معنى الخليقة
كنا قد بحثنا في الجزء الأول من كتاب " تأملات في الحياة المعاصرة " في موضوع الطلاق الفكري بين العلم والدين والذي نشاهده في سائر نواحي الحياة المعاصرة. ونعني بهذه الكلمات أن أمور هذا العالم تعالج وكأن الله لا يوجد أو كأن ليس لو جوده صلة بما يجرى على أرضنا هذه. وكذلك نعني بأن الجو الفكري أو العقائدى الذي يسود عالمنا اليوم هو جو لا ديني، قد لا يكون معاديا للدين في بعض مظاهره، الا أنه متجاهل للخالق وكأنه تعالى غير آبه بما يدين به الناس.
أما الآن فسنتطرق للبحث في موضوع معنى الخليقة. فنحن عندما نبدى أسفنا الشديد لو جود الطلاق الفكري والعقائدى بين أمور العلم والدين لابد لنا من الاشارة إلى أن هذا يعود بدرجة كبيرة إلى تجاهل كبير وفادح لحقيقة أساسية ألا وهي أن العالم هو خليقة الله. عقيدة الخليقة هي عقيدة مبدئية أساسية ذات أهمية مطلقة. فنحن عندما ننسى أو نتناسى أن العالم قد خلق وكون من قبل الله نكون قائلين (حتى ولوكانت شفاهنا صامتة). بأن وجود أو عدم وجود الله لأمر ثانوى أو تافه. كل من ينسى الخليقة يكون قد نسي الله الخالق، ومن نسي الخالق يكون قد أعلن عصيانه وثورته على الحق. الله تعالى هو مصدر الحق والصلاح وكل ما هو جيد في كوننا هذا.
ماذا نعني بكلمة " خليقة " ؟ وما هي الأمور التي تنبثق من قبولنا لهذه الحقيقة العظمى؟ عندما نستعمل كلمة خليقة فاننا نعني بأن الله وهو الاله السرمدي صنع كل ما في الوجود بدون الاستعانة بأي شيء. وبكلمة أخرى، نعترف بأنه تعالى خلق من لا شيىء كل ما في كوننا الشاسع الأطراف.
يقول الكثيرون من الناس : نحن نؤمن بالله وبقوته وبعظمته وبأنه البارى لكل شيء، نحن نعترف به كخالق وموحد لكل ما هو كائن في العالم. هذا حسن وجيد ومفيد ولكنه يجدر بنا أن نتذكر بأنه لا يكفينا الاعتراف بعقيدة الخليقة بل علينا أن نسمح لها بأن تعمل في سائر نواحي حياتنا ولاسيما حياتنا الفكرية والعقائدية. فنحن لا نود جعل عقيدة الخليقة وكأنها مجرد كلمات سحرية نتفوه بها في بعض الاحيان لكي نظهر اما لانفسنا أو للاخرين بأننا لم ننظم إلى جماعة منكرى الله! عقيدة الخليقة هي عقيدة حياتية لها تأثير على جميع شعب وأقنية الحياة البشرية وتبغها بصبغة فريدة وهي تختلف كل الاختلاف عن العقائد المخالفة أو المعادية لها.
عندما نقول أن هذا العالم بما فيه البشر من خليقة الله ماذا نعني وماذا لا نعني؟
1. للكون بداية : ما أن نبدى إيماننا بكون هذا العالم قد خلق من قبل الله تعالى حتى يترتب علينا الاقرار بأن العالم كانت له بداية معينة جرت في نقطة ماضية من الزمن أو بالاحري ابتدأ الزمن ببدء العالم أو الكون. وكم من المؤسف أن العديدين من الناس قد انقادوا إلى الاعتقاد بأن الكون المادى هو أزلي أي أن الكون دائما كان! هذا رأي منبثق من الفلسفة التي لا تود الاقرار بأن الله الواحد هو الذي خلق كل ما في الوجود. ولكن كل من يؤمن ويعتقد بالله وبالخليقة عليه أن يرفض بكل رباطة جأش عقيدة أزلية المادة. ليس هناك من تعايش سلمي بين الإيمان بالخليقة والإيمان بأزلية المادة. إذ أنه لو قلنا بان المادة هي أزلية نكون معترفين بأنها لم تخلق بل كانت دائما موجودة!
ويميل الآن العديدون من العلماء بناء على اختبارات علمية ضمن حقل التلسكوب الإذاعي، يميلون إلى القول بأن الكون ابتدأ بانفجار هائل وانه لا يزال بإمكاننا التقاط موجات إذاعية غير بشرية المصدر ويقولون بان هذه هي من بقايا الموجات الإذاعية التي حدثت لدى بدء الانفجار. هذه الكلمات المصاغة بقالب علمي انما تعني بأن العالم أو الكون كانت له بداية معينة وقبل تلك البداية لم يكن.
2. للعالم علاقة اتكالية مع الله الخالق : هناك البعض من المفكرين في الماضي وفي الحاضر الذين لا ينكرون أن الله هو الذي خلق الكون والعالم ولكنهم ينكرون مبدأ هاما جدا ينبثق عن عقيدة الخليقة. هذا المبدأ هو وجود علاقة اتكالية مطلقة للخليقة مع الخالق. ليست العقيدة الصحيحة للخليقة أو عن الخليقة تلك التي تبدأ أو تنتهي بالاقرار أن الله خلق هذا الكون! العقيدة الصحيحة هي تلك التي تعترف بان الله خلق الكون وأن هذا الكون يبقى دوما وفي كل مناسبة وفي سائر الظروف تحت سلطة الله البارى. لم يترك الله الكون ليسير بمقتضى قوانين آلية عمياء. ليس الكون إذن بوجود مستقل عن الله، بل انه وجود متكل على الله اتكالا تاما ومطلقا.
كيف نلاحظ إنكار الفلسفات المعاصرة لهذه الحقيقة الاساسية أي اتكال الكون على الله؟ نلاحظ مثلاً هذا النكران في التعابير المستعملة لتعليل الحوادث الطبيعية كالمطر. نحن لا ننكر انه يمكننا من وجهة نظر العلوم الطبيعية أو الفيزيائية تعليل كيفية نـزول المطر والتنبأ بالاحوال الجو ية. نحن نشكر الله ونحمده لأنه صار بالامكان القيام بكل ذلك فالطيران بدون خطر الاصطدام مستحيل بدون معرفة طبيعة الاحوال الجو ية. ولكننا عندما نقوم بتعليل هذه الظواهر الطبيعية يجدر بنا ألا نبعدها عن اطارها الاكبر ذلك الاطار الذي ترى فيه كقوانين خاضعة للمشيئة الإلهية. أن الله تعالى وهو البارى هو الذي يسوس أمور هذا الكون بفضل قوته وحكمته. فلنحذر إذن ونحن نستعمل العبارات العلمية بأن لا نكون في نفس الوقت منكرين لعلاقة الله بأمور الطبيعة. كل ما هو في الوجود له علاقة اتكالية تامة مع الخالق وبدون مشيئة الله لا يمكن الكلام عن استمرار في الوجود!
ابتدأنا في هذا الفصل بالبحث في موضوع الخليقة وخلصنا إلى القول بأنه من المهم جدا أن نعي ما نتفوه به عندما نتكلم عن موضوعنا هذا. فنحن لا ننظر اليه وكأنه موضع نظرى، على العكس انه موضوع حياتي له علاقة وثيقة بجميع نواحي حياتنا الفكرية. ما أن نتكلم عن الخليقة حتى نذكر أن لهذا الكون بداية. فمن العبث الكلام عن الخليقة أن كنا قد قبلنا مبادىء الفلسفة المادية المعاصرة والتي تعلم بأن المادة أزلية وغير مخلوقة. كل من يؤمن بأن الله هو الخالق يؤمن بانه الله وحده سرمدي بدون نهاية أو بداية. نحن لا ننكر وجود المادة ولا الكون المادى ولكننا كمؤمنين بالخليقة نعترف بأن المادة وجدت من جراء عمل الله في البدء ذلك العمل الفريد الذي ندعوه بالخليقة.
وما أن نسلم بوجود الخليقة حتى يتوجب علينا التسليم بأن العالم الذي كونه الله ليس بعالم مستقل عن الله بل يبقى دوما في علاقة اتكالية مع الله. وبكلمة أخرى عقيدة الخليقة لا تعني مطلقا بأن الله ترك الكون على شأنه بعد الخليقة. الخالق يبقى المعتني بكل مخلوقاته، وهذه بدورها تبقى بصورة دائمة متكلة على الله لدوامها أي لدوام وجودها. وكذلك تتكل الخليقة على الله للوصول إلى الغاية التي كونت من أجلها.
3. هناك هدف معين للخليقة : من البديهي أن الخالق وهو منبع كل حكمة ومعرفة وعلم لم يصمم على خلق الكون بدون أن يكون له هدف معين. فكما أن المخترع في عالمنا لا يفكر في اختراع آلة ما بدون أن تكون له فكرة عن حاجة الناس اليها أو عن امكانيات اختراعه، هكذا أيضاً نقول بان الله كان له هدف عندما خلق الكون.
وعندما ننظرإلى الكون الشاسع الذي نعيش على أحد أجرامه وعندما نبدأ باستيعاب المعارف التي تتوارد الينا في هذه الأيام نعظم خالقنا وبارينا الذي صنع كل شيء بحكمة ودراية. ها أن هذا الكون الهائل الابعاد يسير بمنتهي الدقة والمهارة. فليس هناك من خلل أو خطأ في سير الاجرام السماوية، كل شيء هو بديع وجميل للغاية! ولكننا إذا ما سألنا أنفسنا : لماذا الخليقة؟ علينا أن نكون على حذر ونحن نسعى بان نجيب على هذا السؤال. نحن نسأل عن دافع أو سبب في العزة الإلهية، ومن نحن بني البشر حتى نسأل هكذا سؤال؟ طبعا أن الله قد وهبنا عقولا متعطشة للعلم والمعرفة وسؤالنا يكون في موضعه أن كان مقرونا بالتواضع والرغبة الاكيدة في الوصول إلى جو اب إلهي المصدر. وبكلمة أخرى، ليس الجو اب يكمن فيما أظنه أنا أو تظنه أنت أو أي مفكر بشرى، بل يكمن الجو اب في الوحي الإلهي. نحن نعترف بالكلمة الإلهية التي تعلوعلى كل كلمة بشرية.
وقد ورد في الوحي الإلهي : " 1اَلسماوات تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ " لقد خلق الله هذا الكون من أجل مجد اسمه القدوس. غاية الخليقة إذن هي تمجيد الله والاشادة بحكمته ومعرفته وكماله. وبكلمة أخرى، ليست الخليقة موجودة من أجل ذاتها ولا يكمن هدف الوجود في الوجود ذاته بل في الله الخارج عن هذا الكون والموجد لهذا الكون. وكل نظرية أو فلسفة تنظر إلى العالم وكأنه موجود بذاته ولذاته فقط، هي مرفوضة مبدئيا أن كنا بالحقيقة نؤمن بعقيدة الخليقة. العالم موجود لتمجيد الله، أنا وأنت خلقنا لتمجيد الله. فان كانت حياتنا تدور على محور الذاتية أو المنفعة الشخصية أو أن كنا قد وقعنا فريسة لمبدأ فكري أو كما يقال في اللغات الاجنبية لايديولوجية مادية، فنحن لا نكون عائشين من أجل الهدف الذي خلقنا من أجله. لسنا نحن فقط، بل جميع الكائنات، الحية منها وغير الحية، جميع ما في الوجود يجب أن يضحى أنشودة تتغنى بالله وبأعماله الباهرة الكاملة، لأنه تعالى أو جدنا ونحن من أجله خلقنا.
4. دخول عامل مزعج ومخرب في نطاق الكون : لقد بحثنا حتى الآن في موضوع الخليقة ومعنى هذه الكلمة وشرحناها بقولنا أننا عندما ندين بالخليقة نعترف بان الكون ليس بأزلي بل كانت له بداية وبأن كل ما في الوجود له علاقة اتكالية مع الخالق. وهكذا أنكرنا استقلال الوجود عن الله. وتطرقنا إلى الكلام عن هدف الخليقة فخلصنا إلى القول بأن الهدف هو تمجيد الله منكرين بذلك كون غاية الخليقة موجودة في ذاتها.
ولكننا لا نكون قد بحثنا عن كل شيء فيما يتعلق بالخليقة أن اكتفينا بملاحظاتنا السابقة، فالعالم الذي نحيا فيه لا يظهر دوما وكأنه يسير حسب مشيئة الله. هناك أمور مزعجة للغاية تجرى في كل يوم وليس فقط على الصعيد الفردى أو العائلي بل أيضاً على نطاق واسع مثل العلاقات بين الشعوب والامم حيث نرى في كثير من الاحيان بأن القوة تعلوعلى الحق والابرياء يضطهدون بشكل مريع.
كيف نفسر هذه الظاهرة المؤلمة؟ ماذا نقول عن الخليقة التي أتت إلى الوجود نظرا لعمل الله الكامل؟ ألا نراها أحيانا وكأنها تحت رحمة عوامل ميكانيكية حتمية عمياء؟! لقد بحث المفكرون في هذا الموضوع منذ العصور القديمة ولم يتفقوا مطلقا في تعليلهم لما طرأ على البشرية من خلل أو مرض. قال البعض : أن الشر يكمن في المادة. وآخرون أنكروا وجود الشر. وآخرون جاؤوا بنظرية تقول بأنه علاوة على وجود الله السرمدي هناك أيضاً الشر الموجود منذ الازل، إلى ما هناك من نظريات وفلسفات متضاربة!
ولكننا إذا أخذنا عقيدة الخليقة بعين الاعتبار كعقيدتنا المبدئية والاساسية نقر بأن كل ما صنعه الله هو جيد وأن الشر لا يكمن في المادة الصماء، وأنه حاشا أن يوجد كائن سرمدي غير الله تعالى. لا يبقى أمامنا سوى الرضوخ لتعاليم الوحي الإلهي التي تذكر لنا بأن مخلوقات عاقلة هامة ثارت على الله واختارت السير على محور الانانية والذاتية فأدخلت إلى الكون عامل الشر المزعج والمفتت وهذه كانت أولاً الملائكة. هذا لا يعني أن جميع الملائكة ثاروا على الله بل قسما منهم فقط وهؤلاء الذين ثاروا على الله صاروا يدعون شياطين أو أبالسة. والطامة الكبرى لنا هي أن الإنسان الأول انحاز إلى جبهة الشيطان فدخل الشيطان فدخل الشر إلى عالم الإنسان أيضاً ولم يعد يتم غايته في الوجود.
- عدد الزيارات: 4576