثَّانِي عندَ اليَعسُوب، الذي يَرمُزُ إلى الجسد الرُّوحي الذي سيُعطيهِ اللهُ لِكُلِّ المُؤمنين، والذي سيُمَكِّنُهُم منَ العَيشِ إلى الأبد.
اليَعسُوبُ هُوَ مُعجِزَةٌ في الطَّيرانِ النَّفَّاث في مجالِ حياتِهِ الثَّانِيَة. عندما يَقُومُ المُؤمِنُونَ منَ المَوت، وعندما يُعطينا اللهُ أجساداً رُوحيَّةً تُؤَهِّلُنا للبُعدِ الثَّانِي والأبديّ من حياتِنا، تصَوَّرُوا كيفَ سنَكُون!
قرابَةَ نهايَةِ العهدِ الجديد، في رِسالَةِ يُوحَنَّا الأُولى، يتأمَّلُ هذا الشَّيخُ والقِائِدُ المُسِنّ، الرَّسُولُ يُوحَنَّا حولَ من وماذا نكُونُ الآنَ كمُؤمِنين ومن وماذا سنكُونُ في المُستَقبَل. وهُوَ يُخبِرُنا بأنَّ ما سنَكُونُهُ لم يُعلَنْ بَعد، ولكنَّهُ سيَكُونُ رائِعاً يَفُوقُ كُلّ ما يُمكِنُنا أن نتخيَّلَهُ، لأنَّهُ في السَّماء، سوفَ نَكُونُ تماماً كما هُوَ المسيحُ الحَيُّ المقامُ الآن (1يُوحَنَّا 3: 1، 2)!
يَكتُبُ بُولُس بِطَريقَةٍ جميلَة أنَّ الخليقَةَ بأسرِها تتطلَّعُ بِشَوقٍ لتنظُرَ المُعجِزَةَ المجيدة عنِ الحالَةِ التي سنَكُونُ عليها. قِيلَ لي أنَّ التَّقَدُّمَ بالسِّنّ هُوَ ليسَ للجُبناء. فبَينما تختَبِرُ التَّقَدُّمَ بالسِّنّ، أو بينما تُلاحِظُ تلكَ العَمَلِيَّةَ في أُولئِكَ الذين تعرِفُهُم وتُحِبُّهُم، لا تَنسَ أبداً أنَّ الجَسَدَ ليسَ إلا "ثوباً أرضِيَّاً" للمُؤمن. فاللهُ يمنَحُنا جسداً يُمَكِّنُنا منَ العَيشِ هُنا على الأرض. واللهُ سوفَ يمنحُ كُلَّ تلميذٍ ليسُوع المسيح جسداً رُوحانِيَّاً، سيُؤَهِّلُنا للعَيشِ في السماء، عندما يَتِمُّ إستِعلانُنا كأبناءِ الله.
هذانِ العَدَدانِ اللذانِ يَربِطانِ بينَ نُمُوِّنا وإنتِصارِنا وبينَ الألَم والحالَةِ الأبديَّة، تَتبَعُهُما أعدادٌ عَميقَةٌ تُخبِرُنا بِبَعضِ الحقائِق المُدهِشَة عن هذا العالم الذي خلَقَهُ هذا العالَم ويحفَظُهُ. فأبناءُ اللهِ ليسُوا خليقَةَ اللهِ الوحيدة التي تحتاجُ عملَ اللهِ الخلاق المُستَمِرّ: "إذ أُخضِعَتِ الخَليقَةُ لِلبُطلِ، ليسَ طَوعاً بَل من أجلِ الذي أخضَعَها على الرَّجاء. لأنَّ الخَليقَةَ نفسَها أيضاً ستُعتَقُ من عُبُوديَّةِ الفَسَادِ إلى حُرِّيَّةِ مَجدِ أولادِ الله. فإنَّنا نعلَمُ أنَّ كُلَّ الخَليقَةِ تَئِنُّ وتَتَمخَّضُ معاً إلى الآن." (رومية 8: 20- 22)
لِكَي نُتَرجِمَ هذه الأعداد الثَّلاثَة، علينا أن نفهَمَ سُقُوطَ الجنسِ البَشَريّ، كما هُوَ مَوصُوفٌ في الإصحاحاتِ الأُولى من سفرِ التَّكوين، وفي الإصحاحِ الأوَّلِ من هذه الرِّسالَة التي كتبَها بُولُس إلى أهلِ رُومية. عندما يُخطِئُ الإنسانُ، يَتَلَطَّخُ كُلُّ ما يَلمَسُهُ الإنسانُ بخَطِيَّتِهِ هذه. نحنُ نرى نتائِج الخَطيَّة البَشَريَّة على البِيئَة، بطُرُقٍ كثيرَةٍ مُتَنَوِّعَةٍ اليوم. فالطَّمَعُ البَشَرِيُّ يُلَوِّثُ مِياهَنا والهواءَ الذي نتنفَّسُهُ والطَّعام الذي نأكُلُهُ.
بِحَسَبِ وقائِعِ الخلق، تأثَّرَ هذا الخَلقُ دينامِيكيَّاً بِسُقُوطِ الإنسان. هذه الأعدادُ تَقُولُ بِبَساطَةٍ أنَّهُ عندما يكتَمِلُ فداءُ الإنسان، سيكُونُ هُناكَ فداءٌ نِهائِيٌّ وكامِلٍ لهذا العالم. فعندما نُفدَى، نُصبِحُ خلائِقَ جديدَة. ولقد علَّمنا بُولُس في هذه الرِّسالَة أنَّ إنسانَنا العَتيق ينبَغي أن يَمُوتَ، لكَي تبدَأَ حياتُنا الجديدة. يُعَلِّمُنا الكتابُ المُقدَّسُ أنَّهُ يوماً ما، سوفَ يخلُقُ اللهُ سماءً جديدَةً وأرضاً جديدَةً يسُكُنُ فيها البِرّ. (2بُطرُس 3: 13)
يُخبِرُنا بُولُس هُنا في الإصحاحِ الثَّامِن من رسالَتِهِ إلى أهلِ رُومية، أنَّ الخليقَةَ الحاضِرَة تَئِنُّ وتَتَمخَّضُ للوُصُولِ إلى الخليقَةِ الجديدة. "وليسَ هكذا فقط بل نحنُ الذين لنا باكُورَة الرُّوح، نحنُ أنفُسُنا أيضاً نَئِنُّ في أنفُسِنا مُتَوقِّعِينَ التَّبَنِّي فِداءَ أجسادِنا. لأنَّنا بالرَّجاءِ خَلَصنا. ولكنَّ الرَّجاءَ المَنظُورَ ليسَ رَجاءً. لأنَّ ما ينظُرُهُ أحدٌ كيفَ يرجُوهُ أيضاً. ولكن إن كُنَّا نرجُو ما لَسنا ننظُرُهُ فإنَّنا نتوقَّعُهُ بالصَّبر." (رُومية 8: 23- 25).
هُنا يرجِعُ بُولُس إلى مَوضُوع فدائِنا النِّهائي والكامِل. وهُوَ يكتُبُ قائِلاً أنَّنا نخلُصُ برجاءِ قيامَةِ الأجساد. وهُوَ يقصُدُ أنَّنا بِمعنىً ما لن يكتَمِلَ فداؤُنا نِهائِيَّاً، إلى أن نَقُومَ ونَصِلَ إلى الحالَةِ الأبديَّة. فالأشخاصُ الأتقِياءُ يمُوتُونَ، ونحنُ نتساءَلُ غالِباً لماذا لم يُشفَوا؟
نَجِدُ الجوابَ جُزئِيَّاً في هذه الأعداد. فتماماً كما أنَّ فِداءَهُم لن يكتَمِلَ نهائِيَّاً إلى أن يَصلُوا إلى الأبديَّة، فإنَّ شِفاءَهُم أيضاً لن يكتَمِلَ إلى أن يَقوُموا ويَصِلُوا إلى السماء. عندما يُعطيهِمِ اللهُ الجسدَ الرُّوحِيَّ الذي سيُمَكِّنُهُم منَ العَيشِ في السَّماء، فإنَّ شِفاءَهُم وفداءَهُم سيَكتَمِلانِ تماماً.
صَلِّ على أيَّةِ حال
"وكذلكَ الرُّوحُ أيضاً يُعِينُ ضَعَفاتِنا. لأنَّنا لسنا نعلَمُ ما نُصَلِّي لأجلِهِ كما يَنبَغي، ولكنَّ الرُّوحَ نفسَهُ يشفَعُ فينا بأنَّاتٍ لا يُنطَقُ بها. ولكنَّ الذي يفحَصُ القُلُوبَ يعلَمُ ما هُوَ إهتِمامُ الرُّوح. لأنَّهُ بِحَسَبِ مَشيئَةِ اللهِ يشفَعُ في القِدِّيسين." (رُومية 8: 26- 27).
لاحِظُوا التَّشديد في الأعدادِ التي إقتَبَستُها، والتي كتبَها بُولُس للكُورنثِيِّين، ولا سِيَّما في الأعداد 23 إلى 25 من هذا الإصحاحِ الثَّامِن من رسالَةِ رُومية، على كَونِ أجسادِنا والخَليقَة معاً تتمخَّضُ وَتئِنُّ مُتَشَوِّقَةً لتختَبِرَ معنَى الفداءِ النِّهائِيِّ الكامِل. يُضيفُ بُولُس إلى هذا مقطعاً قدَّمَ الكثيرَ منَ التَّعزِيَة لملايينِ المُؤمنين لحوالَي ألفَي عام. كتبَ يَقُولُ أنَّ اللهَ يسمَعُ أنَّاتِنا، ويرثِي لِضَعفاتنا بِطَريقَةٍ جَميلَة.
أيُّ مُؤمِنٍ يتعلَّمُ الإنضباط الرُّوحِيّ بالصَّلاة، يعلَمُ أنَّهُ علينا أن نُصَلِّيَ بإنسجامٍ وإتِّفاقٍ مع مَشيئَةِ الله. ولكنَّ مُشكِلَتَنا هي أنَّنا غالِباً ما نجهَلُ ما هي إرادَةُ الله، عندما نقتَرِبُ من عرشِهِ ونُقَدِّمُ لهُ طلباتِنا وتضرُّعاتِنا. لهذا يتوقَّفُ البَعضُ منَّا عنِ الإقتِرابِ منَ اللهِ وعن تقديمِ طلباتِنا وتضرُّعاتِنا أمامَهُ.
نصيحَةُ هذا الرَّسُول هي أنَّهُ علَينا أن نُصَلِّي على أيَّةِ حال. التَّفسيرُ المُوحَى والعَميق لهذه النَّصيحة، هُو أنَّ الرُّوحَ القُدُس يعرِفُ مشيئَةَ الله حيالَ كُلِّ طِلبَةٍ نُقَدِّمُها أمامَهُ في صلواتِنا. فعندما نُصَلِّي على أيَّةِ حال، أو حتَّى إذا طَلَبنا شَيئاً غيرَ مُتَضَمِّنٍ في مشيئَةِ اللهِ ولا في خُطَّتِهِ لنا، ولا لِلَّذِينَ نُصَلِّي لأجلِهم، سوفَ يتشفَّعُ الرُّوحُ القُدُسُ لأجلِنا بِحَسَبِ مشيئَةِ الله! بِلُغَةٍ بَسيطَةٍ وصريحة، هذا يعني أنَّنا عندما نُصَلِّي طالِبينَ الشَّيءَ الخَطأ، إن كانَت قُلُوبُنا مُستَقيمَةً أمامَ الله، فإنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سيتشفَّعُ بنا، واللهُ سيُعطينا ما هُوَ بِحَسَبِ مشيئَتِهِ، سواءٌ لنا أم لأُولئِكَ الذين نُصَلِّي لأجلِهم.
أشكُرُ اللهَ على هذا الوعد، وعلى أنَّ اللهَ لم يستَجِبْ بعضَ صلواتي. فالآن وقد نضَجتُ رُوحيَّاً أكثَرَ من ذِي قَبل، وبعدَ أن تقدَّمتُ في مَسيرِي معَ المسيح، وبإمكانِي النَّظَرَ إلى وراء لأرى كيفَ أنَّ اللهَ عَمِلَ في حياتِي، بإستِطاعَتِي القَول، "شُكراً أيُّها الرُّوحُ القُدُسُ على التَّشَفُّعِ بي عندما كُنتُ أُصَلِّي طالِباً أشياءَ مغلُوطَة.
في العهدِ القَديم، تُوجدُ بِضعَةُ أمثِلَةٍ عن رِجالٍ أتقِياء صَلُّوا طالِبينَ المَوتَ لأنفُسِهِم. مُوسى، إيليَّا، أيُّوب، ويُونان وصَلُوا إلى نُقطَةِ الإكتِئابِ واليأس، حيثُ طَلَبُوا منَ اللهِ أن يُمِيتَهُم. حتَّى رجالاتِ اللهِ العِظام هؤُلاء قد أُنهِكُوا جسديَّاً، عقلِيَّاً، عاطِفيَّاً وحتَّى رُوحيَّاً، لدرَجِةِ أنَّهُم طلَبُوا منَ اللهِ شَيئاً خطأً. ولكن بما أنَّ قُلُوبَهُم كانت مُستَقيمَةً أمامَ الله، فإنَّ أباهُم السَّماوِيّ المُحِبّ لم يَستَجِبْ لصلواتِهِم ولم يسمَحْ بمَوتِهِم.
فلقد أعطَى اللهُ لمُوسى سَبعينَ رَجُلاً ليُساعِدُوهُ على تحمُّلِ أعباءِ قيادَةِ الشَّعب، التي سبقَت وقادَتْهُ إلى الإكتِئابِ واليأس. ولِحَوالَي أربَعين سنَةً، كانَ مُوسَى يَقُودُ بني إسرائيل، بينما كانُوا يجُولُونَ تائِهينَ في حلقَةٍ مُفرَغَةٍ وسطَ صحراءِ البَرِّيَّةِ القاحِلَة لأربَعين سنَةً، بينما كانَ بالإمكانِ إجتيازُ هذه الصحراء بأحد عشرَ يَوماً. لقد كانَ مُوسَى مُنهَكاً، وتَعِبَ من كَونِهِ مُتعَباً. في حضارَتِنا المُعاصِرَة، نَصِفُ الشَّخص في هذه الحالَة بأنَّهُ "إحتَرَقَ." (عدد 11: 10- 17)
جمالُ الحقيقَة التي يُعَلِّمُها بُولُس في هذه التَّوصِيَة عنِ الصَّلاة، هُو أنَّهُ علينا أن لا ندعَ حقيقَةَ كَونِنا نجهَلُ مشيئَةَ الله تمنَعُنا عنِ الصَّلاة. فعَلَينا أن نُصَلِّي على أيَّةِ حال، لأنَّ الرُّوحَ القُدُسَ سوفَ يتشفَّعُ بنا، واللهُ سيُعطينا الشيءَ الصَّحيحَ الذي ينسَجِمُ معَ مشيئَتِهِ.
النَّبِيُّ إيليَّا أهمَلَ شَيئاً أودُّ تَسمِيَتُهُ، "صَِيانَة الهَيكَل." يُعَلِّمُنا بُولُس أنَّ جسدَنا هُوَ هيكَلُ الرُّوحِ القُدُس. وبما أنَّ حياتَنا الجسديَّة، الرُّوحيَّة، العقليَّة والعاطِفيَّة ممزُوجَةً معاً في بَوتَقَةٍ واحدة، فعِندَما تُهمَلُ النَّاحِيَةُ الجسديَّةُ في حياتِنا، يُؤَدِّي الإنهاكُ الجسديُّ إلى إرهاقٍ ذهنِيّ، وعاطِفيّ ورُوحِيّ. عندما طَلَبَ إيليَّا منَ اللهِ أن يُمِيتَهُ، أوقعَ اللهُ عليهِ سُباتاً عميقاً، ثُمَّ أيقَظَهُ وأطعَمَهُ، ثُمَّ أوقعَ عليهِ سُباتاً عميقاً من جَديد. نقرأُ أنَّ هذا النَّبِيَّ العظيم الذي سبقَ وطلبَ المَوتَ لنَفسِهِ، قد إستَعادَ قُوَّتَهُ تماماً، وبواسِطَةِ نَشاطِ ذلكَ الطَّعامِ والرَّاحَة، إستطاعَ أن يُسافِرَ أربَعينَ يوماً! فنجدُ أنَّهُ عندما طَلبَ منَ اللهِ الشَّيءَ الخطأ، أعطاهُ اللهُ الشَّيءَ الصَّواب. (1مُلُوك 19: 1- 8)
إذا قَرأتُم أقوالَ أيُّوب بِعنايَةٍ، سوفَ تَرَونَ أنَّ ألَمَ أيُّوب وصلَ بهِ إلى المرحلَة التي صَلَّى فيها هُوَ بِدَورِهِ صلاةَ مُوسَى وإيليَّا. (أيُّوب 3: 11؛ 10: 18) ولقد إنضَمَّ النَّبِيُّ يُونان إلى هؤُلاء الرِّجالِ الثَّلاثَة، وصَلَّى بِدَورِهِ هذه الصَّلاة (يُونان 4). ولكنَّ اللهَ لم يُمِتْ أيُّوب ولا يُونان. عندما صَلُّوا هذه الصَّلاة، أعطاهُم اللهُ جَوهَرَ السِّفرَين اللذينِ سُمِّيا على إسمَيهِما. هذه الأمثِلَة الأربَعة تُعَلِّمُنا أنَّهُ حتَّى النَّاس الأتقِياء جدَّاً، يُمكِنُهم أن يَصِلُوا إلى مَرحَلَةٍ يفقِدُونَ فيها إتِّجاهَهُم الصَّحيح، فيطلُبُونَ منَ اللهِ الشَّيءَ الخطأ. هؤُلاء الرِّجال الأربَعة هُم أمثِلَةٌ عمَّا يُعَلِّمُنا إيَّاهُ بُولُس في هذه التَّوصِيَة العميقة والمُمَيَّزَة عنِ الصَّلاة.
هذانِ العَددان (رُومية 8: 26، 27)، يُشَكِّلانِ الخَلفِيَّة التي تُمَهِّدُ للعَدَدِ الذي يَليهِما، والذي أعطَى الكثيرَ منَ التَّعزِيَةِ والإلهَام لِلملايين منَ المُؤمنينَ المسيحيِّين، منذُ كتابَةِ هذه الرِّسالَة. ويُمكِنُ لهذا العددِ أيضاً أن يُساءَ فهمُهُ ويُساءَ تطبِيقُهُ أكثَرَ من أيِّ عددٍ آخر في كتاباتِ بُولُس الرَّسُول: "ونحنُ نعلَمُ أنَّ كُلَّ الأشياءِ تعمَلُ معاً لِلخَير للذينَ يُحِبُّونَ الله، الذين هُم مَدعُوُّونَ حسبَ قَصدِهِ." (رُومية 8: 28)
يبدَأُ هذا العددُ بِوعدٍ رائِعٍ بأنَّ كُلَّ الأشياء ستعمَلُ معاً لِلخَير. يستخدِمُ بُولُس الكَلِمتين "كُلَّ الأشياء" مراراً وتكراراً، ولكن ليسَ بِخِفَّةٍ أو إبتِذال. ولقد تفرَّسَ كُلٌّ منَ المُؤمنينَ وغير المُؤمنين بهاتَينِ الكَلِمَتَين، خلالَ مُعاناتِهِم من مآسي الحياة، كَتِلكَ التي تُسَبِّبُها الحُرُوب أو الشُّرُور الأُخرى. هذه الأحداثُ المأساوِيَّة غالِباً ما تُفَسَّرُ فقط بالفَوضى العارِمَة، أو بالحقيقَةِ القاسِيَة أنَّها حدَثَت في المكانِ والزَّمانِ غيرِ المُناسِبَينَ بتاتاً. وهكذا ينظُرُ النَّاسُ إلى هاتَينِ الكَلِمَتَينِ ويتساءلُونَ قائِلين، "كُلَّ الأشياء يا بُولُس؟ حتَّى هذه المأساة؟"
تأمَّلُوا بهذه الترجمَة التَّفسيريَّة لهذا العدد، والتي هي أقرَبُ ما يكُونُ للُّغَةِ الأصليَّة ولِقَصدِ بُولُس عندما كتبَ هذه الكلمات: "وفوقَ ذلكَ، نحنُ نعلَمُ أنَّ أُولئكَ الذين يُحِبُّونَ الله، والذين هُم مَدعُوُّونَ بِحَسَبِ خُطَّتِهِ، كُلُّ ما يحدُثُ لهُم يجدُ مكانَهُ للعَمَلِ لِخيرِهِم." (28) أوَدُّ أن أُقدِّمَ مُلاحَظَتَين حولَ هذا العدد. المُلاحَظة الأُولى هي أنَّ الوعدَ الذي بهِ يبدَأُ هذا العدد هُوَ وعدٌ مَشروطٌ. فهُناكَ شَرطانِ مُهِمَّانِ ينبَغي أن يتحقَّقَا قبلَ أن يُطَبَّقَ هذا العددُ على حياةِ ومشاكِلِ النَّاس:
1-يجِبُ أن يُحِبُّوا الله.
2-يَجِبُ أن يَكُونُ مَدعُوِّينَ بِحَسَبِ خُطَّتِهِ.
ماذا يعني بالتَّحديد أن نُحِبَّ الله؟ يُخبِرُنا الرَّسُولُ يُوحَنَّا أنَّهُ ليسَ منَ السَّهلِ أن نُحِبَّ الله. وهُوَ يتحدَّانا بِسُؤالٍ: "إن قالَ أحَدٌ إنِّي أُحِبُّ اللهَ وأبغَضَ أخاهُ فهُوَ كاذِبٌ. لأنَّ من لا يُحِبُّ أخاهُ الذي أبصَرَهُ كيفَ يَقدِرُ أن يُحِبَّ اللهَ الذي لم يُبصِرْهُ." (1يُوحنَّا 4: 20). بالنِّسبِةَ لِبُولُس، نُظهِرُ أنَّنا نُحِبُّ اللهَ عندما نَكُونُ مَدعُوِّينَ بِحَسَبِ خُطَّتِهِ. فعندما تَكُونُ أولَوِيَّةُ كُلِّ خَليَّةٍ من كيانِنا هي أن نَكُونَ مَدعُوِّينَ بِحَسَبِ خُطَّةِ الله، على مِثالِ مُوسى، إيليَّا، أيُّوب ويُونان، عندها نُلَبِّي الشُّرُوط التي تُمَكِّنُنا من تطبيقِ هذا العدد على حياتِنا وعلى مشاكِلِنا، بِغَضِّ النَّظَر عن مقدارِ مأساوِيَّةِ وعبَثَيَّةِ مظهَرِ هذه المشاكِل.
عندما وعظتُ أنَّ كُلَّ الأشياء تعمَلُ معاً لِلخَير، رأيتَ مُؤمنينَ وغيرَ مُؤمنين، منَ الذي إجتازُوا تجارِبَ مأساوِيَّة، وقَفُوا أمامِي وتحدُّوا عِظَتي. الحقيقَةُ المُرَّةُ الرَّهيبَةُ والقاسِيَة هي أنَّهُ إن كان تَوَجُّهُ حياتِهِم بأسرِها كانَ دائماً غيرَ رُوحيٍّ، عِلمانِيَّاً مُلحداً، أنانِيَّاً ومَدفُوعاً بقِيَمِ هذا العالَمِ الذي لا يَعرِفُ الله، فلن يتمكَّنُوا ولا حتَّى منَ البَدءِ بتطبيقِ هذا العدد على حياتِهم وعلى مشاكِلِهم المأساوِيَّة.
مُلاحَظَتي الثَّانية هي أنَّهُ عندما يُفهَمُ هذا العددُ بِشكلٍ صحيح، نَجِدُ أنَّهُ لا يُسمِّي خَيراً كُلَّ ما يحدُثُ ولا حتَّى للمُؤمن التَّقي الذي يتبعُ المسيحَ بإخلاص. فقد لا نَجِدُ أيَّ خيرٍ بتاتاً في ما قد يحدُثُ لنا. لقد كانَ يٍسُوعُ واقِعيَّاً، وهكذا كانَ رَسُولُهُ المحبُوب بُولُس.
علَّمنا يسُوعُ أنَّهُ في هذا العالَم، سيَكُونُ لنا ضِيقٌ (يُوحَنَّا 16: 33)، ومن خلالِ المِثالِ والتَّعليم، أوضَحَ هذا الرَّسُولُ ورَبُّهُ يسُوع أنَّنا غالِباً ما نتألَّمُ لأنَّ الشِّرِّيرَ يكرَهُ المسيحَ وخاصَّتَهُ. فالوعدُ في هذا العدد هُوَ أنَّنا إذا كُنَّا مُؤَهَّلِين، فإنَّ إلَهَنا يقدِرُ أن يأخُذَ كُلَّ ما يحدُثُ لنا، حتَّى عندَما لا يَكُونُ أيُّ خَيرٍ في المشاكِل المأساوِيَّة التي تُصيبُنا، وبإمكانِهِ أن يجعَلَ هذه المشاكِل تَجِدُ مكاناً خاصَّاً في هيكَليَّةِ حياتِنا يعمَلُ لِخَيرِنا.
هذا يطرَحُ سُؤالاً آخَر. خَيرُ مَنْ يُشَارُ إليهِ هُنا – خَيرُنا نحنُ، أم خَيرُ الله؟ يُجابُ على هذا السُّؤال من خلالِ الشُّرُوط التي يرتَكِزُ عليها هذا الوَعد. فإن كُنَّا نُحِبُّ اللهَ، وإن كانت شهوَةُ قُلُوبِنا هي أن نَكُونَ مَدعُوِّينَ بِحَسَبِ وعدِهِ، فالخَيرُ الوحيد الذي يهُمُّنا هُوَ خَيرُ الله. فَفِي كُلِّ مرَّةٍ نُواجِهُ المشاكِلَ المَأساوِيَّة، جوابُنا المُباشَر ينبَغي أن يَكُون: "كيفَ يُمكِنُ لهذه المأساة أن تَصُبَّ لِخَيرَ ومَجدِ الله؟"
نَصَحَ المُرَنِّمُ بسُؤالٍ مُشابِه عندما نُعانِي منَ الألَم. كتبَ يَقُول: "إذا إنقَلَبَتِ الأعمِدَة، فالصِّدِّيق ماذا يفعَلُ؟" بناءً على دراساتِ عُلماءِ اللُّغَةِ العِبريَّة، الترجمَةُ الحَرفِيَّة للكلماتِ العِبريَّة التي دَوَّنَها المرَنِّمُ العِبرِيُّ القَديم هي: "عندما تتحطَّمُ أساساتُ حياتِنا، ماذا يكُونُ البَّارُّ الصِّديقُ [بمعنى الله] يفعَلُ؟" (مزمُور 11: 3)
قبلَ أن نُطَبِّقَ هذا الوعد الرَّائِع بأنَّ كُلَّ الاشياء تعمَلُ معاً لِلخَير، علينا بِبَساطَةٍ أن نفهَمَ ونُطَبِّقَ هذهِ الشُّرُوط المُسبَقَة. وإن لم نفعَلْ ذلكَ لن نفهَمَ ولن نقدُرَ قيمَةَ هذا العدد.
- عدد الزيارات: 6199