Skip to main content

الشر في حياة الإنسان المعاصر

لقد ألمحت سابقاً عن حدة مأساوية القرن العشرين. فمع أن البشرية شهدت مآسي وفواجع كثيرة منذ فجر التاريخ إلا أننا لا نكون مغالين إن قلنا بأن قرننا هذا قد امتاز عمّا مضى لشدة قساوة الإنسان تجاه قرينه الإنسان. هذا كلّه جرى في عصر بلغت فيه الدعوة إلى التآخي بين الشعوب والأفراد ما لم تبلغه منذ فجر التاريخ. وكما كتب أحد المفكرين: لقد هبطت علاقات الإخاء بين الشعوب والأفراد إلى حضيض لم تهبط إلى مثله خلال التاريخ.

فبينما ابتدأ قرننا هذا على نغم تفاؤلي قويّ وتعاظمت فيه الآراء والنظريات التي كانت تنادي باقتراب عصر ذهبي يعم فيه السلام والوئام بين شعوب الأرض، لم يمض ربعه الأول إلا وأن اندلعت فيه الحرب العالمية الأولى وتلتها سنون عديدة تعاظمت أثناءها المشاكل الكبرى. ولم تنعم البشرية بالسلام الموعود وأخذت الدول الكبرى تتقاسم بقية العالم وخضع العديدون من الناس لحكم الأجنبي. وقبل أواسط هذا القرن، اندلعت نيران الحرب العالمية الثانية ومات أثناءها الملايين من الناس. وظهر شعار أثناء تلك الحرب وكان فحواه: حرب واحدة، عالم واحد وسلام واحد! انتظرنا وفود ذلك اليوم البهيج ولكن ماذا حدث؟ تفاقمت حدة المشاكل وتعاظمت فرأينا العديدين من الناس يشرّدون من ديارهم فيهومون على سطح الأرض!

أورد هذه الأمور لا لأملأ قلوب القراء باليأس والقنوط بل لنبحث معاً في موضوع الإنسان المعاصر والشر. قبل كل شيء علينا أن نقرّ بأن البشرية لم تعرف السلام والوئام منذ فجر التاريخ. فعندما ندرس التاريخ القديم والحديث نأتي على أخبار الحروب والمآسي التي نتجت عنها. ليس الشر بحد ذاته ظاهرة جديدة في حياة الإنسان. لم البحث إذن في موضوع الإنسان المعاصر والشر؟ كما ألمحت سابقاً، مال العديدون من المفكرين منذ أواخر القرن الماضي إلى الكلام عن اقتراب بزوغ شمس عصر جديد تنتصر فيه البشرية على كل ما كان يعكّر صفو حياتها منذ القدم. رسم لنا المفكّرون صورة تفاؤلية خالصة عن العصر الذهبي الذي كان سيعم العالم مرفقين تنبؤاتهم هذه بأفول نجم المعتقدات الدينية التي وصفوها بأنها كانت من رواسب قرون الجهل والانحطاط!

أما الآن وقد وصلنا إلى السنين الأخيرة من القرن العشرين، لا نستطيع أن نجاري أصحاب النظريات الطوباوية أو كما تسمى باللغات الأجنبية بالنظريات اليوتوبية. فلقد ذاق العديدون منا فعلياً وليس نظرياً فقط، نعم لقد اختبرنا شخصياً ضراوة الشر الذي طغى على حياتنا أو على حياة أحبائنا أو أقربائنا أو معارفنا. فلم يعد في مقدورنا قبول أية فكرة أو نظرية تفاؤلية مبنية على الفلسفة المنادية بخيرية الإنسان أي بطيبة عنصره البشري.

كيف نعيّن موقفنا من هذه الظاهرة المقلقة أي ظاهرة تصاعد الشر في أيامنا هذه؟ قبل كل شيء يجدر بنا أن ننبذ جميع الآراء والنظريات الخاطئة عن موضوع الشر ذاته. مثلاً علّم بعض الفلاسفة القدمين بأن الشر كامن في المادة ذاتها أي أن الشر هو في صلبها. المؤمن بالله الخالق ينبذ تلقائياً هذه الفكرة. لم يخلق الله الشر وليست الخليقة بشريرة في نشأتها أو في تكوينها. وذهب آخرون وهم من أتباع هؤلاء الفلاسفة فقالوا بما أن جسد الإنسان هو مادي فإن الشر كامن في طبيعته الجسدية بينما تبقى روحه طاهرة وخيّرة. وهذا المعتقد لا يتناغم مع الإيمان بالله الخالق لأنه تعالى لم يصنعنا متمتعين بطبيعة شريرة أصيلة كامنة في تكويننا الجسدي.

وعلّم الفيلسوف الفرنسي روستو Rousseau J.J. والذي عاش في القرن الثامن عشر بأن الإنسان إذا ما نشأ على فطرة الطبيعة، جاء ذا نفس طيبة بخيرها لا تمازجه شر، وإنما هي الحضارة التي أفسدت عليه طبيعته. وكتب كتابه الشهير وسمّاه L Emile حيث عرض فيه نظريته الفلسفية في قصة خيالية عن تربية صبي بعيداً عن الحضارة ليجيء هذا الفتى نقياً وطاهراً. لكن هذه النظرة الحياتية الرومانسية تتجاهل جذرية الشر وكونه كامناً في قلب الإنسان كما نعرفه. الحضارة أو المدنية في حد ذاتها ليست بشر والشر لا يظهر بين الجماعات فقط بل نراه في حياة الأفراد أيضاً.

وانتشرت في أيامنا هذه الفلسفة المسماة بالوجودية والتي نسبت إلى الوجود ذاته بأنه هو منبع الشر. ومن الناحية العملية قال أحد أقطاب هذه الفلسفة المعاصرة: الجحيم هو الآخرون! وهذا يعني بأن اللائمة توضع دوماً على الآخرين الذين يضحون أعداء للفرد وخاصة لذلك الفرد الذي جعل من مفهومه للحرية صنماً يتعبد له.

ننهي بحثنا هذا بالكلام عمّا نتلقنه من الوحي الإلهي كما ورد في الكتاب المقدس. لقد خلق الله أبوينا آدم وحواء ووضعهما في الجنة وكان كل ما يحيط بهما منسجماً مع حياة الخير والصفاء. لم يستمر أبوينا في السير على طريق الله المستقيم بل ذهبا وراء وساوس إبليس وعصيا على أوامر الله فدخل الشر جسد البشرية وانتقل إلى جميع المنحدرين من الإٌنسان الأول.

وهكذا يمكننا القول أولاً بأن الشر هو أمر طارئ دخل البشرية من الخارج فهو ليس من جزء التكوين الإنساني. وبعبارة أخرى، ليس للشر وجود مستقل بل أنه أمر طفيلي. وكما علّمنا المفكر الإفريقي الشهير القديس العظيم هو أن الشر ليس بأزلي بل إنه طارئ أتى إلى حيز الوجود بسبب المعصية الأولى.

وينتج عن قولنا بأن الشر هو فساد الخير أي عن تشديدنا على عدم كينونة الشر من أصل الطبيعة البشرية أن الإنسان الواقع في أسر الشر قابل للخلاص منه وذلك فيما إذا حدث تدخل إلهي المصدر في صميم حياته. وهذا بالفعل ما تم في تاريخ الخلاص. سارع الله إلى إخبار كل من آدم وحواء بأنه سيرسل منقذاً ليسحق رأس الشيطان وليدمر الشر الكامن في قلب الإنسان. ويمكننا تلخيص كل أيام ما قبل الميلاد بكلمة واحدة: الموعد أو الوعد، أي وعد الله لتتميم خلاص وفداء البشرية. وفي الوقت المحدد، وفد عالمنا مسيح الله وجابه قوى الشر والظلام وانتصر عليها بموته الفدائي وبقيامته الجبارة. ومع أن ما قام به المسيح المخلص لم يعن اختفاء مظاهر الشر في ما تبقى من التاريخ، إلا أننا نحن الذين آمنا بالمخلص المسيح ننظر بعين الرجاء إلى ذلك اليوم الذي سيعلن فيه الله النصر النهائي والتام على الشر والشيطان وإذ ذاك تبدأ المرحلة الأخيرة والأبدية لملكوت الله.

وإلى أن يأتي ذلك اليوم الأخير، نعيش على أرضنا هذه متشبثين بمواعيد الله وثابتين على الرجاء القوي بأن الكلمة الأخيرة في عالمنا ليست لإبليس ولا لأعوانه من شياطين وبشر، بل تبقى في يد الله القدير المنتصر على الشر والذي يهبنا الغلبة بإيماننا بمن أرسله لإنقاذ العالم من سلطة الشر وطغيان إبليس.

  • عدد الزيارات: 5787