Skip to main content

سر التألم-8

لاحظنا سابقا أن المشيئة الإلهية بصورة عامة تبغي لكل إنسان حياة بعمها السلام والتناسق وكل ما هو جيد وصالح. ولكننا لاحظنا في نفس الوقت أن الإنسان يعيش وسط عالم تغلبت عليه قوى الشر وان هذه الشرور العديدة تحدث وتسبب آلاما وعذابات عديدة لبني البشر. وكذلك ذكرنا أن الشيطان له علاقة مسيسة بموضوع الآلام التي تنصب على الإنسان لأنه (أي الشيطان). هو عدو الإنسان اللدود والمشتكي عليه في سائر أيام حياته. وأخيرا ذكرنا بأن المتألم يذهب إلى الله طالبا منه العون والنجاة أو طالبا منه تعالى القوة لكي يقدر (المتألم أو المعذب). بأن يحتمل كل ما كان الله قد سمح به من أمور مزعجة أو مؤلمة. وليس علينا أن نهمل بأن أساس بحوثنا هذا هو أن المتألم يتمتع بإيمان حي بالله. إذ أنه بدون هكذا إيمان حي ليس هناك من حل ولا شبه حل لسر التألم. لغير المؤمن الحياة بأسرها وبكليتها هي لغز لا معنى له ولا هدف.

ان كان المؤمن يسير حسب منطق إيمانه السليم فإنه يرجع إلى مبادىء أو لية تبقى عاملة في حياته بصورة دائمة بالرغم من الظروف القاسية التي عكرت صفوحياته. وهذه المبادىء الأولية غير المتغيرة هي : قوة الله اللامحدودة وقدرته اللانهائية وصلاحه وعدله ومحبته. هذه حقائق اساسية مبدئية لا يمكن أن ينساها المؤمن ولا يجوز له أن يشك فيها.

من نقطة انطلاق كهذه يبدأ المؤمن المتألم والمعذب ويقول : الآن وقد سمح الله القدوس والقادر على كل شيء بأن أتألم بهذه الصورة وأن أتعذب بهكذا عذابات، كيف يمكنني الاستفادة من ظروف حياتي الواقعية لكي يؤول كل شيء في حياتي إلى خيرى الحقيقي وإلى مجد الله خالقي؟ وهنا إذ نذهب إلى اختبارات الاتقياء من مؤمنين ومؤمناًت عبر العصور المتعاقبة لابد لنا من القول – بناء على تعاليم الوحي الإلهي – بأن الآلام والعذابات التي يسمح بها الله هي عبارة عن مدرسة حياتية غايتها تقريب المؤمنين والمؤمناًت من الله. يشهد العديدون من المؤمنين والمؤمناًت والذين ذاقوا عذابات شديدة في حياتهم وتألموا اما في أجسادهم أو في أرواحهم، أن كل ذلك أدى إلى نموهم في حياة الطاعة والتقوى والصلاح والفضيلة والقداسة. هذا لا يعني أن المؤمنين والمؤمناًت يسعون وراء الظروف التي تسير بهم إلى تلك العذابات. انهم يبقون بشرا اعتياديين ولا يضحون من جبلة فوق بشرية. الفرق بين موقفهم من الآلام وموقف غير المؤمنين هو أن المؤمنين يعلمون بأن يد الله تسيطر على كل شيء وتسير كل شيء حتى أن آلامهم تؤول إلى خيرهم النهائي. أما غير المؤمنين فإنهم لا يعلمون لماذا انهالت عليهم العذابات ولا يدرون كيف يحولونها إلى مدارس في بالفضيلة والرجولية. فهم إذ يحرمون أنفسهم من الإيمان بالله يجابهون وجودا قاحلا لا معنى له ولا رجاء من التخلص من طغيانه الاعمى.

وقد كتب أحد الاساتذة الاتقياء والذي كان قد اهتدى إلى الإيمان الحي بالله بعد سنين عديدة عاشها بدون ذلك الإيمان " هناك العديدون من الناس الذين لا يصغون إلى صوت الله الا إذا حدث أمر مزعج للغاية في حياتهم. انهم لا يصغون إلى صوت الله المتكلم بهدوء، ولذلك يتكلم عنهم أحيانا بصوت عال أي بواسطة الآلام. عندما يكون كل شيء سائر على أحسن ما يرام وعندما تبدوالحياة وكأنها حلم لذيذ فأننا نحن بني البشر قد نبدأ بالعيش بدون التفكير بالله،،!

ومن أشهرالفلاسفة والعلماء الفرنسيين كان بليز باسكال الذي عاش في القرن السابع عشر. نقتبس الآن هذه الكلمات من احدى صلواته أو أدعيته : " اللهم، لقد أعطيتني الصحة لاخدمك ولكنني استخدمتها في أمور دنيوية. والآن ها أنك أرسلت على المرض لتقومني. يا الله لا تسمح لي بأن أستعمل هذا المرض للتهرب منك نظرا لقلة صبرى، نظر باسكال إلى الآلام والعذابات كمدرسة الإيمان.

وهذا هو أيضاً تعليم الوحي الإلهي : الآلام هي مدرسة الإيمان وقد قال في هذا الصدد أحد أصحاب أيوب الصديق وكان اسمه أليفاز ما يلى : " 17[هوذَا طُوبَى لِرَجُلٍ يُؤَدِّبُهُ اللهُ. فَلاَ تَرْفُضْ تَأْدِيبَ الْقَدِيرِ. 18لأَنَّهُ هو يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ. يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ. 19فِي سِتِّ شَدَائِدَ يُنَجِّيكَ وَفِي سَبْعٍ لاَ يَمَسُّكَ سُوءٌ. 20فِي الجو عِ يَفْدِيكَ مِنَ الْمَوْتِ وَفِي الْحَرْبِ مِنْ حَدِّ السَّيْفِ. 21مِنْ سَوْطِ اللِّسَانِ تُخْتَبَأُ فَلاَ تَخَافُ مِنَ الْخَرَابِ إذا جَاءَ. 22تَضْحَكُ عَلَى الْخَرَابِ وَالْمَجَاعَةِ وَلاَ تَخْشَى وُحُوشَ الأرض. 23لأَنَّهُ مَعَ حِجَارَةِ الْحَقْلِ عَهْدُكَ وَوُحُوشُ الْبَرِّيَّةِ تُسَالِمُكَ. 24فَتَعْلَمُ أن خَيْمَتَكَ آمِنَةٌ وَتَتَعَهَّدُ مَرْبِضَكَ وَلاَ تَفْقِدُ شيئاً. 25وَتَعْلَمُ أن زَرْعَكَ كَثِيرٌ وَذُرِّيَّتَكَ كَعُشْبِ الأرض. 26تَدْخُلُ الْمَدْفَنَ فِي شَيْخُوخَةٍ كَرَفْعِ الْكُدْسِ فِي أو انِهِ. 27هَا أن ذَا قَدْ بَحَثْنَا عَنْهُ. كَذَا هو . فَاسمعْهُ وَاعْلَمْ أَنْتَ لِنَفْسِكَ "

ونقتبس ما يلي من أحد كتب الوحي أي من الرسالة إلى مؤمنين معذبين ومضطهدين كانوا من أصل عبري وقد اضطهدوا بعد أن كانوا قد اهتدوا إلى نور المسيح. وهذه الكلمات المقتبسة من الرسالة إلى العبرانيين تعطينا الموقف المتزن الذي على كل مؤمن ومؤمنة أن يتخذاه عندما يسمح الله بأن تأتي نوائب الحياة عليهما " 5وَقَدْ نَسِيتُمُ الْوَعْظَ الَّذِي يُخَاطِبُكُمْ كَبَنِينَ : «يا ابني لاَ تَحْتَقِرْ تَأْدِيبَ الرَّبِّ، وَلاَ تَخُرْ إذا وَبَّخَكَ. 6لأَنَّ الَّذِي يُحِبُّهُ الرَّبُّ يُؤَدِّبُهُ، وَيَجْلِدُ كُلَّ ابن يَقْبَلُهُ». 7إِنْ كُنْتُمْ تَحْتَمِلُونَ التَّأْدِيبَ يُعَامِلُكُمُ اللهُ كَالْبَنِينَ. فَأَيُّ ابن لاَ يُؤَدِّبُهُ أَبُوهُ؟ 8وَلَكِنْ أن كُنْتُمْ بِلاَ تَأْدِيبٍ، قَدْ صَارَ الْجَمِيعُ شُرَكَاءَ فِيهِ، فَأَنْتُمْ نُغُولٌ لاَ بَنُونَ. 9ثُمَّ قَدْ كَانَ لَنَا آبَاءُ أَجْسَادِنَا مُؤَدِّبِينَ، وَكُنَّا نَهَابُهُمْ. أَفَلاَ نَخْضَعُ بِالأولى جِدّاً لأَبِي الأَرْوَاحِ، فَنَحْيَا؟ 10لأَنَّ أولئك أَدَّبُونَا أياماً قَلِيلَةً حَسَبَ اسْتِحْسَانِهِمْ، وَأَمَّا هَذَا فَلأجل الْمَنْفَعَةِ، لِكَيْ نَشْتَرِكَ فِي قَدَاسَتِهِ. 11وَلَكِنَّ كُلَّ تَأْدِيبٍ فِي الْحَاضِرِ لاَ يُرَى أَنَّهُ لِلْفَرَحِ بَلْ لِلْحَزَنِ. وَأَمَّا أخيراً فَيُعْطِي الَّذِينَ يَتَدَرَّبُونَ بِهِ ثَمَرَ بِرٍّ لِلسَّلاَمِ. 12لِذَلِكَ قَّوِمُوا الأَيَادِيَ الْمُسْتَرْخِيَةَ وَالرُّكَبَ الْمُخَلَّعَةَ، 13وَاصْنَعُوا لأَرْجُلِكُمْ مَسَالِكَ مُسْتَقِيمَةً، لِكَيْ لاَ يَعْتَسِفَ الأَعْرَجُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يُشْفَى "

في عالم كهذا الذي نحيا فيه حيث عاشت فيه قوى الشر منذ فجر التاريخ، ما أكثر الآلام والعذابات التي تنهمر على بني البشر من مؤمنين وغير مؤمنين. ولكن المؤمن لا ينظر إلى هذه الأمور المحزنة نظرة اليأس والقنوط، بل يعلم علم اليقين بأن الله يستعمل المآسي والكوارث كوسائط لتأديب المؤمن ولتقريبه منه. للمؤمن بالله ليست الآلام الا مدرسة الإيمان والنموفي الإيمان.

 

  • عدد الزيارات: 2576