الإنسان بلغ سن الرشد
من العبارات التي شاعت في المدة الأخيرة في أو اسط المفكرين والكتاب العالميين هي أن الإنسان، إنسان القرن العشرين، قد بلغ أخيرا سن الرشد! ونود البحث في معنى هذه العبارة الوصفية ونقدها من وجهة نظر الواقعية التي تنبع من قبولنا لتعليم الوحي الإلهي قبولا تاما وكليا.
عندما يقولون لنا اليوم : الإنسان قد بلغ سن الرشد فإنهم لا يكونون متكلمين عن فرد معين ولا عن شخص واحد مشهور. كلنا نعلم أن الإنسان يولد طفلا وانه ينموويترعرع ويمر في أطوار معينة إلى أن يبلغ سن الرشد أو عهد الرجولية. وكذلك فأن الذين يقولون أن الإنسان قد وصل إلى عهد جديد من وجوده لا يعنون قبل كل شيء أنه صار يعيش في عصر التقنية أي عصر تطبيق المعارف العلمية في سائر نواحي الحياة. طبعا الإنسان المعاصر يعيش في هذا العصر الجديد عصر الاختراعات العديدة التي غيرت طريق حياته في عدة أمور. وليس هناك من إنسان عاقل يود الرجوع إلى الماضي أو ارجاع عقارب الساعة إلى الوراء وأن يحرمنا من كاسب العلوم والتكنولوجيا.
ماذا تعني إذن عبارة : سن الرشد، عندما يقولون لنا في هذه الأيام بأن الإنسان المعاصر قد بلغ سن الرشد؟ عندما تذكر هذه العبارة في هذه الأيام فإنها تعني بأن العالم الفكري المعاصر هو عالم يختلف جذريا وجوهريا وكليا عن العالم الفكري الذي عاش فيه الاباء والاجداد. وان سألنا قائلين : أين هو الاختلاف؟ يقولون لنا : أن الإنسان المعاصر – نظرا لو صوله سن الرشد – لم يعد بمقدوره أن يقبل بأي إيمان أو معتقد يتعلق بأمور خارجية عن العالم المادى وبكلمة أخرى : يقال لنا أن عصرية إنسان اليوم لا تسمح له بأن يؤمن بالله أو بأن تكون للعالم علاقة اتكالية بالله.
نفهم الان إذن معنى عبارة : الإنسان وصل إلى سن الرشد، انها تعني بأن الإنسان يستغني عن الله وعن شرائعه وأحكامه (لانه – أي إنسان اليوم). صار متحكما بكل عناصر الوجود ولا حاجة له بأن يتكل على اله أو خالق أو مبدع لهذا الكون.
عندما نفكر في هذا الموضوع مليا نلاحظ قبل كل شيء بأن الادعاء بأن الإنسان المعاصر قد بلغ أخيرا سن الرشد هو ادعاء مدفوع من قبل كبرياء وعجرفة ليس لها مثيل! وكما كنا قد ذكرنا سابقا : ليس هناك من إنسان عاقل يود رد عقارب الساعة إلى الوراء وليس هناك من مؤمن حقيقي لا يشكر الله على جميع الأمور التي نتمتع بها بسبب العصر التقني الذي نحيا فيه. فكلام المذيع مثلاً لم يكن ليتعدى جدران الاستديولولم تكن هناك محطة إذاعة وراديووكهرباء أو بطارية. كلنا نتمتع بمنتجات حضارة القرن العشرين ولكن ذلك لا يعني اننا أكثر حكمة ودراية من الذين عاشوا قبلنا على هذه الأرض. وأين نكون نحن ابناء القرن العشرين لو لم يحيا على أرضنا هذه العلماء والمكتشفون منذ فجر التاريخ؟! نعم أين نكون نحن ابناء القرن العشرين أن لم يفتقدنا الله منذ القديم بواسطة أنبيائه ورسله؟! هل وصلنا نحن إلى ما وصلنا اليه بدون الاتكال على المعارف والمعلومات التي وقف عليها الأولون وحفظوها لنا في مؤلفاتهم واختراعاتهم؟! لماذا الكبرياء والادعاء بأننا نحن ابناء القرن العشرين قد وصلنا أخيرا إلى سن الرشد، بينما الذين عاشوا قبلنا بقوا وظلوا أطفالا من الناحية الفكرية والعلمية.
والذي يتشدق ويقول بأن الإنسان قد وصل أخيرا إلى سن الرشد ينسى في كثير من الاحيان بأن هذا الإنسان البالغ هو أيضاً الإنسان الذي أظهر قساوة ووحشية قلما عرفت في دنيانا هذه. لو كان الإنسان بالحقيقة قد وصل إلى الحكمة الحقيقية ولوكان بالحقيقة أكثر نضوجا من إنسان الماضي لظهرت ثمار نضوجه في هذا العالم. أن طاقات الإنسان المعاصر الذي يدعي بأنه قد بلغ سن الرشد تستعمل في غالبيتها للدمار لا للسلام. فالإنسان المعاصر يصرف أكثر أمواله من أجل الحرب لا من أجل السلام. لو كان إنسان اليوم قد نضج فعليا بالنسبة إلى إنسان الامس، لمإذ بقيت سائر امكاناًت الإنسان للخير مجرد امكاناًت ولماذا لا توضع موضع التنفيذ؟
يعلمنا الوحي الإلهي بكل وضوح أن الإنسان مصاب بمرض روحي مزمن وخطير وهذا المرض يدفعه للابتعاد عن الله ولاختراع أصنام عديدة يسجد لها ويخدمها. وعادة تكون هذه الاصنام عبارة عن تجسيم لافكار الإنسان وآرائه التافهه والباطلة. وها انه اليوم وقد وصل إلى ذروة ضلاله يطلي هربه من الله وصنميته المعاصرة بكليشهات متعددة ذات صبغة شبه علمية ومنها هذا الشعار : الإنسان قد بلغ سن الرشد.
حاجة الإنسان المطلقة اليوم كما كانت حاجته الامس ومنذ القديم هي التخلص من صنميته مهما كانت ومهما ظهرت بطلاء علمي وتعني، والرجوع بكل ندامة وتواضع إلى الله ربه وباريه. وكم علينا أن نفرح ونتهلل لان الله قد بنى بالفعل أساسا جبارا لهذه المصالحة بينه وبين بني آدم التائهين وذلك عندما أو فد المسيح بمهمة خلاصية، فدائية، إنقاذية، وتحريرية. لقد وفد المسيح عالمنا منذ نحو ألفي سنة وعاش في فلسطين : الأرض المقدسة، لكي ينقذ ويحرر كل إنسان مؤمن وتائب. ينقذ المسيح كل من يضع ثقته فيه، انه يحرره من سائر أنواع وأشكال الصنميات القديمة منها والحديثة. وإذ ذاك فأن المؤمن الذي يحيا في مخافة ربه وخالقه يكون قد بلغ نوعا من النضوج الفكري والحياتي نضوجا غير مشوه بكبرياء أو عجرفة أو تسلط على بني البشر. المؤمن المتحرر من صنميات القرن العشرين يشهد أمام الملأ من كبار وصغار بأن رأس الحكمة يكمن في مخافة الرب وانه لا خير ولا فلاح في دنيانا هذه الا في السير في طريق الله المستقيم. الادعاء بالنضوج الفكري بدون الله وبدون العيش في طريق الله هو رأس الحماقة. لينقذنا الله من هذا الداء الوبيل!
- عدد الزيارات: 6750