إنقاذ العالم
" فهناك شعور عام بأن التاريخ كله، لم يعرف في أية مرحلة من مراحله هذه الرغبة الجنونية التي تتآكلنا هذه الأيام، في عصيان كل شيء ورفض كل شيء من أجل : إنقاذ عالمنا "
هذه كلمات طالعتها منذ مدة في احدى المجلات والتي حاول بواسطتها الكاتب أن يصف عالمنا هذا من الناحية الفكرية أو الايديولوجية. ورغبتي اليوم هي التأمل في معاني هذه الكلمات ومحاولة فهم الدوافع العديدة التي تحدو بالعديدين من معاصرينا للوقوف بذلك الموقف ثم رؤية علاقة ذلك بموضوع : إنقاذ عالمنا. قبل كل شيء نلاحظ أن التاريخ المعاصر مع ارتباطه بالماضي من عدة نواحي الا انه يشكل طورا جديدا أو حقبة جديدة من التاريخ البشرى. وهذا يعود إلى أن عالمنا اليوم هو وريث اختراعات لم تعرف من قبل والتي يمكننا بواسطتها انهاء الحياة على الأرض. ثم أضف إلى ذلك أن عدد سكان الأرض صار ثلاثة ونصف مليارات وأنه سيتضاعف في مدة تقارب من الثلاثين سنة، وإذ ذاك تكتشف حدة المشكلة البشرية التي يواجهها المفكرون في أيامنا هذه. فالبشرية بأسرها تعيش تحت ضغط فكري ومعنوى لم يعرفا في الماضى!
أما فيما يتعلق بالدوافع التي تحدو بالعديدين من الناس اليوم إلى الرفض والعصيان فاننا نقول بأن ذلك يعود إلى ملاحظة وجود تناقض كبير وهائل بين امكاناًت الإنسان الكبيرة للخير وإلى عدم تطبيقها في ذلك الاتجاه. فمن ناحية : يعلم كل إنسان أن الاختراعات التي وصلنا اليها اليوم والتي تمكننا من الصعود إلى القمر والهبوط إلى أعماق البحار واكتشاف الكنوز البترولية في الصحري والبحار ومحاربة الأوبئة والأمراض المستعصية – أن هذه الأمور وما يشابهها تصبح كالصفر، كلا شيء عندما نلاحظ أن الإنسان المعاصر يبذر أمواله في حقول الدماء والهلاك. أضف إلى ذلك أن قرننا هذا، قرن النور والإشعاع، اختبر حدوث مظالم واضطهادات قلما عرفت في الماضي، لا بمعنى أن الماضي لم يشتهر بالمظالم والاضطهادات، الا أن حدوث هذه المظالم وهضم حقوق الناس المشروعة – كل هذه الأمور المؤلمة تجرى في عالم يتشدق فيه العديدون عن وجود الحرية والعدل والاستقامة أكثر من أي جيل مضى! وإذ يرى الكثيرون من ابناء الجيل الطالع – هذا الجيل الذي يكره الرياء والنفاق بصورة هائلة – هذه التناقضات المجسمة في مظالم وعدو انات بشعة للغاية، تعتريهم موجة هائلة من النقمة وتجتاحهم رغبة جنونية في رفض كل شيء والانتقاض على كل شيء، ولسان حالهم هو : الوقت قصير وأرضنا سائرة نحو الخراب والدمار وصبرنا قد نفذ! نرفض كل شيء، من أجل إنقاذ عالمنا!
من أجل إنقاذ عالمنا! با لها من غاية نبيلة، إنقاذ عالمنا من المساوىء والتناقضات والأوضاع الغير سليمة! من يجرأ على الوقوف في وجه من كرس نفسه وحياته في سبيل إنقاذ عالمنا المائت؟!
ولئلا يخال قراءنا وقارئاتنا بأننا نقف موقف السلبية تجاه ما ذكرناه آنفا نسرع إلى القول بأن الكثير من التحليل المعاصر لمسأوىء الحياة وتناقضاتها لهوجدير بكل فحص وتمحيص. وكذلك نحن نشعر بقصر الوقت وبأنه قد حان الوقت لمواجهة الحقائق كما هي وعدم التهرب منها. فعالمنا الذي يشكومن مشاكل جذرية لهوبحاجة ماسة إلى علاج جذرى وحاسم. نصرح بهذه الأمور لئلا يساء فهم عدم ارتياحنا لهذه الرغبة الجنونية التي – حسب كاتب المقال – تتآكلنا في هذه الأيام، في عصيان كل شيء ورفض كل شيء من أجل إنقاذ عالمنا "
نعم، اننا لسنا مرتاحين لذلك ولماذا؟ لأننا عندما نشاهد كل هذه الأمور التي تقض مضجع الناس وعندما تتوق أنفسنا لايجاد حلول لمشاكلنا المستعصية ذات الابعاد العالمية، علينا ألا نرتكب الخطأ الفادح فننظر إلى أنفسنا وكأننا من جبلة بشرية تختلف جذريا ومبدئيا عن الجبلة البشرية التي عاشت قبلنا على سطح هذه الكرة الأرضية. مشاكل الحياة كبيرة وهائلة : طبعا، الوقت قصير جدا : هذا صحيح. ولكن الإنسان أن كان إنسان الماضي أو إنسان اليوم – لم يتغير داخليا أو باطنيا، ولذلك نطرح هذا السؤال المصيرى : ما هو الضمان الذي يعطينا اياه العصاة والرافضون – بأنهم بعدما رفضوا كل شيء وعصوا على كل شيء – بأنهم سيتمكنون بالفعل من إنقاذ عالمنا؟
هذا لا يعني اننا ننكر وجود العزيمة الصادقة لدى هؤلاء الرافضين، اننا لا نقول بأن هدفهم هو غير نبيل! ما ننكره هو امكانية إنقاذ العالم – وخاصة عالم اليوم المكتظ بالشرور والمظالم والمسأوىء والمتناقضات – ننكر امكانية إنقاذ عالم اليوم بوسائل بشرية محضة.
ولابد لنا من الملاحظة بهذا الصدد أن الرفض المعاصر والعصيان المعاصر يصحبهما في أغلب الاحيان إنكار تام وجذرى لله أولاًية علاقة إلهية بعالمنا هذا.
وبكلمة أخرى تجرى محاولة إنقاذ عالمنا اليوم ليس فقط بدون اللجوء إلى الله تعالى بل من وجهة نظر لا دينية أو ضد دينية.
ونحن لا نقلل مطلقا من أهمية موضوع إنقاذ عالمنا ولكننا نقول للرافضين وللعاصاة ولسائر الذين سئموا من تفاهة الإنسان المعاصر ومن سطحيته وقشريته وتناقضاته، نقول : أن محاولتكم لإنقاذ العالم بدون الله ستنتهي بالفشل الذريع. لا تنسوا أن عالمنا اليوم يتخبط في أزمة روحية شديدة لأن الإنسان لا يعبأ بالله ولا بأمور الله. وإذكروا جيدا بأن الله قد عمل لنا خلاصا جبارا وإنقاذا حاسما عندما أرسل مسيحه إلى دنيانا هذه. فمهمة المسيح الخاصة كانت مهمة إنقاذية وخلاصية وتحريرية وفدائية وقد أتمها له المجد بكل شجاعة واخلاص عندما مات عنا على صليب خشبي خارج مدينة القدس في فلسطين. وقد أظهر المسيح المخلص انتصاره الباهر على سائر قوى الشر والظلام بقيامته المجيدة من الأموات وها انه يدعونا اليوم للكف عن محاولة إنقاذ عالمنا بجهودنا الخاصة ولقبول برنامجه الفعال لإنقاذ البشرية ولبناء عالم جديد حيث يعم فيه السلام والوئام!
- عدد الزيارات: 2469