Skip to main content

الفصل 6

في تلك الليلة- وبعد وليمة مشبعة- أخذ الشبان يروون قصة مغامرتهم لوالدي إرِك اللذين أصغيا بانتباه متعجبين من عملهم البطولي. وأخيراً هبّ أبو إرِك واقفاً على قدميه وتثاءب وهو يقول: "تأخرنا. غداً تكملون القصة". فأضافت أم إرِك: "خاصة في ما يتعلق بهذا المسيح الذي يتحدث عنه تالوس". وهكذا تفرّقوا لينال كل منهم قسطاً من النوم والراحة. ولما ذهب تالوس إلى غرفته جثا بجانب سريره وشكر الله ثانية على أعمال إنقاذه العجيبة. وصلى أيضاً بلجاجة لأجل الرجال الثلاثة الذين حاولوا قتله وسأل الله أن يسكب في قلوبهم محبة صفوحة, تلك المحبة التي مصدرها يسوع المسيح وحده.

على أن عدوّاً جديداً في القسم الآخر من البلدة كان يذرّ برأسه البشع في تلك الليلة. فلقد اجتمع معاً على نور شمعة ثلاثة كهنة دَرويديُّون يتهامسون سراً.

قال أحدهم: "استنطقت جميعهم ما عدا إرِك والشاب الروماني وهذا ما قالوه لي".

وقال الثاني والريبة تملأ نفسه: "وقالوا إن الروماني يعتقد أن إلهه المسيحي هو الذي أنقذهم. هم-م-م, قد يشكل خطراً علينا".

وقال الثالث: "لن نسمح بانتشار تلك الفكرة لئلا نفقد سيطرتنا على الشعب". وأضاف وهو يتلاعب بلحيته مفكراً: "ولكن ماذا نقدر أن نفعل؟".

في اليوم التالي كان اثنان من الكهنة نازلَين ظُهراً في الطريق إلى الغابة وإذا بحشد من الناس خارج أحد بيوت القرية يثير في نفسيهما الريبة والحيرة.

فقال أحدهما بتعجب: "انظر إلى هذا الجمهور أمام ذلك البيت".

فأضاف رفيقه وهما يقتربان بهدوء ليسمعا ما يُقال: "هناك يسكن أبَوا إرِك. ولا بد أن يكون الروماني هناك. يبدو انه وإرِك صديقان حميمان".

كان والد إرِك واقفاً عند مدخل بيته يومئ إلى الجمهور ويقول:

"ها قد أتيتم إذاً لترحبوا بابننا العائد؟ هذا لطف منكم! تفضلوا بالدخول, فهناك متسع للجميع".

"إنها مجرد حفلة استقبال للأصدقاء" قال الكاهن الملتحي فيما كان يمر وزميله الأصلع أمام البيت بشكل غير ملحوظ. ولكن ما إن اجتاز الكاهن الأصلع بالقرب من نافذة احد البيوت حتى تردّد لدى سماعه صوتاً آتياً من الداخل. وما سمعه لم يرق له إطلاقاً.

كان الصوت يقول: "هذا هو تالوس الروماني, صديق إرِك. وهو سيخبركم عن إله يفوق أرواح غابتنا محبة ولطفاً".

"هذا ما كنا نخشاه" قال الكاهن الملتحي بعبوس. ثم أضاف: "إنه ينكر وجود جميع الآلهة ما خلا إلهه. فإذا انتشرت هذه الفكرة...".

فدعاه الأصلع قائلاً: "هلّم نذهب فوراً ونطلع رئيس الكهنة على الأمر".

وكان إن هرع الكاهنان القلقان لمقابلة رئيسهما حاملَين هذه الأخبار الجديدة. فوجداه يجلس متأملاً بجانب النهر الجاري في الحقل المقدس حيث اعتاد الناس لقرون طوال أن يجتمعوا ويسجدوا لأرواح الغابة. وسرعان ما شرحا له الموقف حتى ازداد فجأة عمق تجاعيد جبينه وبدت عليه الشيخوخة بشكل لم يسبق له مثيل. فرفع عينيه ببطء وقال: "إذاً لقد ابتدأ الروماني بكرازته. فكيف لنا أن نوقفه؟".

بقي الكاهنان صامتين لبرهة وهما مستغرقان في التفكير. ثم فجأة تكلم الملتحي وقال بحزم:

"وجدتها! ادعُ كل فرد ليأتي إلى هنا صباحاً بعد يومين حاملاً معه قرابينه لآلهتنا تعبيراً عن فرحته بعودة رجالنا سالمين".

واقتناعاً منهم بالخطة التي قدمها الكاهن وافق ثلاثتهم على تنفيذها. وخلال اليومين التاليين سار مبوِّقو الكهنة في الشوارع يعلنون عن الخدمة التي ستقدم فيها القرابين. إلا أن الذين تحمسوا للفكرة لم يكونوا كُثُراً ولذلك ارتفعت الشتائم بغضب من أماكن كثيرة.

وفيما كان المبوّقون يمرون من أمام دكانه قال أحد الحدادين بعبوس: "تباً لهم! لماذا لا تساعدني آلهتهم على إتمام عملي".

وبينما كانت الاستعدادات تجري على قدم وساق انهمك الكهنة بحض الرجال الثلاثة الذين أنقذهم تالوس أملاً بأنهم إذا استطاعوا إقناع هؤلاء بسخافة ادعاءات تالوس فإنهم يفلحون في إزاحة تالوس من الطريق. قالوا لهم:

"... وأنتم لم تسمعوا من غير الروماني أن إلهه خلَّصكم, أليس كذلك؟".

أجاب واحد منهم بجبن: "هذا كله صحيح".

وتابعوا يقولون للرجال الثلاثة: "وقد سمعنا كيف هاجمتم بشجاعة أنتم والآخرون قوة كبيرة من السكيثيين. ولكن الروماني يقول أن إلهه- لا أنتم السلتيين- هو الذي انتصر".

وطبعاً سرعان ما اكتشف إرِك وتالوس أمر كلام الكهنة. وفي ذات صباح اندفع إرِك إلى غرفته وأخذ يكلم تالوس بحماسة عن تطورات الوضع. قال له:

"تالوس, عليك بالهرب فوراً. الدَرويديّون ينوون قتلك". ولكن تالوس لم يرد أن يسمع, فقال جازماً:

"لا أقدر يا إرِك. إن الكثيرين من أبناء شعبك يرجعون إلى المسيح ولا يمكنني أن أتركهم الآن".

وفي الصباح الباكر إذ كانت الشمس تشرق على الغابة, سُمع صوتُ بوقَين يملآ الجو واقتاد المبوّقان الموكب في طريق الغابة إلى الحقل المقدس. كان يوم الاحتفال قد جاء فسار الكهنة وراء المبوّقَين بألبستهم البرّاقة الفضفاضة وتبعهم حشد كبير من الناس حاملين في أيديهم الهدايا والقرابين التي شاءوا تقديمها إلى الآلهة. كل القرية تقريباً ظهرت في تلك المناسبة.

لدى وصولهم إلى الحقل اصطف الجمهور على ضفة النهر وكان جميعهم- واحد بعد الآخر- يسكبون تقدماتهم في الماء وهم يتلون صلاة خاصة.

ولما فرغ آخِر واحد منهم من تقديم قربانه طلب رئيس الكهنة إلى الجميع أن يصغوا, ثم خاطبهم بقوله:

"لقد حملتم معكم تقدماتكم إعراباً عن امتنانكم للأرواح التي تسكن أشجار السنديان ثم طرحتموها في النهر المقدس. وهذا ما يرضي الأرواح و...". وقبل أن يكمل كلامه قاطعه صوت خشن من وسط الجماعة. وإذا برجل يقول غاضباً:

"ولماذا نهتم بإرضاء أرواح لا وجود لها؟" وتبعه آخرون بصوت واحد: "عوض ذلك يجب أن نصلي إلى الله الواحد الحق".

ولما قوطع رئيس الكهنة بهذا الشكل استشاط غضباً فصاح:

"ماذا؟ من يجسر على إنكار الآلهة التي تقطن هذا الحقل المقدس؟". ثم خفف من حدّة لهجته وهو يقول مفكراً: "هه! ذلك هو عمل الروماني. وأنا أتهمه بالتجديف على آلهتنا القديمة! أيها الكهنة ألقوا القبض على الروماني. وليُقدَّم إلى المحاكمة لأنه سمَّم عقول الناس".

ساد التوتر الشديد وحصل انقسام في الآراء بين القرويين في ذلك اليوم وحصلت مشاجرات كثيرة. فقد ادَّعى كثيرون أن تالوس كان مخطئاً فيما أكَّد آخرون براءته. وقد دار الحديث التالي بين ثلاثة أفراد خارج ملحمة.

قال واحد منهم ذو لحية خطها الشيب ويعتمر قبعة عتيقة خضراء منحرفة على رأسه: "أنا كنت مع التجار, ولولا إله هذا الروماني ما كنَّا رجعنا إلى بيوتنا بسلام".

فردّ الثاني وهو ممتلئ ولابس مئزراً ملطخاً بالدم, وقال له:

"ولكنك قبل أن تغادر المكان قرّبت قرباناً لآلهة الغابة. أنا شاهدتك بنفسي".

وأضاف الثالث وهو رجل ذو شاربين غليظين: "وأنا أيضاً رأيتك. وأعتقد أن الآلهة حافظت عليك".

وهكذا استمر النقاش. وفي الوقت ذاته كانت إحدى الزوجات, في بيت آخر, تسكب لزوجها طعام الغداء. فأخبرها زوجها عما حدث في الحقل وعن قرار الكهنة بإلقاء القبض على تالوس.

أجابته الزوجة: "سمعت تالوس هذا يعظ عن الله فسرّني كلامه". وتابعت تقول: "وإلهه أكثر لطفاً وأسهل منالاً من الآلهة التي ربينا على عبادتها".

ولكن زوجها, الذي التهم طعامه بنهم, لم يتأثر بحديثها, بل قال:

"إن كان أسلافنا قد اكتفوا بالآلهة القديمة فأنا أيضاً أكتفي بها".

وفي منـزل آخر أيضاً تابع إرِك إلحاحه على تالوس لكي يهرب قبل إلقاء القبض عليه. ولكن تالوس لم يأت بحركة.

"لا يا إرِك, إن كنت اهرب فما ذلك إلاّ اعتراف بكوني مذنباً".

وأضاف أبو إرِك: "أإنه على حق يا إرِك. ومن الأفضل أن يبقى ويشهد لإلهه وسط هذه المشكلة. إن لم يبقَ فمن يؤمن بصحة ما كان يكرز به؟".

بعد الاحتفال بقي الكهنة الثلاثة في الحقل لبحث الموقف... قال رئيس الكهنة:

"لقد أثرّ هذا الروماني على عدد من الناس أكبر مما ظننّا"

فذكّره الكاهن الملتحي بقوله: "علينا أن ننتبه إلى كيفية معالجة قضيته. فالسلتيون حادّو الطبع".

"نعم, يجب ألا نمسكه ونجره في الشوارع كمجرم اعتيادي".

فقال الأصلع: "لا, قد يختطفه أتباعه منا فنؤلِّب علينا الشعب".

أجاب رئيس الكهنة ثانية بعد أن سكت هنيهة: "لدي خطة: نلقي عليه القبض قبيل صياح الديك في الصباح. إذ ذاك لا يكون أحد في الشوارع فنحتفظ به بعيداً عن الأنظار حتى ساعة المحاكمة".

بهذا انتهى البحث فتفرقوا وأخذوا يعدون العدة لإلقاء القبض على تالوس.

  • عدد الزيارات: 2396