Skip to main content

سر التألم -10

عندما يتعرض الإنسان للآلام والعذابات التي تصاحب هذه الحياة فإنه يجد نفسه في أحد الموقفين الآتيين :

1. أن كان المتألم مؤمناً وان كان يحيا بمقتضى منطق إيمانه بالله القادر على كل شيء والصالح والعادل، فإنه مع جهله لعدة تفاصيل تتعلق بحياته وخاصة بظروفه الصعبة، ينظر إلى آلامه كفرص ممنوحة من الله للتقرب منه تعالى والعيش حياة التقوى والقناعة.
2. ان لم يكن المتألم مؤمناً أو أن كان مؤمناً من الناحية السطحية فإنه يثور على حالته وعلى ظروفه الحياتية القاسية ولا يرى معنى في آلامه وعذاباته. ويميل المتألم عادة إلى التذمر والتأفف ويتوق من قرارة نفسه بأن يحيا حياة خالية من الأمور المحزنة أو المقلقة. هذه كانت حالة النبي داود كما رأينا في بحثنا السابق. فعندما كثر أعداؤه وخانه ابنه الذي كان يحبه محبة قوية جدا، تمنى داود لو كانت له أجنحة الحمام ليطير بها إلى البرية هربا من المشقات والمشاكل التي كانت محدقة به من كل حدث وصوب. ولكنه ما أن فكر في امره مليا وأخذ يسمح لإيمانه بالله بأن يلعب دوره الهام حتى رأي أن أحسن شيء عليه القيام به هو الاتكال التام على الله. يبقى الله حتى في أحلك الساعات وأخطرها، يبقى القدير المسيطر على الموقف وعلى سائر القوى العاملة أو العابثة بحياة الإنسان.
لايجوز للمؤمن التهرب من الآلام ولا الادعاء بأنها غير موجودة. غاية المؤمن ليست التهرب بل التغلب على الآلام. على المؤمن التغلب والانتصار على آلامه وعذاباته بواسطة القوى التي يحصل عليها من الله. فالآلام تضحي فرصا ذهبية لتقوية الإيمان في حياة المتألم لتقريبه من ربه والهه.

وسنستشهد بما كتبه رسول المسيح بولس عن موضوعنا هذا. وقد كان السيد المسيح قد دعا عبده بولس للمناداة بالإنجيل في عالم المتوسط. لكن هذا الرجل الجبار لم يتمتع براحة مثالية وهو يقوم برحلاته الإنجيلية بل كابدا اتعابا ومشقات لا تعد ولا تحصى نظر لامانته للسيد المسيح. وقد أصابه مرض أو ضعف نجهل نوعه – وذلك لان الرسول لم يتكلم عنه بالتفصيل. لندعه الآن يصف لنا موقفه من هذا الموضوع :

" 7وَلِئَلاَّ أَرْتَفِعَ بِفَرْطِ الإعلاناتِ، أُعْطِيتُ شَوْكَةً فِي الْجَسَدِ، مَلاَكَ الشَّيْطَانِ، لِيَلْطِمَنِي لِئَلاَّ أَرْتَفِعَ. 8مِنْ جِهَةِ هَذَا تَضَرَّعْتُ إلى الرَّبِّ ثَلاَثَ مَرَّاتٍ أن يُفَارِقَنِي. 9فَقَالَ لِي : «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ». فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ. 10لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأجل الْمَسِيحِ. لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ "

من الرسالة الثانية إلى أهل الإيمان في كورنثوس

قد نفكر أنه كان بإمكان الرسول بولس أن يخدم المسيح بصورة ممتازة فيما لو لم يكن قد حل به ذلك المرض. ولكن مشيئة المسيح لم تكن بحسب تصوراتنا. وهكذا نجد أن الرسول طلب من ربه ومخلصه بأن ينقذه من ذلك الأمر المزعج ولكن الجو اب كان : تكفيك نعمتي! قد تظن يا بولس انك تستطيع أن تخدم المسيح بصورة مثالية وعظيمة أن كانت حياتك خالية من الأمراض والأوجاع والاتعاب ولكن المسيح يعلم أحسن منك ما هو لخيرك ولذلك فان جو ابه هو : تكفيك نعمتي. ولقد أراد الله بأن يعلم رسوله التواضع المطلق. فقد كان الرسول بولس معرضا للوقوع في خطية الكبرياء والتشامخ على الناس نظرا لكثرة المواهب الروحية التي استلمها من الله ولذلك سمح الله بأن يصاب الرسول بمرض أو بضعف. وهذا بدوره أدى إلى تقرب بولس من الله. وهذه هي ذروة التقوى : أن يعيش الإنسان بالشعور التام بأهمية الاتكال على الله وانتظار العون والنجاة منه تعالى. وذروة عدم الإيمان هي أن يعيش الإنسان مستقلا كل الاستقلال عن الله وعن أمور الله. فان كانت الطريقة الفعالة – لتقريب الإنسان من الله – في عالم خاضع لجإذبية الشر بأن يتألم الإنسان، أفلا نفهم لماذا قال الرسول " 10لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأجل الْمَسِيحِ " ؟!

قد نظن أن الإنسان لهومعتوه فيما إذا صرح قائلاً : أسر بالضعفات، الخ. ولكن الرسول لم يقل أنه يسر بهذه الأمور نظرا لكونها محزنة أو متعبة أو مؤلمة! لم يكن بولس من جبلة فوبشرية أي فوق بشرية. كلا، لقد كان إنسانا مثلنا. ولكنه بعد أن ذكر تلك اللائحة استطرد قائلاً : لأجل المسيح! أن المؤمن العامل في سبيل الله وبرنامجه لهذا العالم فإنه يرحب بل ويسر بالضيقات لا لأنها جيدة أو صالحة في ذاتها، بل لان المؤمن يقدر أن يحولها – بفضل نعمة الله – إلى فرص ذهبية للنموفي الإيمان وللتقرب من الله ولخدمته تعالى خدمة صالحة وخالية من الكبرياء والعجرفة والتشامخ.

أترى أيها القارئ العزيز ما أحاول بأن أقودك لرؤيته؟ في عالم مليء بالشرور والآثام والمعاصي، في عالم القرن العشرين عالم الاختراعات الكثيرة في دنيانا هذه، يسمح الله للعديد من الأمور المحزنة بأن تنقض علينا وباستطاعتنا التغلب عليها أن كنا قد تسلحنا بالإيمان الحي بالله وبوحيه المقدس. تبقى الآلام في حد ذاتها أمورا غير مرغوبة... والمؤمن المتألم يبقى إنسانا ولا يصبح لا ملاكا ولا من جبلة فوبشرية (فوق بشرية).! ولكن المؤمن يعلم بأن الله يضع تحت تصرفه النعمة والقوة والمقدرة للتغلب على جميع صعوبات الحياة.

هل يعني ما ذكرناه بأن سر الالم أو التألم يزول أو يذوب؟ كلا! فنحن ما دمنا على قيد هذه الحياة الأرضية لابد لنا من أن نطرح أسئلة عديدة عن سبب هذا الشيء أو ذاك. ولكننا كمؤمنين نرى بأن المعضلة تزول بالنسبة الينا، إذ أننا لسنا كغير المؤمنين الذين يعيشون تحت علامات استفهام عديدة. نحن وان لم نعلم تفاصيل عدة أمور حياتية الا اننا نعلم علم الاكيد ونؤمن كل الإيمان بأننا نعيش تحب عرش الله العظيم وان كل أمور الحياة انما هي خاضعة لتدبير الله العجيب. ولذلك فان المؤمن ينظر إلى كلمات المسيح التي وجهت أولاً إلى بولس الرسول ويقول : هذه هي لى أيضاً، أن المسيح قد قال لي أيضاً بواسطة كلمته المقدسة ووسط صعوبات الحياة والآلام العديدة التي أسير فيها : " تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ "

 

  • عدد الزيارات: 2579