الفصلُ العاشِر نُبُوَّةُ دانِيال "مُؤمِنونَ مُقابِل بابِليِّين"
دانيال هوَ النبيُّ الرابِع بينَ ما يُسمَّى "بالأنبياءِ الكِبار"، والثالِثُ بينَ ما يُسمَّى بأنبياءِ السبي. عندما نلتَقي بدانيال، عندَ سُقوطِ أورشليم للمرَّةِ الأولى، كانَ دانيالُ في الرابعةِ عشر من عُمرِه. فلم يحدُث آنذاك إجلاءٌ كبيرٌ للشعبِ إلى بابِل، ولكن أُخِذَت نُخبَةٌ قليلةٌ من الأشرافِ والنسلِ الملكي إلى بابل، أمثال دانيال وأصدِقائه. وكأنَّ نبوخذنصَّر أمرَ بالقول، "أُريدُ الشُّبَّانَ النُّبَلاءَ والأُمَراء والحُكماء لكي يأتُوا ويتثقَّفُوا في جامِعاتِي." لقد إستخدمَ اللهُ قرارَ حاكمٍ وثنيّ لكي يُؤسِّسَ ستراتيجِيَّاً خدمةً في بابِل لِخَيرِ شعبِهِ، حتى عندما يحينُ وقتُ وُصولِ جماهير المسبيِّين، يكونُ لهُم تأثيرٌ في قصرِ نبوخذنصَّر.
نماذِجُ وتحذِيراتٌ
يُقسَمُ سفرُ دانيال الذي يتألَّفُ من إثني عشرَ إصحاحاً، إلى قِسمَين مُتَساوِيَين. الإصحاحاتُ الستَّةُ الأولى هي سردٌ تاريخيٌّ. أمَّا الإصحاحاتُ 7 إلى 12 فهي إعلاناتٌ نبويَّة. العددُ المِفتاحِيَّ لكُلِّ القِصَص التاريخيَّة في الكتابِ المقدَّس، والتي نجدُها في دانيال 1-6، هو عددٌ في العهدِ الجديد يقول، "فهذهِ الأُمور جميعُها أصابتهُم مِثالاً وكُتِبَت لإنذارِنا نحنُ الذينَ انتَهَت إلينا أواخِرُ الدُّهُور." (1كُورنثُوس 10: 11).
في العهدِ القديم، تجِدُ كُلاً من سلبيَّاتِ وإيجابِيَّاتِ الحياة الروحيَّة لمُعظَمِ أبناءِ شعبِ الله. ولكن هذا لا يَصِحُّ لا على يُوسُف الصِّدِّيق ولا على دانيال. كِلاهُما عاشا شبابَهُما وحياتَهما بأكمَلِها في حضارَةٍ مُعادِيَة، التي كانت العَرين السياسي للأمبراطُوريَّات العُظمَى. فدانيال ويُوسُف كانا الشخصيَّتَين الأكثر نقاوةً في كلمةِ الله. فبينما عاشَ يُوسُف كاليدِ اليُمنى لأحدِ فراعِنَة مِصر، عاشَ دانيالُ كُلَّ فترةِ شبابِهِ في الحضارَةِ البابِليَّة المُعادِيَة.
عاشَ دانيالُ حتى إلى ما بعدِ موتِ نبوخذنصَّر وإبنِه بِلطشاصَّر. لقد عاشَ ليشهَدَ سُقوطَ الأمبراطُوريَّة البابِليَّة بِيَدِ أمبراطُوريَّةِ الفُرُس. وهكذا عاش طِوالَ السبعينَ سنةً في السبي البابِليّ. وكانَ قد أصبَحَ عجوزاً أضعفَ من أن يقوى على العودةِ عندما بدأت حملاتُ الرجوع من السبي البابِلي إلى أورشليم، ولكنَّهُ شهِدَ الرجُوعَ من السبي.
لقد كانَ دورُ دانيال ومُهمَّتهُ أن يُريَ شعبَ يهوذا كيفَ يُمكِنُهُم أن يتأقلَموا معَ السبي، حتَّى عندما كانَ لا يزالُ في الرابعةِ عشرة من عمره. لقد تأقلمَ دانيالُ معَ السبي بطريقةٍ لافتةٍ للنظَر، ولِهذا يُعتَبَرُ نمُوذَجاً رائِعاً لِشعبِ يهُوَّذا ولنا نحنُ اليوم.
تَصمِيمُ دانِيال
كتبَ بُولُس يقولُ، "ولا تُشاكِلوا هذا الدهر بل تَغَيَّروا عن شكلِكُم بتجديدِ أذهانِكُم" ( رُومية 12: 2). مُمكِن أن نُفسِّرَ هذا العدد كالتالي: "لا تسمَحُوا للعالم بالضغطِ عليكُم وتشكِيلِكُم في قوالِبِهِ، بل دَعُوا الله يُجدِّدُ أذهانَكُم من الداخِل." كانَ هذا حضٌّ للمُؤمِنينَ في العهدِ الجديد، ولكنَّ الحقيقَةَ ذاتَها إنطَبَقَت على دانيال في بابِل.
لم يتطلَّب دانيال الكثير من الوقت ليعرِفَ أنَّ الضغطَ مَوضُوعٌ عليهِ لكي يُشاكِلَ الحضارَةَ البابِليَّة. لقد تمَّ إختِيارُهُ وتسجيلُهُ في جامِعةِ بابل، وتمَّ تدريبُهُ على أيدي حُكَماءِ نبوخذنصَّر ليُصبِحَ يوماً ما واحداً من حُكماءِ بابِل. وأوَّلُ أمرٍ واجَهَهُ دانيالُ كانَ الطعام البابِلي الغَني. ولربَّما إحتَوى الطعامُ على لحمِ الخَنـزير وكُل تلكَ الأشياء غير الطاهِرة التي توجَّبَ على اليهودي أن يمتَنِعَ عن أكلِها. وهكذا نقرأُ، "فجعلَ دانيالُ في قَلبِهِ أنَّهُ لا يتنجَّسُ بأطايِبِ المَلِك ولا بِخَمرِ مشروبِه." (دانيال 1: 8).
إسمُ دانيال يعني "اللهُ قاضِيَّ." لقد مشى دانيالُ أمامَ الله طالِباً منهُ أن يحكُمَ على كُلِّ خُطوةٍ يأتي بها. وكانَ لأصدِقائِهِ الثلاثة أسماءٌ ذات معانٍ رُوحيَّة. فمِيشائيل يعني "من مِثلُ الله." وحنَنيا يعني "اللهُ هو المُفضَّل." وعَزَريا يعني "ساعَدَهُ اللهُ أو يهوة."
فالآن أوَّل ما فعلَهُ البابِليُّون هو أنَّهُم غَيَّروا أسماءَ هؤلاء الشُّبَّان العِبرانيين. فَغَيَّروا إسمَ دانيال إلى بِلطشاصَّر، الذي يعني "لِيَحمِي بِلْ حياتَهُ." ولقد كانَ بِل أو بعل إلهاً وَثَنِيّاً بابِليَّاً. كانَ البابِليُّون يُحاوِلونَ أن يجعلوا دانيال يُؤمِن بأنَّهُ أصبَحَ تحتَ حِمايةِ إلهٍ وثني. وإسمُ ميشائيل تغيَّرَ إلى مِيشَخ، الذي هو مَردُوخ في البابِليَّة. وكانَ مردُوخ أيضاً إلهاً وثنياً بابِلياً. وحَنَنيا تغيّرَ اسمُهُ إلى شَدرَخ، الذي هو إسمُ الإله القمر في بابل. وتغيَّرَ اسمُ عزَريا إلى عبدَنَغو، الذي كانَ يعني "خادمَ إله الحِكمة البابِليّ." (دانِيال 1: 7).
كانَ نبوخذنصَّر يقولُ لهؤلاء الشُّبَّان الأربعة، "سوفَ نجعلُ منكُم بابِليِّين." ولكن وقفَ هؤلاء الشُّبَّان اليافِعين أمامَ نبوخذنصَّر وأمامَ أمبراطوريَّة بابِل وقالوا، "لن تقدِروا أن تجعلوا منَّا بابِليِّين. بل نحنُ سنجعلُ منكُم مُؤمِنين."
يُخبِرنا الإصحاحُ الرابِعُ من دانيال أنَّ نبوخذنصَّر، ذلكَ النابِغة الذي وضعَ أُسُسَ الأمبراطوريَّة البابِليَّة، إعتَرَفَ بالإيمانِ بالله. يُعتَبَرُ هذا الإصحاحُ من أروعِ إصحاحاتِ الكتابِ المُقدَّس. فما الذي أوصَلَ نبوخذنصَّر إلى الإعتِرافِ بالإيمانِ بالله؟ لقد بدأَ كُلُّ شيء عندما رفضَ دانيالُ أن يتنجَّسَ بأطايبِ مَلِك بابِل الغنيَّة والنَّجِسة.
تَفسيرُ الأحلام
في وقتٍ مُبَكِّرٍ جِدَّاً من سبي دانيال ورِفاقِه، واجهوا تَحَدِّياً آخر. لقد حَلِمَ نبوخذنصَّر حُلماً. ولكنَّ هذا الحُلم أصابهُ بالإضطراب. فدعا حُكَماءَهُ ومُنجِّميه وسحرته وقالَ لهُم، " أخبِرُوني أولاً بما حَلِمتُ ثُمَّ فسِّروا الحُلمَ لي."
وبالطبعِ كانَ هذا مُشكِلةً كبيرةً لحُكَماءِ بابِل. قد لا يكونُ من الصعبِ جداً تفسيرَ الأحلام، ولكن القضِيَّة تبقى عمَّا إذا كانَ التفسيرُ صحيحاً. هذا ما كانَ نبوخذنصَّر يُواجِهُهُ. وعندما وضعَ نبوخذنصَّر هذا التحدِّي أمامَ حُكَمائه، ذُهِلُوا وأُصيبُوا بالهَلَع. فعندما يطلُبُ منكَ مَلِكٌ مِثل نبُوخذنَصَّر أن تعمَلَ شيئاً، عليكَ بعملِهِ وإلا جلبتَ على نفسكَ الويلَ والهَول.
فقالوا لبنوخذنصَّر، "ليسَ على الأرضِ إنسانٌ يستَطيعُ أن يُبَيِّنَ أمرَ المَلِك... وليسَ آخر يُبيِّنُهُ قُدَّامَ الملك غير الآلِهة الذين ليسَت سُكناهُم معَ البَشَر" (دانيال 2: 10، 11). فأثارَ جوابُهُم هذا غيظَ نبُوخذنصَّر، فأمرَ بقتلِ كُلِّ حُكماءِ بابِل. وكانَ هذا يشمَلُ دانيال وأصدِقائهِ لأنَّهُم أُدخِلوا الجامِعة وكانوا تلامِذةَ حُكَماءِ بابِل.
وعندما وصلَ الجلادونَ لقتلِهِم، تكلّمَ دانيالُ بِحِكمةٍ ولياقة، وسأل، "لماذا اشتدَّ أمرُ الملِكِ إلى هذا الحدّ؟" فأجابَ الجلادُ، "لقد وقعَ خِلافٌ بينَ الملِك والحُكماء. قالَ الحُكماءُ أنَّ الآلِهة لا تسكُنُ في النَّاس، ولذلكَ لن يستطيعوا أن يُخبِروا المَلِكَ بما حَلمَ."
فقالَ دانيالُ ما معناهُ، "لقد أخطأ الحُكماءُ لأنَّ اللهَ يحيا في البشرِ." فذهبَ دانيالُ لرُؤيَةِ الملك، وطلبَ منهُ أن يمنحَهُ بعضَ الوقت لكَي يُخبِرَ الملكَ بالحُلمِ وبِتفسيرِه. ثُمَّ أخبَرَ دانيال أصدِقاءَهُ الثلاثة بما فعل، فبدأوا جميعُهم يُصلُّون. وفي تِلكَ الليلة، وبينما هُم يُصلُّون أعلنَ اللهُ بِرُؤيا عجائِبيَّة لِدانيال حُلمَ نبُوخذنَصَّر، وكذلكَ أعلنَ لهُ التفسير.
فذهبَ دانيالُ إلى نبُوخذنَصَّر، فقالَ له، "أيُّها الشاب، لقد قِيلَ لي أنَّكَ أنتَ من ستُخبِرُني بالحُلم وبِتفسيرِه." فأجابَهُ دانيال، "اللهُ وحدَهُ يستطيعُ أن يفعلَ ما طلبتَ أنتَ من حُكمائِكَ أن يفعلوه، أيُّها الملك. بهذا أخطأَ حُكَماؤُك. فهذا الإلهُ الساكِنُ في السماوات، والذي يحيا أيضاً فيَّ، هو أخبَرني بما حلِمتَهُ وأخبَرني بالتفسير." وعندما أخبَرَ دانيالُ نبُوخذنصَّر بِما حَلِمَ، ومن ثمَّ فسَّرَ لهُ الحُلم، خَرَّ نبوخذنصَّرُ على وجهِهِ أمامَ دانيال، ومن ذلكَ اليوم فصاعِداً أصبحَ يُشيرُ إلى دانيال "بالرجُل الذي يحيا فيهِ رُوحُ الله." (إصحاح 2)
إن تفسيرَ دانيال لحُلمِ الملك هو إحدى المُعجِزات الخمس في سفرِ دانيال، التي تُثبِّتُ أنَّ هُناكَ ما هُوَ خارِقٌ للطبيعة في هذا. والمُعجِزات الأربَع هي: إنقاذ أصدِقاء دانيال الثلاثة من الأتونِ المُتَّقِد (الإصحاح 3)، وإعتراف نبوخذنصَّر بالإيمان بالله (الإصحاح 4)، والكتابَةُ على الحائطِ (الإصحاح 5)، وإنقاذ دانيال من جُبِّ الأُسود (الإصحاح 6).
من خِلالِ هذه المُعجزات أظهَرَ دانيال ورِفاقُهُ أيَّ نوعٍ من الإيمان يستطيعُ أن يتحمَّلَ العيش في الصُّعوبات. لقد كانَ لديهم الإيمانُ الذي يَثِقُ بقُوَّةِ الله الخارِقة للطبيعة بِشكلٍ مُطلَق، ولقد آمنُوا بقُوَّةِ الصلاة، وآمنُوا بالعنايةِ الإلهيَّة التي وضعتُهم في بابِل.
هل تُواجِهُكَ مشاكِل وضُغوطات لا تُتَحاشَى ولا تُتَجنَّب، مما جعلَك تقِفُ أمامَ المُستَحيل؟ إن الأزمات التي واجَهَها دانيال وأصِدقاؤُهُ في بابِل هي أزماتٌ لا مَفرَّ منها ولا تُطاق، ولقد وضعتُهم أمامَ المُستَحيل. ولقد أظهَرُوا لنا كيفَ نعيشُ معَ هذا النَّوع من الأزمات، تماماً كما عاشُوا هُم أزمتَهُم في بابِل.
بينما تتأمَّلُ في هذه المُعجِزات المُدوَّنَة في سفرِ دانيال، إسألْ نفسَكَ هذه الأسئِلة: هل تُؤمِنُ مُطلَقاً بقوَّة الله الخارِقة للطبيعة؟ وهل تُؤمِنُ بِقُوَّةِ الصلاة الخارِقة للطبيعة؟ وهل تُؤمِنُ بالعنايةِ الإلهية والمقاصد الإلهية التي وضعتْكَ حيثُ أنتَ لمجدِ الله؟ هل تُؤمِنُ بهذه الأُمُور بشكلٍ مُطلَق؟
- عدد الزيارات: 9293