Skip to main content

الفصل 8

وعند وصولهم إلى الحقل المقدس, اصطفّ الأولاد عند طرف الأشجار, وقامت النساء بمساعدتهم على ذلك قبل أن ذَهَبنَ إلى العمل. ولكن حدث أن فتاة صغيرة عثرت, وهي تسرع إلى مكانها, بجذر شجرة وسقطت بعنف إلى الأرض. فطار المشعل من يدها واستقر وسط كومة من أوراق الشجر الميتة المتناثرة في أرض الغابة. وفي ثوان معدودات اشتعلت النار في الغابة. وقد ساعدت على ذلك قوة الرياح التي جعلت النار تنتقل من شجرة إلى أخرى. ولم يعد بالإمكان حصر الحريق المنتشر بسرعة هائلة, مما عرّض حياة النساء والأولاد للخطر.

ولما رأى تالوس وأورفيوس ما حصل هرعا إلى الحقل المقدس الذي كان قد أصبح محاطاً بالنيران. وفي الوسط كان الجمهور يرتجف هلعاً ولا يتجاسر على التحرك من مكانه.

ونادى تالوس وأورفيوس وهو يلهث بجانبه: "تلك هي الفتاة التي كلّمتنا. وهي تستطيع أن تعيننا على إخبار الجمهور عما يجب أن يفعل. والحمد لله". وصاح بالفتاة قائلاً: "أسرعي , قولي لهم أن يكسروا قصباً جافاً. انزلوا في الماء هناك واغطسوا تحت سطحه وتنشّقوا بواسطة أَسْوُقِ القصب".

وعلى الرغم من هلعهم, فعل الأولاد كما قيل لهم. وأراهم تالوس كيفية استعمال القصب.ولهذا كان الجميع مختبئين تحت سطح البركة في أثناء عبور لهيب النار.

وحدث أن الريح التي هبت وأشعلت الحريق حملت معها غيوماً كثيفة سوداء وما هي حتى هبّت عاصفة فوق الغابة. وهطل المطر فأطفأ النار واستطاعت الجماعة الخائفة أن تغادر المياه بعد وقت قصير. غير أنهم ظلوا يرتجفون طيلة الليل تحت المطر البارد. وما إن بزغ الفجر حتى أسرع الجميع عائدين إلى القرية... ليجدوا النيران قد أتت عليها. وما إن رأى الأهل الواقفون على الأنقاض أولادهم حتى هتفوا فرحين :

"أولادنا, سالمون. لقد تحوّل حزننا إلى فرح".

وبينما كانوا يقتربون تقدم منهم الزعيم وحيّاهم بلهجة غاضبة, وقال ساخراً: كيف قمت أيتها الفتاة, أنت وهذان الرومانيان, بإخراج الأولاد من الغابة؟ أجيبيني".

أجابته الأمَة الرومانية: "لقد أنقذا الأولاد أيها الزعيم. لولاهما لمات الجميع". ولما قالت هذا أخذت تكلم الزعيم بجرأة فيما أخذ القرويون يتجمهرون للاستماع إلى الحديث.

وتابعت قولها: "إن سيدي غرث قد نقل إليك كلام هذا الروماني خطأ. ولست أعرف سبب ذلك".

فرد الزعيم الغاضب: "ماذا؟ أتتجاسرين, وأنت أمَة, أن تتهمي سيدك". لكن شيئاً لم يثنها عن الكلام. فأضافت:

"في حين يتاجر سيدي بالكهرمان للحصول على الذهب الروماني ويتآمر ليصير زعيماً مكانك حين تُقتل في الهجوم على هؤلاء الرومان أنفسهم, فإن هذين الرجلين خاطرا بحياتهما لإنقاذ الأولاد".

"وحين أرسلتَ رسلاً لدعوة القبائل للاجتماع معاً والهجوم على رومية, أرسل سيدي آخرين, بعلمي, قائلاً لهم أن يدعوك تمتحن قوة الرومان لوحدك".

أصغى الزعيم صامتاً إذ كانت الفتاة تتحدث عن تآمر غرث على حياته. ثم طلب إلى تالوس أن يتكلم بالتفصيل عن ملكوت الله الحقيقي وَوَعْدِ المسيح بالخلاص إلى الذين يثقون به. وهذه المرة نقلت الأمة كلامه بصدق وإخلاص, وأخيراً أجاب الزعيم الفاندالي بعد تفكير:

"يبدو كلامك صحيحاً أيها الروماني. فلقد فهمت الكثير مما كان يزعجني من قبل. دعني أفكر بما قلتَ.. والآن عودوا يا شعبي إلى بناء منازلكم من جديد".

ومرّت الأيام والقرويون يعيدون بناء بيوتهم ويزيلون الأثلب والركام. ولَكَم تعبوا في قطع الأخشاب وجرّها إلى مواقع البناء وترتيبها في أماكنها. ولكن الرجال وضعوا قلبهم في العمل ولم يبالوا بالتعب. ومدّ تالوس وأورفيوس أيديهما للعمل قدر المستطاع, وسرعان ما تعلّما التكلّم بلغة الناس اللذين عملا معهم. وعند المساء, بعد الانتهاء من العمل اليومي, كان تالوس يجمع عدداً من السكان حول النار ويكلمهم عن يسوع. أما الزعيم فقد حرر تلك الفتاة المسبية وأطلق لها الحرية لتقوم بترجمة كلام تالوس على أكمل وجه. وفي أثناء العمل كان الحديث يدور في الغالب حول كلام تالوس عن يسوع المسيح رب الخليقة وسيّدها.

قال أحدهم ذات يوم وهو يقطّع الأخشاب: "إن الروماني (أي تالوس) يعيد كل الفضل في إنقاذ أولادنا من النار إلى إلهه".

فسأله جاره وهو يكسو سطح منزله بالقش: "كثيرون قد أخذوا في هجر آلهتهم القديمة ملتجئين إلى إلهه. والكهنة مستاءون من ذلك. فما رأيك يا سرفوس؟"

أجاب سرفوس: "ما يقوله الرومان حق يا ثورين.. يجب أني أيضاً أسلّم حياتي ليسوع المسيح".

في تلك اللحظة بالذات كان رئيس الكهنة يناقش الوضع مع معاونيه. قال لهم بلهجة حازمة جازمة: "هذا الروماني يُبعد الناس عن آلهتنا, وعلينا أن نضع له حداً".

فأيّده زملاؤه وواحد منهم قال: "هه, هذا سهل أيها الكاهن الأقدس".

"اترك الأمر لنا" قال آخر, ثم انصرف الجميع.

في تلك الليلة انسلت الأمَة المتحررة إلى المأوى الذي كان تالوس وأورفيوس نائمين فيه, وقالت لهما: "تالوس! أورفيوس! استيقظا بسرعة" ثم هزّت تالوس بقوة وهي تقول: "الكهنة آتون ليقتلوك! أسرع!".

فهبّا من النوم بسرعة وجمعا أغراضهما وهرعا إلى النهر حيث دلّتهما الفتاة على قارب.

واهتماماً بنجاتها أكثر منه بنجاة نفسه سألها تالوس: "ألست أنت آتية أيضاً؟".

فتساءل أورفيوس: "ألن يشكّوا في أمر مساعدتك لنا؟ فلماذا لا تأتين معنا؟".

فأجابتهما بثقة ويقين: "يعلم الكهنة أني مؤمنة مسيحية ولكنهم لا يستطيعون النَيل مني. إني أعتني بالأولاد ولذلك أنا في أمان. ومن الضروري أن ترجعا يوماً لتكرزا بالإنجيل مرة أخرى. والآن انطلقا قبل فوات الفرصة".

ولما شقّا طريقهما عبر النهر تحت جنح الظلام قال تالوس لأورفيوس: "لا أحب الهرب والابتعاد عن أولئك الذين أصبحوا على أبواب الإيمان بيسوع".

قال أورفيوس مصرّاً: "أنت لست هارباً, بل تؤجل عملك إلى وقت أنسب".

وعلى نور القمر الباهت استطاعا أن يوجّها القارب نحو الشاطئ الذي لم يكن بعيداً عن القلعة الرومانية. ولكنهما شوهدا لدى اقترابهما من الضفة الأخرى. وحالما وطئت أقدامهما أرض الشاطئ تقدم منهما اثنان من الحرس الروماني وأمسكاهما واقتاداهما فوراً إلى القلعة دون أي سؤال. وهناك وقفا وجهاً لوجه أمام ضابط ساخط فظّ اندفع يقول لهما بغضب:

"أهذا أنتما أيضاً؟ لقد سبقت وقلت لكمل ما سأفعله بكما إن عدتما".

فبادره تالوس: "أتينا لنحذركم من جاسوس...".

"تقصدون الفاندالي غرث, أليس كذلك؟ لقد ألقينا عليه القبض في الليلة الفائتة بعد أن نزل إلى البر ومعه حمل من الكهرمان. راقبناه مدة طويلة, ولا مجال له للتجسس علينا فيما بعد".

تغيّرت لهجة الضابط وأخذ يصغي إلى تالوس بانتباه وهو يروي ما جرى في قرية الفاندال. وأخيراً قال:

"لعلكما تعلّمتما درساً من هذا. وحسناً أن النار اندلعت وإلا كان علينا أن نحارب جيش الفاندال بها. ما عليكما إلا أن تشكرا إلهكما لأنه أنقذكما من ورطة حرجة وأخرجكما منها بسلام".

وهكذا غادر الاثنان الحصن وعادا إلى القرية التي كان وورث ولاني ينتظران فيها.

قال أورفيوس مبتهجاً: "إذاً انْتَهينا من أمر غرث, بل إن الضابط أعاد إليّ قيثارتي. لذلك سأغني لك أغنية عسكرية لأروّح عن نفسك في الطريق".

ولكن تالوس المستاء مما آلت إليه الأمور, قال بإلحاح: "ولكني ما زلت أشعر أنه كان من الأفضل أن أبقى وأعمل على هداية الفاندال إلى المسيح. يجب أن أعود إلى هناك سريعاً يا أورفيوس".

ولكن بالرغم من عدم رضاه, اقتنع تالوس أن كل ما حدث يقع ضمن عناية الله الذي يقدر وحده أن يفتح طريق الرجوع أمامه (أمام تالوس). فوصلا القرية وكانا جدّ سعيدين لرؤية رفيقيهما ثانية.

ولما عانق وورث تالوس بحرارة, قال متعجباً: "ها أنتما سالمان, وكنا على يقين من أن الله سيحفظكما".

وكم كان اجتماع أورفيوس بلاني مصدر فرح خاص, إذ بدا حبهما مزهراً. وفي وقت لاحق من ذلك المساء جلسا معاً مع بوران الدبّ الذي لأبدى سروره في حضرة أورفيوس!

وأخيراً غمغم أورفيوس بعد عناء: "كيف لي أن أطلب يدك للزواج, وهذا الدب يلحس ذقني؟".؟

أجابت لاني مغتبطة: "آه, إنه على علم بما تريد قوله وهو بعمله هذا يعلن موافقته".

أما وورث وتالوس فكانا يتحدثان عن الفاندال وعن خلاص يسوع المسيح. وهنا, قال الشيخ:

"لا تفشل يا تالوس. فأنت زرعت بذار الخلاص في قلوب الكثيرين من الفاندال. ولا بد أن يأتي البذار بثمر. ما عليك إلا أن تكون طويل الأناة كسيدك يسوع المسيح فتنتظر وقت الحصاد".

  • عدد الزيارات: 2350