الصنمية المعاصرة في عالمنا الفكري
في أكثر من مناسبة واحدة كنت قد ذكرت موضوع نهاية عزلتنا نحن ابناء الشرق، تلك العزلة التي عشناها لبضعة قرون والتي أخذت بأن تتلاشى تدريجيا منذ بدء القرن التاسع عشر. أما الآن ونحن نعيش في الثلث الأخير من القرن العشرين وقد كثرت وسائل المواصلات والاعلام والثقافة العامة من صحف ومجلات وإذاعات وتلفزة، أصبحنا اليوم جميعا نعيش وسط عالم صغير. طبعا هناك شعوب وأجناس عديدة، الا اننا لا نكون مغالين إذا قلنا اننا نشاهد بزوغ أو بروز ثقافة عالمية أو حضارة عالمية واحدة. وها أن الألوف من ابنائنا قد ذهبوا إلى مشارق الأرض ومغاربها طلبا للعلم في الجامعات والمدارس التقنية. وكم نشكر الله لأنه وهبنا وسائط عديدة في هذه الأيام لكي نتمكن – من الناحية العلمية والتقنية – من اللحاق بسير قافلة الحياة المعاصرة، ونحن نتضرع اليه تعالى اسمه لكي يبارك سائر أقطار الأمة العربية من الخليج إلى المحيط.
وكذلك كنت قد ألمحت في أكثر من مناسبة بأنه مع أهمية الالمام بسائر العلوم والمعارف التي تملأ عالمنا اليوم، الا اننا – نحن ابناء الشرق – لسنا بحاجة إلى صنميات من طراز جديد صنميات تبعدنا عن الإيمان بالله الواحد الخالق والمبدع لكل ما في الوجود. إذ اننا أن وقعنا فكريا وايديولوجيا، فريسة لهكذا صنميات، لا نكون في النهاية قد انتفعنا من احتكاكنا بالثقافة والحضارة العالمية المعاصرة. فان كنا قد تعلمنا الكثير من علوم وفنون الغير على حساب إيماننا بالله الواحد السرمدي، نكون قد خسرنا أعز شيء في الوجود! ويا لبئس تلك الحياة في ظلال الصنمية من طراز جديد، صنمية القسم الأخير من القرن العشرين!
وما يقودني إلى الكلام بهذه الطريقة في تأملاتنا هذه هو ما وقعت عليه عينأي وأنا أطالع مجلة أسبوعية حيث وردت فيها مقالة جدية بشكل رسالة من رجل إلى حبيبته. وأرجوألا أظهر بمظهر المنتقد الذي ليست له حساسية أو ذوالقلب القاسي الذي ليس بمقدوره أن يشعر مع الجيل الناشيء! ولكني أرى نفسي مرغما – نظرا لإيماني بالله ولتعلقي بوحيه المقدس الذي بزغ نوره الفدائي في حياتي – بأن أعأرض بكل صراحة عدة آراء ونظريات وردت في هذه الرسالة أو المقالة.
مما صرح به الكاتب ما يلي " لم تكن بدايتي يوم ولدت. فلطالما عشت في رحم الكون قبل أن أو لد.. أؤمن بأزلية الحياة عبر المادة. أؤمن بتطور كل مادة. الروح نتيجة حتمية لكل تفاعل مادى، منظم، متناغم، مكتمل. ليس هناك روح بلا مادة... لا أعتقد بأن الحق شيء ثابت مع انه يتراءى للناس كذلك... أما عن الله فيكفي أن يكون عندك شعور بأن هناك قوة لا يمكن تحديدها... انظرى وجه الله في حياة الكون، وديمومته، ولا تزعجي نفسك في الأمور الأخرى، فما هو خارج الكون هو في الكون، وليس ثمة وجود وراء الوجود لأن كل ما وراء الوجود هو موجود "
أرجومن صميم قلبي أن تلاحظ معي بأن هذه الشهادة التي نطق بها أو بالأحري التي كتبها صاحب الرسالة، لا يمكن لها بأن تتجانس مع أي معتقد سليم بالله القدوس. كيف أجرؤ وأقول هكذا كلمات عن إنسان مثلي كتب بكل اخلاص وقناعة عن إيمانه ومعتقده؟ أنا لا أشك مطلقا لا في اخلاص ولا في قناعة الكاتب، لأنه من المستحيل لأي شخص بأن يكتب كما كتب بدون قناعة واخلاص وأمانة لمبادئه الأولية. ولكن اعترافي بما سبق لا يعني انه لا يجوز لي أنا المؤمن بالله السرمدي الخالق، أن أشهد عن إيماني. إذ ما فائدة إيماني وقناعتي ومعتقدى أن بقيت هذه ضمن قلبي ولم يدر بها إنسان؟ أنا أيضاً أشهد عن اخلاص وقناعة وأقول : انه لا يوجد تجانس بين آراء كالتي أتينا على اقتباسها والمعتقد السليم بالله. فمن آمن بالله وبوحيه المقدس آمن في الوقت نفسه بمحدودية الإنسان وبعدم مقدرة العقل البشرى على تفهم أمور هذا الكون بدون مساعدة الله الخالق.
هذا يعني قبل كل شيء اني كمؤمن بالله أرفض مبدئيا أية نظرية تجعل مني أنا الإنسان المخلوق والمحدود، أرفض أية نظرية أو فلسفة تجعل مني جزءا من كون كنت اعيش فيه قبل يوم ولادتي. كمؤمن بالله السرمدي القدوس أرفض بكل عناد عقيدة أزلية الحياة عبر المادة... اني لا أقبل الادعاء بأن الروح هي نتيجة حتمية لكل تفاعل مادى، إذ اني فيما إذا قبلت ذلك التعريف للروح جعلت الله نتيجة للكون المادى الأزلي منكرا بذلك أزلية الله واستقلاله عن الكون الذي خلقه. أنا كمؤمن بالله الذي خلقني على صورته وشبهه – كما ورد في توارة موسى – أي أنا المؤمن بأقنومية الله لا أقدر ولا أستطيع أن أرتاح أو أن أكتفي بأن يكون عندى شعور بأن هناك قوة لا يمكنني تحديدها! طبعا أن الله قادر على كل شيء، انه الاله القدير ولكنه ليس عبارة عن مجرد قوة هائلة لا يمكنني تحديدها! أنا كمؤمن بالله أرفض القول بأن الحق غير ثابت لأني أعتقد بأن الله وهو منبع الحق هو هولا يتغير، أمس واليوم وإلى الأبد. وشريعة الله الأخلاقية التي تنير لي السبيل فيما يتعلق بأمور الحق والباطل هذه الشريعة لا تتغير مهما تغيرت الأيام! أنا كمؤمن بالله السرمدي الخالق القدوس لا أستطيع قبول أي رأي أو فلسفة تساوي بين الوجود الكوني والله. الله موجد الوجود ولكنه يبقى قبل الوجود الكوني وفوقه. اني أرفض رفضا باتا ونهائيا وكليا أي مس بعقيدة استقلال الله عن الكون الذي صنعه إذ أن تساوي الله بالكون أكون قد خسرت ربي وإلهي وكذلك نفسي في النهاية!
يا ترى ماذا حدث لنا حتى اننا لم نعد نميز بين العقائد المتجانسة مع العقيدة الأساسية المتعلقة بالله وتلك التي ليست في صلبها الا عقائد الصنميات المعاصرة التي غزت عالمنا؟ لماذا صرنا متأثرين بكل ما يقال أو يكتب في دنيانا المتصاغرة؟ كيف لم نعد نرفض بديهيا وتلقائيا كل ما يعارض قداسة اسم الله بارينا وفادينا؟
الدواء الوحيد الواقي والشافي لنا في هذه الأيام العصيبة التي نمر فيها هو الإيمان الحي والعامل ذلك الإيمان المركز على الله الذي كشف عن ذاته عبر التاريخ بواسطة الأنبياء والرسل ولاسيما بواسطة يسوع المسيح المخلص. كانت مهمة المسيح الرئيسية هي إنقاذنا من سطوة واستعمار سائر الصنميات – القديمة منها والحديثة. ليساعدنا الله لكي نأتي اليه مؤمنين بوحيه الفدائي الخلاصي ولنعمل بكل جد ونشاط في سبيل بناء حياتنا المعاصرة على أسس سليمة غير متقلبة أي على أسس الحق الإلهي المنـزه عن الخطأ!
- عدد الزيارات: 2977