مظاهر من الحياة المعاصرة
لابد أن القارئ قد لاحظ أن كان في الجزء الأول من هذا الكتاب أو في هذا الجزء بأننا نتأمل انتقاديا في وجوه عديدة من حياتنا المعاصرة. هذا لا يعني مطلقا بأننا قد اتخذنا شعارا سلبيا انتقاديا حبا بالسلبية أو الانتقاد، ولا يعني بأننا نعادى كل شيء ذى طابع عصرى أو حديث. كلا، نحن لم نضع نصب أعيننا هكذا هدف، ولسنا من المتطلعين إلى الماضي فقط وكأن الحاضر بدون قيمة أو أن المستقبل لا يهمنا مطلقا! هدفنا كان ولا يزال البدء من عقيدة أساسية وأولية آمنا بها إيماناً راسخا ألا وهي أن الله هو الخالق، وأنه لا يزال يهتم ويعتني بمخلوقاته اهتماماً كليا. وازاء هكذا معتقد وهكذا إيمان لا يمكننا ولا يجوز لنا أن نتجاهل وجوده تعالى اسمه أو أن ننسى أو نتناسى بأنه تكلم ولا يزال يتكلم معنا والينا في كلمته المقدسة (أي في الكتاب المقدس)..
وإيماننا بالله وبعنايته الشاملة لكل شيء والضابطة لكل شيء، هذا الإيمان يملي علينا بل يجبرنا بان نكون صريحين كل الصراحة في ابداء رأينا في كل ما يعادى هذا الإيمان ولاسيما في الحياة المعاصرة التي اضحت مصبوغة بصبغة لا دينية دنيوية ذات مظاهر مختلفة. ومهما اختلفت وتعددت هذه المظاهر فإنها جميعا تتفق بشكل غريب على عدة نقاط. وكما لاحظنا سابقا، نحن ابناء الشرق لم نعد نعيش في عزلة عن بقية العالم بل صرنا متأثرين بالحضارة العالمية والثقافة العالمية والوسائط الاعلامية العالمية. جميعنا نعيش وسط عالم صغير ومتصاغر وهكذا لا يمكننا تجاهل أي تيار من التيارات الفكرية أو الايديولوجية التي تجتاح عالمنا اليوم. فيجدر بنا أن ننظر إلى القرن العشرين بكل جرأة وأن نشكر الله تعالى من أجل جميع الامتيازات التي نتمتع بها والتي لم يحلم بها الآباء والاجداد. ولكننا نجد أنفسنا مرغمين لكي نطرح عدة أسئلة ولا أن نبقى جاهلين لكل ما يجرى حولنا.
هناك عدة نواحي من الحياة المعاصرة التي وقعت فريسة لتعاليم الفلسفة اللادينية والدنيوية التي يمتاز بها عصرنا هذا. ويجدر بنا أن ننبذها نبذا تاما وكليا، أن كنا بالحقيقة نؤمن بالله الخالق الذي لا يزال رب العالمين. لنأخذ مثلاً الحياة الفكرية، هذا حقل هام جدا إذ انه من المستحيل لنا أن نتصور الإنسان بدون أن نفكر توا بأنه يمتاز بصورة خاصة عن المخلوقات الأخرى بحياة فكرية. ماذا نجد في هذا الحقل الهام على صعيد الثقافة العالمية أو الحضارة العالمية في يومنا هذا؟ نجد موقفا شإذا للغاية، يقولون لنا : جيد للإنسان أن رغب بأن يكون متدينا وأن تكون له حياة تعبدية منظمة بينه وبين خالقه. جيد للإنسان بأن ينظم حياته الاخلاقية بمقتضى المبادىء الدينية التي يدين بها. ولكن، هكذا يقول لنا دعاة الفلسفة المادية المعاصرة : لا تمزجوا بين معتقدات الإنسان الدينية وحياته الفكرية. نحن قد لا نسمع هذه الكلمات بعينها ولكننا نصل إلى استنتاجها عندما نسمع اقوال واحاديث ممثلي الفلسفة المعاصرة. ينظر إلى كل شيء من وجهة نظر دنيوية محضة، وكأن الحياة انما هي عبارة عن وجود طبيعي محض أو فيزيولوجي محض! أو كأن الله تعالى هو غير موجود أو غير مهتم بما يجرى في دنيانا هذه. ويقولون لنا : هذا هو موقف موضوعي ومتجرد ونـزيه وعلمي، الخ...
لنتأمل مليا في هكذا موقف! هل هو منطقي؟ أليس الإنسان اما بمعترف بالله وبأهميته لكل شيء بما في ذلك الحياة الفكرية، أو بمنكر لله ولوحيه ولكلامه ولعنايته الفائقة والشاملة لكل شيء؟ ليست القضية مسألة تجرد أو نـزاهة أو موضوعية عندما يمتنع الإنسان عن توسيع أفق حياته الفكرية بالاعتراف بأهمية الله في سائر نواحي الحياة. القضية هي قضية إيمان أو عدم إيمان! وهذا الإيمان ليس بأمر ثانوى أو تافه على العكس، انه أهم أمر في الوجود بأسره. ونحن لا نمتنع ابدا عن القول بكل صراحة : ليست هناك نـزاهة حقيقية ولا موضوعية تستحق هذا الاسم حيثما ينكر أعظم وأكبر وأمجد ما في الوجود : الله تعالى اسمه.
وقد يقول قائل : ولكن كيف نفكر بطريقة مغايرة للتفكير المعاصر وهل علينا أن نعيش خارج فلك حضارتنا المعاصرة؟ الجو اب هو : نحن لا نود أن نفكر بطريقة مغايرة للتفكير المعاصر حبا بالمعأرضة أو الظهور بمظهر مختلف عن الآخرين. أساسنا هو أساس ايجابي صلب وجبار وعظيم : نبدأ من وجهة نظر الله خالقنا ولا نأخذ بوجهة دنيوية فانية. هذا لا يعني أننا نقلل من شأن الحياة الحاضرة ولكننا نأخذ وجهة نظر الله بكل جدية وننظر إلى ما وراء هذه الحياة الأرضية. نحن ننظر إلى الأبدية اللامتناهية ونرفض رفضا تاما ومطلقا ونهائيا أية فكرة تقول لنا أن كل معنى الوجود (بالنسبة الينا نحن البشر). هو في هذه الحياة. كلا وألف كلا! ليست هذه الحياة الا شبه مقدمة لكتاب ضخم وكبير. مقدمة الكتاب هي هامة وضرورية ولكنها ليست الكتاب بكليته. ننظر إلى جميع الأمور، الفردية منها والاجتماعية والحضارية والفكرية والايديولوجية... ننظر إلى كل شيء من وجهة نظر أننا جميعا، من كبار وصغار، سوف نظهر أمام عرش الديان العادل لنؤدى حسابا عن جميع ما قمنا به على هذه الأرض. اننا لا نلغي قيمة الحياة الحاضرة ولا المؤسسات المنحصرة بحياة الدنيا، ولكننا نقول : أن ملكوت الله وسلطانه وبرنامجه وغايته هذه هي الأمور الثابتة والأبدية. وبعبارة أخرى ننظر إلى كل شيء من وجهة نظر الله وسموه المتعالي وكون هذه الدنيا فانية، نأخذ بعين الاعتبار وجود النعيم ووجود الجحيم. لانترك هكذا أقوال وخطب وعظات وأحاديث لمن نسميهم عادة برجال دين، بل جميعنا نستحوذ عليها شخصيا وواقعيا وحياتيا وننبذ عنا وعن عقولنا وعن أفكارنا كل الآراء والنظريات التي تكتفي بآفاق أرضية ودنيوية محضة.
كما ذكرنا أنه من المهم جدا لنا ونحن نبني حياتنا الفكرية على الإيمان الحي بالله الخالق، أن نأخذ بعين الاعتبار ليس فقط هذه الدنيا بل الأبدية أيضاً كأفق للحياة والتفكير. فإذا لم نقم بذلك نكون قد أظهرنا مقدار استسلامنا للفلسفة اللادينية المعاصرة التي طغت على العالم الفكري والايديولوجي المعاصر بصورة كبيرة جدا ولاسيما في بلاد الغرب. وذكرنا أيضاً أن الجو أوالمناخ الفكري المعاصر لا يسمح للإنسان بأن يستصحب إيمانه في حياته الفكرية. أن قام المفكر المؤمن بذلك أي أن أخذ إيمانه إلى حياته الفكرية وإلى منتجاته الادبية والنقدية فإنه يعد – من قبل رؤساء كهنة الفلسفة المعاصرة – شخصا رجعيا ومتحجرا وغير آبة بالعلم والنـزاهة والموضوعية!
ولكننا لا نقوم بنقد الفلسفة اللادينية المعاصرة حبا بالانتقاد، أو كأننا صرنا من دعاة السلبية. نحن نجد أنفسنا مرغمين من قبل ذلك المنطق الذي لا يقبل طلاقا فكريا أو عقائديا أو ايديولوجيا بين الإيمان والحياة أو بين الله ومخلوقاته. نأخذا إيماننا بالله الخالق الموجد لكل ما في الوجود والمعتني بكل ما في الوجود، نأخذ هذا الإيمان بكل جد ولا ننظر اليه وكأنه عبارة عن جو از سفر (باسبور). للنعيم نضعه في حقيبة السفر وننساه حتى وصولنا إلى الآخرة! طبعا نشكر الله ونحمده لأنه أعد لنا طريقا تحريريا جبارا يؤدى إلى النعيم، لكن هذا لا يعني اننا ننسى الله أو نهمله في الأمور الأرضية والحياتية تلك التي تسبق انتقالنا من هذه الحياة إلى الحياة الثانية. على العكس : حياتنا هنا على الأرض هي ذات أهمية قصوى، وكل ما نقوم به من فكر أو قول أو فعل، كل شيء هو مبني اما على إيمان بالله أو على عدم إيمان بالله.
لنأخذ مثلاً موضوع الكثيرين من المفكرين الذين لهم شهرة عالمية. من المؤسف جدا أن العديدين منهم يصنفون اليوم في صنف الملحدين أو غير المؤمنين بالله. وهذا التصنيف مبني على واقع أليم لا على اتهام مغرض. هذا لا يعني أن نتاج المفكرين غير المؤمنين بالله هو بدون أية قيمة. مثلاً لابد لنا من الاقرار أن العديدين منهم قد انبروا إلى انتقاد مظاهرة متعددة من الحياة المعاصرة. هناك الأمور العديدة التي يمكننا أن نتلقنها منهم وهم يطرحون الأسئلة على المجتمع أو يعالجون المشاكل التي نواجهها في القسم الأخير من القرن العشرين.
ولكننا بعد نصغي إلى أقوالهم أو بعد أن نقرأ كتاباتهم فإنه من المستحيل لنا سوى أن نقول بكل أسف : كل هذه المواضيع والمعضلات تعالج من قبل هؤلاء المفكرين من وجهة نظر بشرية محضة، وكأن الله لم يتكلم وكأنه تعالى اسمه لم يكشف عن مشيئته لهذه الدنيا! طبعا هذه الحياة الأرضية مهمة ومشاكلها عديدة ومتكاثرة، ولكننا لا نستطيع حلها على الصعيد البشرى فقط.
وكما ذكرنا سابقا، نحن ابناء الشرق لم نعد عائشين بمعزل عن التيارات الفكرية العالمية. فمع أننا بحاجة ماسة إلى اتقان وتطبيق التقنية (أي التكنولوجيا). المعاصرة لنرفع من مستوى الحياة ولنقضي على المشاكل التي تقض مضجعنا، ومع أنه هناك الأمور العديدة التي علينا أن نتعلمها من حضارة القرن العشرين العالمية، الا اننا لا نحتاج إلى اللادينية ولا إلى الفلسفة التي نمت وترعرعت في تربتها. إذ ما منفعة ربح العالم بأسره، كما قال السيد المسيح أن كانت النتيجة النهائية خسران النفس؟! لنعود الآن إلى معالجة بعض النقاد لمشاكل الحياة المعاصرة. يحذرونا من مغبة السقوط في عبودية من طراز جديد : عبودية أو صنمية الآلة. هذا خطر واقعي لا وهمي، إذ أنه من السهل جدا أن تنقلب الآلة من خادمة للإنسان إلى سيدة مطلقة تستعبد الإنسان وتجعله شبه إنسان أو نصف إنسان. ويحذرنا آخرون من خطرة القوة الإعلانية أو الركلامية التي هي من صلب التجارة والاقتصاد المعاصرين. فمع أهمية الإعلانات في بيع وتصريف المنتجات، الا أنها قد تصبح المتحكمة في حياة المجتمع. وقد ينظر إلى الناس كمجرد افراد مستهلكين للبضائع العديدة والمتنوعة. ما أو ردناه هو نموذج لبعض الانتقادات التي تصوب على بعض مظاهر الحياة المعاصرة. ولكننا أن اكتفينا بهذا النوع من النقد نكون سطحيين ودنيويين!
وما هو النقص في ما ذكرناه أي في الانتقادات التي تصدر عن قرائح العديدين من مفكري اليوم؟ النقص الجذرى هو كونها مغذاة من قبل فلسفة أرضية بحتة. فهي لا تعترف بالله ولا بنظامه لهذا الكون. فنحن جميعا علينا أن نكون على حذر لئلا نصبح عبدا للآلة، ولكننا أن اكتفينا بهكذا تحذير فان موقفنا يبقى سلبيا. ومتى تغذت الروح البشرية على السلبية؟! لا يكفينا أن ننجومن عبودية الآلة أو أية عبودية أخرى، بل علينا أن نكون جميعا عبدا لله، لا بمعنى أننا نعترف بالله اسميا فقط، بل بمعنى اننا نتوج الله كسيد حياتنا المطلق نعمل ما يشاء تعالى ونأتمر بأوامره ونمتنع عن نواهيه. وما أن نبدأ بالكلام على هذا المنوال حتى نسمع من الكثيرين من الناس وهم يحتجون على ذلك متذرعين باننا بكلامنا عن أخذ الله بعين الاعتبار في معترك حياة القرن العشرين، انما نمثل عقلية متأخرة أو بالية أو قديمة ليس لها أية صلة بالواقع الذي نحياه!
لما لا نكون صريحين مع أنفسنا؟ هل اتخإذ موقف ايجابي والكلام عن ضرورة صيرورتنا فعليا وعمليا عبيدا لله في مختلف نواحي الحياة، هل يمكن وصف هكذا موقف بالرجعية أو بعدم صلته بالواقع؟! هل يعد أخذ أهم حقيقة في الوجود (أي الله تعالى). هل يعد هذا أمرا بدون أهمية لو اقعنا اليوم؟! متى أصبح الله بدون أهمية ونحن نحاول حل المشاكل الحياتية، أن كانت على الصعيد الفردى أو الاجتماعي أو الدولي؟
على العكس، لابد لنا من القول : نحن نعاني الكثير من المشاكل نظرا لان الله لم يعد يؤخذ بصورة جدية من قبل العديدين من الناس. لو كان الناس اليوم يخافون الله ويهابونه أما كانوا أكثر اهتماماً بالحق والعدل والنـزاهة – خاصة على الصعيد الدولي؟! ولكننا ماذا نشاهد؟ نشاهد القوة تصبح متوجة على عرش الحضارة المعاصرة بينما تهضم حقوق الناس المشروعة وكأن الله لم يتكلم عن أهمية العدل والانصاف بين الافراد والجماعات! نحن بحاجة إلى أكثر بكثير من نقد بشرى للمجتمع البشرى المعاصر. نحن بحاجة ماسة إلى تسليط نور الله على سائر نواحي حياتنا المظلمة لكي نرى كل شيء على حقيقته ولنتوسل إلى الله بأن يجعلنا راغبين بأن نقبل دواءه الشافي لسائر أمراضنا الحضارية وخاصة في الثلث الأخير من القرن العشرين.
يمكننا أن نلاحظ في المؤلفات القصصية أو الروائية التي ظهرت بعد الحرب العالمية الثانية على المجتمع الدولي انتقادات عديدة وجهت إلى مظاهر مختلفة من حضارتنا. والقصد من هذه الانتقادات هو الاشارة إلى العديد من المتناقضات التي أصبحت شبه مقبولة من قبل الناس. ما أكثر المؤلفات المعاصرة التي تبحث في ماهية الإنسان وتيهانه وتشويش أفكاره وعدم وجود جذور قوية لحياته، والوحشية التي أظهرها لاقرانه بني البشر وتعاميه عن المثل العليا التي يجب أن تسود حياة البشرية. لقد انبرى العديدون من المؤلفين لمجابهة الحياة المعاصرة بمشاكلها العديدة وأخذوا يسألون، بواسطة مؤلفاتهم، أسئلة مصيرية قائلين : ما معنى الحياة؟ ما هو هدف الوجود؟ وإلى أين تسير البشرية وما هو مستقبلها في عصر القنابل النووية والذرية والصواريخ المنطلقة إلى الفضاء الخارجي؟
ونحن نسر كثيراً لأنه هناك كتاب ومفكرون يخرجون إلى الوجود مؤلفات تبحث في مواضيع جدية وليس فقط للتسلية أو لتكديس المال في الجيوب! علينا أن نسر حيثما وقف الناس وأخذوا يتكلمون في الأمور المصيرية باحثين في أهم المواضيع التي تجابه البشرية اليوم. فالمؤمن بالله هو إنسان ينظر إلى الحياة نظرة واقعية وجدية وهو لا يتخإذل مطلقا عن خوض المواضيع الهامة التي تجابه الإنسانية.
ومع أننا كمؤمنين نسر لدى مطالعاتنا للمؤلفات التي تعالج مشاكل العصر الحاضر، الا أن سرورنا هو وقتي، ومشاركتنا للافكار التي جاء بها الكثيرون من المفكرين هي آنية. طبعا كلنا بشر وليس المؤمن من جبلة فوق بشرية. كلنا بشر وهذا يعني أننا نشعر بتكاتف مع أولئك الذين يودون معالجة معضلات الحياة المعاصرة باخلاص وحسن نية. ولكن تكاتفنا هو لمدة فقط. إذ أننا ما أن نتأمل في الأمر مليا وما أن ننظر إلى صلب المواضيع التي يبحثها العديدون من مفكري أيامنا هذه حتى نجد هو ة سحيقة تفصل بين أولئك الذين يأخذون الله وكلامه بعين الاعتبار والذين لا يأبهون بالله أو بوحيه المقدس. مبدئيا وعقائديا يبعد المفكر المؤمن عن المفكر غير المؤمن بعد القطب الشمالي عن القطب الجنوبي. فالحقائق الأولية والاساسية التي يدين بها المؤمن هي معاكسة تماماً لما يؤمن به غير المؤمن. يرحب المؤمن بكل انتقاد يسمعه أو يقرأ عنه، بكل انتقاد موجه ضد متناقضات الحياة المعاصرة ولكن المؤمن لا يقدر نظرا لإيمانه بالله بأن يمتلك شخصيا وقلبيا هذه الانتقادات ولماذا؟ لانها بتجاهلها الله – وهو الحق الاسمى – تبقى سطحية، ولان حلولها تبقى حلولا غير ناجعة وغير مفيدة. فتجاهل الله وكلمة الله هو عأرض قوى للمرض الخطير الملم بحضارة القرن العشرين. وكل من تمادى في تجاهل الله لا يكون حالا لمشاكل العالم، على العكس من تجاهل الله يكون مكثرا لمشاكل الحياة ولمتناقضاتها.
من البديهي مثلاً أننا عندما نأخذ إيماننا بالله إلى معترك الحياة الفكرية فاننا لا نستطيع أن ننسى أن عالمنا هذا هو مسرح لحرب ضروس بين قوى الخير والشر. ولكن حضارة القرن العشرين أو بالاحري فلسفة القرن العشرين التي تغذي حضارة العصر تتجاهل الفاصل الجذرى بين الخير والشر. صار ينظر إلى أعمال الإنسان، أكانت على الصعيد الفردى أو الاجتماعي أو الدولي، وكأنها أعمال قد يوجد فيها العديد من الاخطاء. وإذ ذاك تعرف هذه الاخطاء بحسب وجهة نظر المنفعة الذاتية للشخص أو لمجموعة أشخاص. أما المؤمن فإنه لا يستطيع الاكتفاء بهكذا تصنيف وكأن كل ما يقض مضجع البشرية هو عبارة عن أخطاء. ولا يقبل المؤمن أيضاً تعريف الخطأ من وجهة نظر نفعية / أنانية فقط! هناك قوانين أبدية سنها الله تحكم على جميع أعمال الإنسان فهي – اي أعمال الإنسان – أما مطابقة لقوانين الله (وإذ ذاك تدعى بجيدة). أو غير مطابقة لقوانين الله (وإذ ذاك تدعى بردئية أو بشريرة).. نحن لا نتغلب على الشر ولا نستأصل جذوره أن استعملنا تعابير عصرية لطلائه أو لتغطيته. الشر هو الشر، انه عداوة لله ولشرائعه ولنواميسه، ولا غلبة على الشر الا بالاستعانة بقوة إلهية المصدر. ألا نرى إذن مدى استسلام العصر الحاضر للفلسفة اللادينية عندما يتجاهل بهذه الصورة المحزنة موضوع الخير والشر؟
ومع أننا كنا قد المحنا إلى ظاهرة أخرى في حديث سابق الا أننا نعود من جديد إلى ذكرها الآن كدليل آخر على مدى تأثرنا في هذه الأيام بايديولوجية القرن العشرين العالمية. ينتظر الآن من الإنسان، عندما يتكلم عن أمور هذه الحياة، أن يتكلم عنها بقالب دنيوى وألا يذكر الله تعالى وعنايته الفائقة لهذا العالم وخاصة للمخلوقات العاقلة. الكلام الآخذ الله بعين الاعتبار هو لرجال الدين فقط! هكذا يقولون لنا. لا تمزجوا بين الدين والمعرفة المتعلقة بالإنسان وبحياة الإنسان. ولكن هذا الموقف هو شإذ للغاية. أمن المعقول أخذ أمور الله بعين الاعتبار في قسم معين وضيق من الحياة فقط؟ هل قسم الله الحياة إلى عدة اقسام وقال لنا في هذا القسم أو في هذا النطاق المعين تعترفون بي وبوصايأي ونواميسي وشرائعي ووحي وأما في بقية الاقسام فأنتم أحرار بصورة مطلقة تعملون ما تشاؤون وتفكرون حسب أهواء وموضات العصر وتواجهون مشاكلكم العديدة بحسب آراء أناس غير مؤمنين؟ هل ذلك منطق سليم؟ هل الله تعالى اسمه رب الحياة بأسرها أم هل هو رب نصف الحياة أو ربعها؟ أليس هو تمجد اسمه سيد الكل ورب العالمين؟ وهل هذه العبارات التي نستعملها في كلامنا عن الله عبارات جو فاء أو كليشهات تردد نظرا لموسيقاها التي تصحب مفرداتها؟ من آمن بالله وبسلطانه على كل شيء لابد له من الاعتراف بأن هذا الإيمان وهذا المعتقد هو هبة من الله وأنه (أي المؤمن). صار مرغما (لا نظرا لقوة خارجية عمياء، بل نظرا لمنطق إيمانه). على الشهادة للحقيقة وللحق في كل ناحية من نواحي الحياة وفي كل نطاق من مناطقها المتعددة. فالمؤمن يرفض بكل عناد وبكل تواضع مبادىء وأسس الفلسفة المعاصرة اللادينية لانها مع كونها بناية كبيرة ذات غرف متعددة وشائقة، الا أنها بناية بدون أساس، ولابد لها من أن تسقط في النهاية لدى هبوب أعاصير الحياة الشديدة. للمؤمن عقيدة تشبه بناية مبنية على صخرة جبارة فهي لذلك غير معرضة للانهيار مهما كثرت أعاصير الحياة. لان من بنى حياته على الحق الإلهي سيصمد إلى النهاية!
- عدد الزيارات: 7208