Skip to main content

العلاقات الاجتماعية في ضوء الإنجيل

من أهم الأمور التي تجابهها البشرية اليوم هو موضوع العلاقات الاجتماعية. فمع أننا كثيراً ما ننشغل في موضوع العلاقات بين الأمم والشعوب والبلدان وفي أمور الحرب والسلام, إلا أنه لا يمكننا أن نتجاهل موضوع العلاقات الاجتماعية في المجتمع البشري الواحد. نبدأ بالأسرة البشرية التي تشكّل الخلية الأساسية في المجتمع. نلاحظ في هذا الصدد أن ضغوطاً قوية جداً برزت في أيامنا هذه وهي تؤثر بصورة كبيرة على حياة العائلة في كل مكان. فنحن لا نعيش بمعزل عن العالم الكبير الذي يحيط بنا فطرق المواصلات والاتصال العصرية قد ألغت المسافات التي كانت تفصل بين الناس وصار عالمنا وكأنه مدينة كبيرة هائلة الحجم. لقد كثرت الشرور التي تهاجم صرح العائلة ولم تعد حياة الأسرة بسيطة كما كانت في الماضي, بل صارت معقّدة لدرجة كبيرة. وهذا بدوره أدّى إلى بروز مشاكل مستعصية لم نجابهها في الماضي.

كيف نسيّر أمور العائلة البشرية في السنين الأخيرة من القرن العشرين؟ وعلى أي أساس؟ هل نأخذ بآراء البشر أم ننصاع إلى كلمة الله؟ وكم علينا أن نشكر الله لأنه لم يتركنا على شأننا بل أعطانا تعليمات هامة في كتابه المقدس لتنظيم حياتنا الاجتماعية. وهكذا نقرأ عن علاقة الزوج بزوجته والوالدين بأولادهم والأسياد بمخدوميهم. ومن المهم جداً أن نتذكر أن الرسول بولس بنى جميع هذه التعليمات على أساس عقائدي متين ألا وهو شخص السيد المسيح وعمله الفدائي والخلاصي الذي أتمّه لصالح البشرية على الصليب. لم يعترف الرسول بأي نظام أخلاقي منفصل عن العقيدة الصحيحة النابعة من الوحي الإلهي.

ابتدأ بولس كلامه قائلاً:

كونوا خاضعين بعضكم لبعض في مخافة المسيح. أيتها النساء, اخضعن لرجالكنّ كما للرب. لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً هو رأس الكنيسة وهو مخلّص الجسد. ولكن كما تخضع الكنيسة للمسيح كذلك تخضع النساء أيضاً لرجالهنّ في كل شيء. أيها الرجال, أحبّوا نساءكم كما أحبّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها, ليقدّسها وقد طهّرها بغسل الماء بالكلمة, ليقدّم الكنيسة لنفسه, مجيدة لا دنس فيها ولا غضن ولاشيء من مثل ذلك بل لكي تكون مقدّسة ولا عيب فيها. فكذلك يجب على الرجال أن يحبّوا نساءهم كأجسادهم. من يحبّ إمرأته يحبّ نفسه. فإنه لم يبغض أحد جسده قط, بل يغذّيه ويعزّه, كما يعامل المسيح أيضاً الكنيسة, لأننا أعضاء جسده (من لحمه ومن عظامه), من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمّه ويلزم إمرأته, ويصير الاثنان جسداً واحداً. إن هذا السرّ عظيم ولكنني أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة. وأما أنتم الأفراد, فليحبّ كل واحد منكم إمرأته كنفسه, وأما المرأة فلتحترم رجلها.

المبدأ الأساسي الذي ذكره الرسول في مقدمة كلامه عن العلاقات الاجتماعية هو الخضوع المتبادل في مخافة المسيح. وهذا بعكس ما يجري في العالم حيث نلاحظ أن الناس يسيرون على مبدأ التسلّط والهيمنة على الآخرين. يخضع المؤمنون لبعضهم البعض في مخافة المسيح أي في احترامهم الكلّي لمن افتداهم بدمه الزكي الذي سفك على الصليب. لم يخلّصنا المسيح من براثن الشر والمعصية لنتحكّم بالناس ونسود عليهم ونستعبدهم. نظهر مخافتنا واحترامنا للمسيح في علاقاتنا الاجتماعية أي في معترك الحياة اليومية.

لا يعني هذا المبدأ الأساسي أن المسيح لم يترك لنا نظاماً معيناً وترتيباً منطقياً لتسيير أمور حياتنا الاجتماعية. وهكذا لخّص الرسول واجب المرأة تجاه رجلها بكلمتين: الخضوع والاحترام, وواجب الرجل تجاه زوجته بكلمة المحبّة.

التعليم الأساسي هو أن الله هو الذي وضع هذا الترتيب منذ فجر الخليقة أي أن يكون الرجل رأس المرأة. لا يعني هذا أن الرجل يعمل ما يشاء أو كما يحلو له في علاقاته الزوجية بل رئاسته مبنية على تنظيم إلهي المصدر. وعلاوة على النظام الوارد في خليقة الإنسان جاء الرسول بمثال آخر لواجب خضوع أو إطاعة المرأة لزوجها: أيتها النساء, اخضعن لرجالكنّ كما للرب, لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح أيضاً هو رأس الكنيسة.

وما هو الترتيب الإلهي بخصوص موقف الرجل من زوجته؟ فإن كان ينتظر من المرأة أن تخضع لزوجها, فما هي الصفة الأساسية التي يتّزن بها الرجل المختبر للخلاص الذي أتمّه المسيح؟ جواب الرسول هو: أيها الرجال, أحبّوا نساءكم كما أحب المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها. يا له من أمر عظيم! فكما أحب المسيح الكنيسة أي جماعة الإيمان في كل زمان ومكان محبّة لا حدود لها, محبّة وصلت إلى ذروتها عندما مات عن الكنيسة موتاً كفّاريّاً ونيابيّاً, هكذا ينتظر من الرجل أن يحبّ زوجته محبّة لا حدود لها وأن يكون مستعدّاً- فيما إذا اقتضى الأمر- أن يموت عنها.

أليس من الطبيعي للرجل بأن يحبّ إمرأته كما يحبّ نفسه؟ ألا يترك الرجل أباه وأمه ويلزم إمرأته ويصيران جسداً واحداً ويكونان عائلة واحدة؟ وخلاصة الأمر أنه كما يعامل المسيح كنيسته معاملة مبنية عل أساس المحبّة التامة هكذا على كل رجل أن يحبّ إمرأته كنفسه وعلى المرأة أن تحترم زوجها. على هذا الأساس المتين والقويم توضع دعائم المجتمع البشري السليم.

وعندما يبارك الله القدير زواج المؤمنين ويمنّ عليهم بالأولاد, ما هو أساس العلاقة بين الوالدين وأولادهم؟ جواب الرسول بولس هو:

أيها الأولاد, أطيعوا والديكم في الرب, فإن هذا حقّ. "أكرم أباك وأمك" وهذه هي أول وصيّة بالوعد, "لكي يكون لك خير ويطول عمرك على الأرض". وأنتم أيها الآباء, لا تغيظوا أولادكم, بل ربّوهم في تأديب الرب وإنذاره.

الطاعة هي المبدأ الأساسي المنظّم لعلاقة الأولاد بوالديهم. ليس هذا من صنع البشر بل إنه مبدأ وضعه الله في صلب الحياة البشرية ثم أعاد ذكره بطريقة هامة في الوصايا العشر التي أعطاها لعبده وكليمه موسى النبي. فبينما نظمّت الوصايا الأربعة الأولى علاقة المؤمن بربه وفاديه, جاءت الوصايا الستة الباقية لتنظيم العلاقات الاجتماعية. وكانت أولاها: أكرم أباك وأمك والتي اقترنت بوعد إلهي هام: لكي يكون لك خير ويطول عمرك على الأرض.

أيها الأولاد! يا من تقرأون هذه الكلمات, هل أنتم مطيعون لوالديكم أم هل تعصون على أوامرهم وتعاليمهم؟ هل تظنون بأن بركة الرب ستكون من نصيبكم إن كنتم تضربون بوصية الله عرض الحائط؟

ولم يكتف الرسول بالكلام عن موقف الأولاد من والديهم بل ناشد الوالدين بألا يغيظوا أولادهم أي بألا يبطشوا بهم ويعاملوهم معاملة قاسية بل في تأديب الرب وإنذاره بمعنى أن الوالدين يمثّلون الله ضمن عائلتهم وإن ما يطلبونه من أولادهم يجب أن يكون مطابقاً للمشيئة الإلهية.

وأخيراً جاء الرسول إلى البحث في العلاقات التي كانت تسود الأسياد والذين كانوا يعملون لهم في الحياة الاقتصادية. وهنا لا بد لنا من القول أن المحيط الذي كان يحيا فيه الرسول كان يمارس نظام الرق أو العبودية. وهكذا واجه بولس الأمر الواقع وأعطى تعليمات تنظّم الأمور بشكل عملي ولكن من منظور مبني على الوصيّة الإلهية.

أيها العبيد, أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة بقلوب مخلصة كما للمسيح, لا بخدمة العين كمن يرضي الناس, بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب, خادمين بنيّة صالحة كما للرب, ليس للناس. فأنتم تعلمون أن مهما عمل كل واحد من الخير اصنعوا لهم هذا بعينه, تاركين التهديد, عالمين أن سيّدهم وسيّدكم هو في السماوات وليس عنده محاباة وجوه.

وكم علينا أن نشكر الله المحب والشفوق الذي وضع حداً لنظام الرق والعبودية في عالمنا هذا. ولا تزال تعليمات الرسول التي وجّهت أولاً للأسياد والعبيد, لا تزال هامة إلى يومنا هذا. فمن واجب المؤمنين والذين يعملون لآخرين كمستخدمين أن يقوموا بتأدية أعمالهم ليس وكأنهم يعملون لبني البشر فحسب, بل كعبيد للمسيح وكخدام له. يطلب الآخرون من القطاع الخاص أو العام أن يؤدّي وظيفته بأمانة وإخلاص وألا يمتنع عن اختلاس الأموال فحسب بل عن تبذير وقته أثناء العمل أيضاً. فمن استهان تأدية وظيفته يكون مختلساً وسارقاً وإن لم يخفِ مالاً في جيبه!

وكم كانت هناك واجبات متبادلة بين الوالدين وأولادهم هكذا أيضاً ينتظر من المستخدمين بأن يعملوا بجد ونشاط وكأنهم عاملون للمسيح. ويجدر بالأسياد وأرباب العمل بأن يعاملوا مستخدميهم بكل عدل ولطف وأن يدفعوا أجوراً عادلة عالمين أن سيّد الأسياد والمستخدمين هو واحد في السماوات وليس عنده محاباة وجوه. ساعدنا الله للسير على الطريق الذي رسمه لنا بخصوص العلاقات الاجتماعية لنتغلّب على الكثير من مشكلات عالمنا.

  • عدد الزيارات: 11602