التلوث وحفظ البيئة -1
إذا تأملنا في موضوع نمو مفردات اللغات البشرية نلاحظ توّاً أنها تتكاثر بنسبة حاجة الناس إلى التعبير عن حالات معيشية جديدة لم تكن معروفة في الماضي. وعندما نبحث في نمو مفردات لغتنا العربية في النصف الثاني من القرن العشرين، نجد أننا قد لجأنا إلى استعمال تعابير جديدة تناسب ظروفنا الحياتية الحاضرة.
وهكذا نتكلم عن الراديو والتلفزة والفيديو والطائرات النفاثة وأجهزة الرادار. وإذا ما ركّزنا انتباهنا على موضوع الراديو مثلاً نتكلم عن الموجة القصيرة والموجة المتوسطة والموجة الطويلة وطولها الذي يرمز إليه بالأمتار وذبذبتها ويشار إليها بالكيلوهرتز أو الميجاهرتز. ومنذ السبعينات شاع استعمال جهاز الكمبيوتر أي الجهاز الحاسب والذي قد يشار إليه أيضاً بالدماغ الالكتروني وكثرت الوسائط العملية للاستفادة منه وصار يسخّر مثلاً للاستعمال كجهاز لمعالجة الكلمات أي لكتابة الرسائل والمقالات ولحفظها الكترونياً ضمن الجهاز وللاستفادة منها في المستقبل حسب ما تتطلبه الحاجة.
ولن أسترسل في هذه المقدمة بالكلام عن العديد من الأمور الباهرة التي نستفيد منها. وإذا كنت واقعياً وصادقاً مع نفسي أرى من واجبي أن أذكر بعض الأمور السلبية التي صاحبت هذا التقدم العلمي الباهر الذي شهده العالم ابتداء من عصر الثورة الصناعية. وسأخصص كلماتي الآن عن موضوع التلوث وحفظ البيئة لأنه يتصل اتصالاً وثيقاً بالحضارة العلمية والتقنية التي نعاصرها.
لابد أننا قرأنا في الصحف اليومية أو المجلات الإخبارية الأسبوعية عن تلوث الجو بغازات مضرّة بالصحة وكذلك عن تلوث الأرض وينابيع المياه بما فيها من أنهار وبحيرات كانت في الماضي خالية من المواد الكيميائية الضارة. وإذا كان لدينا جهاز التلفزيون فربما رأينا شريطاً خاصاً يظهر لنا بكل واقعية مقدار التلوث الهائل الذي حصل لهذا النهر أو ذلك الشاطئ البحري. يا ترى كيف نفسّر هذه الظاهرة المقلقة ونحن نفتخر في نفس الوقت بأننا قد وصلنا إلى قمّة التقدم العلمي والتقني؟
قبل كل شيء، علينا الإقرار أن البشرية لم تحسب كلفة التقدم العلمي وتطبيقه في الحياة اليومية. وهكذا يجدر بنا الاعتراف مبدئياً أن لكل تقدّم تقني مكاسبه ومضارّه. لا يجوز لنا كمخلوقات عاقلة بأن ننظر إلى طرف واحد من الواقع المعاش! خذ مثلاً موضوع السيارة. كلما ركبت في سيارة أو قدت سيارتك الخاصة فإنك ترسل إلى الجو غازات مضرة بالصحة. وهكذا يجدر بصانعي السيارات أن يقللوا من عدد وكمية المواد الضارة المنبعثة من الجو. وهذا ممكن كما حدث في السبعينات من هذا القرن عندما ظهر بصورة جلية أن مادة الرصاص التي كانت تمزج بالبنزين هي ضارة متى وصلت إلى الجو وعملت مفعولها في الجهاز البشري التنفسي وأثّرت على أدمغة الناس ولاسيما الأطفال. وهذا حدا ببعض بلاد العالم إلى تحريم إضافة الرصاص إلى البنزين وإلى تطوير محرّكات السيارات لكي لا تعود تتطلب وجود الرصاص في البنزين.
وبما أننا لا نستطيع العيش بدون سيارات أو باصات أو قطارات أو سفن أو طائرات، صار من واجبنا أن "نروّض" هذه المخترعات الحديثة أي أن نستعملها بكل دراية وحكمة. علينا أن ننظر إليها كخادمة لنا في حياتنا وأن لا نسمح لها بأن تتسلط علينا وتستعبدنا. ما أعنيه مثلاً أننا إذا اتكلنا كليّاً على السيارة كواسطة للتنقل ولم نعد نمشي كما كنا نقوم في الماضي، تضحي السيارة مهيمنة كلياً على حياتنا. وهذا ما حدث بالفعل في كثير من البلاد الصناعية حيث لا نجد الناس يسيرون على أقدامهم ولو كانت المسافة المقطوعة لا تزيد عن خمسمائة متر!
وينتج عن هذا النمط الغريب للحياة المعاصرة أننا نزيد من مشكلة تلوث الجو وكذلك نكثر من العوامل التي تضعفنا صحيّاً. فالسير على الأقدام هو أحسن نوع من الرياضة الجسدية. وكمل كتب أحد الأطباء في مجلة عربية أسبوعية:
"أما ممارسة التمارين الجسدية الإرادية والمنتظمة، أي التي نضيفها إلى نشاطنا الجسدي العادي اليومي، فتفيدنا كثيراً لأنها تمتاز بالحسنات الجمّة:
1_ بالقدرة على صرف الوحدات الحرارية التي نربحها من أكل المواد الدهنية والسكاكر.
2_ وقدرة السيطرة على الكولسترول والسكر في الدم لمنع الحوادث القلبية وانسداد الشرايين.
3_ وقدرة السيطرة على الوزن.
4_ وقدرة السيطرة على ضغط الدم للوقاية من أحداث القلب.
5_ وقدرة السيطرة على التدخين لتوازن الجهاز العصبي".
ذكرنا منذ لحظات أنه من واجبنا النظر إلى كل من ايجابيات وسلبيات المخترعات الحديثة التي صارت جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية. فإن قمنا بذلك صار بمقدورنا معالجة المشاكل المتأتية عن هذه المخترعات بطريقة عقلانية وعملية. ولكننا إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من الناحية التاريخية لا بد لنا من الإقرار أن البشرية لم تعط الطرف السلبي من المخترعات الاهتمام الكافي والمطلوب. لماذا تصرفنا بهذه الطريقة العشوائية التي أظهرت نوعاً غريباً من اللامسؤولية في مجابهتنا لتحديات الحضارة التكنولوجية المعاصرة؟
ليس الجواب بعسير فيما إذا اعترفنا بأن النظرة الحياتية الشاملة التي صاحبت التقدم العلمي الباهر في القرنين الماضيين كانت نظرة لا دينية لا تأبه بالله ولا بتعاليم وحيه المقدس. فمتى تخلصنا من إيماننا بالخالق نعود فننظر إلى أرضنا هذه وكأنها ملك لنا نتصرف بها كما نشاء. وهذه الرؤيا الناقصة للحياة البشرية تعد مسؤولة عن التلوث والاضرار بالبيئة الأرضية.
ولكننا إذا نظرنا إلى الحياة البشرية وكأنها تحت سلطة وهيمنة الله القدير خالق الكون والمعتني بشؤون بني البشر، نبعد إذ ذاك عن أفكارنا وتصوراتنا أية استقلالية مطلقة ونقر باتكاليتنا على الباري الذي يتطلب منا بأن نحترم الأرض وما عليها من هواء وماء ونبات وحيوان وبشر! ومن البديهي أن ما يزرعه الإنسان فإياه يحصد!
لا يكفينا أن نقوم بمجهودات هرقلية لتنظيف الجوّ والمياه والتقليل من سلبيات المخترعات المعاصرة. علينا أن نتّخذ أوّل خطوة مصيرية ألا وهي الإقرار التام والاعتراف القلبي بأننا لسنا أصحاب هذه الأرض ولا مالكيها. بل كما تغنّى النبيّ داود في المزمور الرابع والعشرين: للرب الأرض وملؤها، المسكونة وكلّ الساكنين فيها. لأنه على البحار أسّسها وعلى الأنهار ثبّتها. متى قمنا بذلك نكون قد خطونا الخطوة الأولى في مسيرتنا لتنقية البيئة وإيقاف التلوث الهدّام الذي عصف بحياة إنسان القسم الأخير من القرن العشرين!
- عدد الزيارات: 5171