Skip to main content

الفصل الخامس عشر: العيش بموجب قصد الله

هل الاعتقاد بقصد الله عقيدة خطرة؟ يؤكد البعض أنها كذلك، بل حتى أوغسطين وكلفين أصرا على ألا يجوز التكلم عنها في أثناء الوعظ إلا للناضجين في الإيمان. وقد قِيلَ الكثير عن أن هذه العقيدة تثير الشكوك بعدل الله، وتحرم الهالكين من أي اهتمام يُظهره الآخرون بخلاصهم، وتمنع من أن يكون للمسيحي المؤمن دافع حقيقي لاتباع حياة البر شخصياً أو للسعي لخلاص الهالكين. لكننا نعتقد أن هذا الظن غير صحيح. إن لهذه العقيدة إمكانات لا حد لها لتمجيد الحياة على الأرض. وإنّ علينا أن نعظ وننادي بها- وبالشكل الصحيح، طبعاً. علينا أن نعظ بها على أي حال.

لا ننكر أن سوء تفسير هذه العقيدة يجعلها عقيدةً خطرة. لكن هذا ينطبق على كل عقائد الكتاب المقدس. إذا استعرضنا تاريخ هذا البحث، نجد أن سوء التفسير الرئيسي لعقيدة قصد الله كان في فكرة "الاختيار السابق المزدوج" بما فيها من القول بالنعمة التي لا تُقاوم، من جهة، والاختيار للهلاك، من الجهة الأخرى. إن هذا تمثيلٌ مغلوط للعقيدة الصحيحة حسب الكتاب المقدس. وقد سبق أن بحثنا في الأخطاء التي يتضمنها هذا التمثيل المغلوط لعقيدة قصد الله، فلا حاجة لمزيد من البحث فيه. ربما تلزم الإشارة إلى أن ما يتعرض لتهمة كونه "عقيدة خطرة" هو فكرة قصد الله للنعمة مغلق- أي فكرة جبرية للحياة. لا حاجة بنا للتفتيش بعيداً في التاريخ لنجد تلك الجماعات الدينية التي كانت تعشق مسألة "التعيين السابق" وتغلو في التعلق بها، فارتكبت نتيجة لذلك أخطاء لا حصر لها في الحياة وفي التعليم.

لكن ليس من العدل أن نحكم ضد تعليم معين من الكتاب المقدس بسبب أخطاء ارتكبها أناسٌ في تقديمهم التعليم المذكور والعيش بموجبه. إن عقيدة قصد الله، العقيدة الكتابية كما بحثنا فيها على صفحات هذا الكتاب، لهي عقيدة مجيدة، ليس فقط من حيث فهمنا إياها بل أيضاً من حيث حياتنا في شركة مع الله وبعضنا مع بعض. إنها عقيدة تحمل إلى المؤمن أربعة أشياء قيّمة: (1) أنها تمكن المؤمن من أن يرى الله بمجده الحقيق. (2) أنها تعطيه نجماً هادياً في حياته. (3) أنها تجعل خدمة الله ممكنة بشكل مجيد لكل مؤمن بالمسيح. (4) أنها تعطي للاختبار الديني معنى وقوة. لنبحث الآن في كل من هذه القيم.

أولاً، إن فكرة قصد الله كما يقدّمها الكتاب المقدس تمكّن المؤمن من رؤية الله في مجده الحقيقي. إذا نظرنا إلى الله في نور تعليم الكتاب المقدس فإننا نرى تناسقاً وانسجاماً، إن في شخصه، أو في قصده أو في عمله. نرى أن كل عمل يعمله الله في العالم فبه يرمي إلى خير البشر- الخير الذي قصده الله منذ الأزل، الخير المؤسس على طبيعته بوصفه إله المحبة. إن العقبتين الكبريين اللتين تعترضان الإيمان بالله كما قدّمه يسوع وأعلنه هما وجود الشر في العالم وهلاك بعض البشر. وعندما نفحص هاتين العقبتين على ضوء بحثنا فإننا نجد أنهما لا تجعلان محبة الله أو عدله موضع شك أو تساؤل. ونرى أن قوته أيضاً ليست موضع شك، إذ أنه يستخدم الشر ويحوله لإنجاز الخير.

لكننا، لو تبنّينا العقيدة الكالفينية المتطرفة بدلاً من العقيدة الكتابية، فإننا سنواجه عقبات يصعب تخطيها تعترض إيماننا بإله ربنا يسوع المسيح. قال مارتن لوثر مرةً: يكون البابا أحط جميع البشر لو أنه فعلاً يستطيع إخراج الناس من المطهر ولكنه لا يستخدم صلاحياته تلك مجاناً وللجميع. وما ذا نقول نحن عن الله إذا افترضنا أنه يستطيع أن يخلّصَ جميع الناس ولكنه يقف متفرجاً ولا يخلصهم؟ إن الذين يتمسّكون بالعقيدة الكلفينية المتطرفة يستندون دائماً إلى القول بأن لدى الله سبباً يجعله يفعل ما يفعله، وإن هذا السبب يتفق مع طبيعته، مع أنه لا سبيل لمعرفة هذا السبب. إنهم يقرّون بوجود المشكلة، ولكنهم لا يجدون مفراً من التمسك بالاعتقاد بقصد الله.

أما العقيدة الأرمينية المناقضة للكلفينية فوضعها أضعف من هذه. فمع أنها تُظهر الله عادلاً لكنها تقدم لنا إلهاً لا حول له ولا قوة. لأننا، إذا كنا نقول بأن الله يعتمد على عمل البشر لكي ينجز خطته في الفداء، فذلك يجعل تأكيدات الكتاب المقدس، المتعلقة بالخلاص وبالله، تأكيدات لا قيمة لها. بل لا يعود من الممكن الاعتقاد بالخلاص بالنعمة، ولا يظل بالإمكان وجود تأكيد حقيقي من حيث المصير الأبدي. وبينما لا يضر الموقف الارميني فكرة محبة الله أو عدل الله فإنه يدمّر فكرة الله ذاتها. لأنه إذا لم يكن الله "العامل الخلّاق" في التاريخ، وفي الحياة، وفي الدين فما قيمة الصلاة إليه؟ وأين الرجاء في النجاح في العمل المسيحي؟ وكيف نعرف أن الشر سيُقضى عليه وأن الخيرَ سينتصرُ أخيراً؟ يقف المسيحي متحيراً بين الرأيين المتطرفين.إنه لا يريد الإذعان لهذا الرأي أو ذاك، ولكن أين يجب أن يقف؟ إننا نرى أن الموقفين على خطأ، إذ أن كلاً منهما يخطئ في تقديم الفكر الكتابي الصحيح لقصد الله. لا شك أن الله يقوم بالتحرك بشكل خلاق في العالم، وهو مهتم بافتداء البشر، ويعمل بما يتفق مع ما نعرفه من طبيعته. لا شيء يستطيع أن يعيق إتمام قصده في العالم، وهو غير مسؤول عن عصيان الإنسان الفرد الذي يرفض بركات الفداء. إن هذا هو المفهوم الضروري للفكرة المسيحية عن الله المؤسسة على إعلان يسوع المسيح.

ثانياً، إن الاعتقاد بقصد الله كما هو مقدم في الكتاب المقدس يعرّف المسيحي أين هو متجه في حياته. ليست حياة المسيحي في العالم حياة سهلة، بل إنها تصبح مستحيلة إذا لم يعرف المسيحي أين هو متجه وإذا لم يفهم ما الذي يحاول إنجازه في حياته. إذا كنا نُترك وشأننا فنقرر الاتجاه الذي نسلكه ونتخذ قراراتنا الأخلاقية التي نريدها فإننا نضلُّ لا محالة. إن عقيدة قصد الله تمدنا بحجر المحك الذي به نفحص جميع قرارات الحياة. إن عقيدة قصد الله تؤكد، من جهة أن لله قصداً في حياة كل فرد، وأن مسؤولية المسيحي الأولى هي أن يبحث ليعرف مشيئة الله في حياته فيتمّمها. وإنه ليرغب في ذلك إذ أنه على يقين من أن ما يريده الله له هو دائماً الأفضل لحياته. يعترف كل مسيحي أن رجاءه في العيش حياة ذات قيمة هو أن يسعى ليعرف إرشاد الله. فإن أي طريق آخر في الحياة سيؤدي به حتماً إلى الفشل.

إن ما يقوله الكتاب المقدس هو أن المؤمن الصادق في إيمانه يستطيع أن يعرف مشيئة الله لحياته. في الكتاب المقدس بضعة مبادئ يمكن أن نسترشد بها لنعرف مشيئة الله. (1) علينا أن نكون على استعداد لاتباع إرشاد الله خطوة فخطوة. إن الله لا يعلنٌ لنا دائماً كل طريقنا في الحياة دفعة واحدة، وكثيراً ما يجد الله أن ذلك غير ممكن. كثيرون وجدوا أنفسهم في أماكن لم يتوقعوا أن يكونوا فيها، ووجدوا أنفسهم أمام واجبات لم يحسبوا أن يكونوا يوماً مضطلعين بها. لكنهم عندما أعادوا النظر إلى الطريق التي ساروا فيها تبين لهم أن يد الله كانت تقودهم عند كل منعطف في طريق الحياة. يجب أن تكون صلاة المؤمن "عملي كفافي أعطني اليوم"، مثلما تكون صلاته "خبزي كفافي أعطني اليوم". (2) يجب أن نكون مستعدين لنعمل أولاً تلك الأعمال التي يصرّح الكتاب المقدس بأنها من واجب كل مسيحي. لسنا في حاجة إلى إرشاد خاص لنعرف أن من مشيئة الله أن نحيا حياة البر، وأن نقرأ الكتاب المقدس بانتظام، وأن ندعم عمل الكنيسة ونقوم بأشياء أخرى كثيرة. إن البعض الذين يصرون على القول بأنهم لم يشعروا قط بإرشاد الله في حياتهم ينسون أن الكتاب المقدس هو صوت الله يخاطبنا في أمر سيرنا في الحياة اليومية. إن من يتبع تعاليم الكتاب المقدس هو في الواقع يتبع توجيهات الله. (3) علينا أن نكون راضين أن نعمل ما تشير ظروف حياتنا أنه واجبٌ علينا. ليس هناك من فرق كبير بين الرجل "العملي" الذي يقول مع صاحب سفر الجامعة "كل ما تجده يدك لتفعله فافعله بقوتك" (جامعة 9: 10). والشخص الروحي الصوفي الذي يتبع "الصوت الداخلي" في حياته. إذا تذكرنا أن حياتنا كلها مرتبة من الله، وأنه هو الذي منحنا ما نملكه من قوى وإمكانات، وأننا موضوعون في مكاننا في التاريخ بفعل اختياره، فإننا حتماً سنرى أن ظروفنا ما هي إلا طريقة يهدي بها الله حياتنا في إرادته. (4) يمكننا أن نحس بانطباعات من الروح القدس تجيئنا استجابة لصلواتنا. إن هذا ممكن لكل مسيحي مؤمن، إذ أنه ليس امتيازاً خُصت به فئة محظوظة منم المؤمنين بل هو متاح لكل مؤمن. إن الغاية من الصلاة هي أن نتمم إرادة الله في حياتنا. يرغب الله في أن يعرّفَنا ما هي إرادته، وهو لذلك يكشفها لنا عندما نصلي طالبين منه الإرشاد والهداية.

ثالثاً، إن الاعتقاد بقصد الله وسيادته يشجعنا لنخدمه باهتمام.إن ذلك يجب أن يشجعنا. وقال البعض، من الناحية الأخرى، أنه ما دام العمل عمل الله فلماذا لا نتركه له ليقوم به. إن موقف هؤلاء جعلهم جبريين إلى حد أنهم لا يريدون بذل أي جهد في خدمة الله. وآخرون، وإن كانوا لا يصرّحون بموقفهم الجبري فإنهم يعيشون بموجب ذلك الموقف. إن الموقف المسيحي مختلف عن هذا كل الاختلاف. يقول المسيحي: ما دام هذا عمل الله فإننا راغبون في بذل حياتنا في إنجازه. نجد مثلاً على هذا في قصة داود وجيليات في العهد القديم (1 صموئيل 17: 38- 58). هبّ داود لمنازلة جيليات مدفوعاً بالاعتقاد "أن الحرب للرب" (الآية 47). إن اعتقاده ذاك لم يسمح له أن يقعد على رأس التلة وينتظر ليرى ما سيفعله الله، بل جعله يحمل مقلاعه وينزل للقاء الجبار، لا بقوة الإنسان المجردة بل بقوة الرب. إن اعتقاده أن العمل للرب لم يقعدْه عن العمل بل دفعه لعمل ما يمكنه عمله وللثقة بالرب ليهبه القوة الكافية. هذه هي الروح ذاتها التي اتصفت بها الحركة المسيحية منذ بدايتها في القرن الأول للميلاد، وإنها الروح التي يجب أن تدفعنا في الخدمة المكرسة.

إن الاعتقاد بقصد الله يعطينا دافعاً كافياً للخدمة باسمه. هناك الكثير من الخلاف حول الدافع الصحيح للخدمة. عبّر كثيرون عن اعتقادهم بأن الدافع الحقيقي للخدمة هو حاجة البشرية. لا يستطيع أحد أن ينكر أن البشرية في حاجة- بل في أمسّ الحاجة- للخدمة الروحية، غير أن المسيحي الذي يخدم وليس له غير هذا الدافع لا يلبث أن يفقد قوة الدفع في حياته. إن الدافع الحقيقي الوحيد للخدمة هو محبة الله. قال بولس: "لأن محبة المسيح تحصرنا" (2 كورنثوس 5: 14). وقال يسوع: "إن كنتم تحبونني فاحفظوا وصاياي" (يوحنا 14: 15). نعم إن الدافع الوحيد الذي يلازمنا ويدفعنا باستمرار في حياة الخدمة هو محبة الله.

إن الجزاء الوحيد الذي يحصل عليه من يخدم الله هو يقينه أنه يفعل ما يريده له الله. إن خدمة الله امتياز، وهذا الامتياز ذاته جزاء كافٍ للذين يحبون الله. ولا جزاء للذين لا يحبونه لأنهم لا يقدرون أن يخدموه. صحيح أن علينا أن نحب قريبنا كأنفسنا، ولكن محبة الإنسان للإنسان نابعة من محبته لله. إن محبتنا للقريب متأصلة في محبتنا لله وتكريسنا له. إننا لا نحب الإنسان من أجل الإنسان بل نحبه من أجل الله. ولا نخدم الإنسانَ لأننا نحبه بل نحبه بدليل أننا نخدمه. إن من الأشياء التي ينساها كُتَّابُ هذا الزمن عندما يتحدثون عن أبوة الله وأخوة الناس هو أن الأخوّة ممكنة فقط كنتيجة للتكريس لله. فالعلاقة الأفقية بين الناس تفتقر إلى العلاقة العمودية بالله.

ثم، إن الاعتقاد بقصد الله وسيادته يعطي المسيحي المؤمن قناعةً ورضى بمكانه الذي يحتله في الحياة ويهبه سروراً وسعادةً في خدمته لله. إن كنا نؤمن أن إمكاناتنا ومواهبنا وطاقاتنا مقررة لنا باختيار سيادة الله، فإننا سنحس بالقناعة والشكر على تلك المواهب والإمكانات والطاقات، حتى وإن بدت أقل مما أٌعطي لسوانا. إن كنا نؤمن أن الله هو الذي وضعنا في هذا العالم في المكان الذي نحن فيه فإننا سنشعر بالرضى في إشغال هذا المكان لمجده. إن الزوجة المؤمنة التي تعيش حياة التكريس للرب بينما تدبر شؤون بيتها لهي تخدم الله مثلما يخدمه أي مرسلٍ مكرّس. قد لا نستطيع دائماً رؤية الكيفية التي بها تنسجم خدمتنا مع خطة الله في الفداء، لكننا، إذ نعتقد بأن في يده السيادة الكاملة في هذا المجال، نؤمن أن خدمتنا تنسجم مع الخطة الإلهية، ونتشجع في إشغال مكان الخدمة ذاك بتكريس حقيقي.

إن الاعتقاد بقصد الله وسيادته يمكننا، كذلك، من خدمة الله بيقين وطمأنينة متأكدين من النجاح في حياتنا. إننا لا نقيس النجاح عن طريق الإحصاءات- الأسلوب الذي يقيس به الناس في العالم نجاحهم. بل نقيس نجاحنا بمقدار إنجازنا لإرادة الله. لكننا نحن الذين نخدم الله نثق بأننا سننجز الشيء الذي أُرْسِلْنا لإنجازه. لقد اتصفت حياة يسوع بصفات عجيبة، ومن تلك الصفات طمأنينته وثقته الهادئة في وجه عقبات بدت وكأنها لا يمكن التغلب عليها. إن سر تلك الطمأنينة هو شعوره بأنه يعيش في إرادة الله وأن الله لن يدعه يفشل. ربما لم يكن دائماً على علمٍ بما ستأتي به الأحداث في الأحوال التي أحاطت به، لكنه كان واثقاً من قوة أبيه ومن أن النتيجة النهائية ستكون حسب إرادة الله. والمسيحي يستطيع أن يحصل على هذا التأكيد وهذه الثقة عينها. إنه يعمل بناءً على توجيه من الله، معتمداً على قوته، ولذلك لن يفشل. ليس القصد من هذا تشجيع الإنسان على التراخي في الخدمة والاكتفاء بأقل مما يجب، ومن يحب الله بالحق لا يقبل بالتراخي في خدمته. إن الثقة والتأكيد اللذين كانا على مدار البحث ليشجعا إيماننا بقوة الله التي ترافق كل من يسعى ليخدمه في العالم.

إن هذا لينبهنا إلى خطأ آخر في تفكير بعض الأشخاص، ألا وهو الاعتقاد أننا قد نجد أنفسنا مسؤولين يوماً عن هلاك بعض الناس. إن الفكرة التي يحملها هؤلاء هي أننا، إذا لم نشهد كما يجب فإن البعض لن يسمعوا رسالة الإنجيل فيهلكون بسبب إحجامنا عن الشهادة. هذا غير صحيح. لدينا ما يؤكد لنا أن الله مهتم أكثر منا بخلاص الناس، وأنه سيخلص جميع الذين بالإمكان أن يخلصوا. إن الاعتقاد بقصد الله يتضمن كذلك الاعتقاد بأن الله اختار أن يخلص جميع الذين بالإمكان خلاصهم كما اختار أيضاً الوسيلة التي بها ينجز ذلك الخلاص. إن حقيقة علمه السابق تدحض الفكرة القائلة بأنه إذا أخفقت الوسائل البشرية ولم تقم بواجب البشارة كانت النتيجة إخفاق الله في إتمام قصده.

يقول بعض الأشخاص بأن هذا الموقف، أي أن الله سيتمم قصده بخلاص مختاريه، موقف يلاشي فينا كل دافع للخدمة ونشر البشارة. لكن إذا كان الدافع للخدمة، كما سبق ورأينا، هو المحبة لله، فكيف يمكن للاعتقاد بسيادة الله على برنامجه للفداء أن ينزع هذا الدافع من نفوس خدامه؟ لا وألف لا. إن الاعتقاد بقصد الله وسيادته، في الواقع، يجعل المؤمن يقوم بالخدمة بطمأنينة لا يخالطها أي قلق أو اضطراب. نحن، طبعاً، مسؤولون أمام الله عن حياتنا، إذ أن "كل واحد منا سيعطي عن نفسه حساباً لله" (رومية 14: 12). ولكن ليس من دليل على أننا سنكون مسؤولين عن هلاك أي من الناس بسبب إخفاقنا في الخدمة. ليس من عاقلٍ يرضى بتحمل مثل هذه المسؤولية. لو أن كل واعظ يقف على المنبر ليتكلم بالكلمة يشعر بأن خلاص أي إنسانٍ من سامعيه ومصيره الأبدي متوقّفٌ على الكيفية التي بها يقدم الرسالة فإنه سيجد أنه أعجز من أن يحمل مسؤولية كتلك. إن من الخطأ، بكل تأكيد، أن يظن أحدٌ أن له في عالم الله مثل تلك المكانة. يكفي خادم الله الأمين أن يكون مسؤولاً أمام الله عن خدمته، وهذا كافٍ ليجعله يسعى لكي يتفوق في تلك الخدمة ويقوم بها على أكمل وجهٍ وأن يتبع في ذلك إرشاد الله. وقد يقول قائلٌ أن الخادم، إذا شعر أن خلاص العالم غير متوقف على خدمته، فإنه قد يتخلى عن الخدمة. ولكن، كيف يمكن لمن يحب الله أن يتخلى عن خدمته؟ إن حياته كلها تكون مملوءة بالغنى لأنها مرتبطة بحياة الله في شركة الفداء. ولا يريد أن يخسر امتياز الخدمة، إذ أن حياته تفقد معناها إذا لم تبذل في خدمة الله. نجد الروح الصحيحة التي يتحلى بها خادم الله في كلمة بولس: "أقمع جسدي وأستعبده حتى بعدما كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً" (1 كورنثوس 9: 27). إن يرفض الله أحد خدامه يعني أن يلقي به إلى كومة المهملات إذ لم يعد ذا نفع للسيد.هذه القضية كانت تثير اهتمام بولس. لم يكن بولس يخشى، إذا هو فشل في الخدمة أن يفشل الله أيضاً. كان يخاف، إذا هو فشل أن يلقي به الله جانباً ويستخدم أدوات أخرى لإنجاز عمله. إن خوفاً كهذا يمكن للمرء احتماله. إنه كافٍ ليجعل من يحب الله صادقاً في ولائه له.

أخيراً، إن الاعتقاد بقصد الله هو الذي يجعل للحياة المسيحية معنى. إذا كنا لا نعتقد بأن لله قصداً في حياة كل مؤمن، وأنه يقوم بإتمام ذلك القصد، فإن حياتنا المسيحية تمسي بلا معنى وبلا طعم، ولا يبقى فيها أي تحدٍّ. بينما يعطي الاعتقاد بقصد الله غنى ومعنى لكل ناحية من نواحي حياتنا.

ففي الدرجة الأولى يصير لعلاقتنا ضمن الكنيسة معنى جديد. إننا كثيراً ما ننظر حولنا في كنائسنا المحلية فنرى أناساً، نوعاً ما، غير جذابين بشكل خاص، وليس فيهم ما يحمل الآخرين على مصاحبتهم. نرى برنامج الكنيسة وأسلوب العبادة فيها غير جذابين وتبدو لنا دلائل تشير إلى أن حياتنا الكنسية، من ناحية، مضيعة للوقت. لكننا إذ نواجه حقيقة قصد الله نذكر أن الله دعانا إلى هذه العلاقة بالكنيسة. فهو بعد أن خلصنا وجهزنا للخدمة ربطنا بهذه الكنيسة، وإن عمل الله في عالمنا هذا لا يتم إلا بواسطة الكنائس. إن ما نتطلع حوله لا بد له من أن يرى أن إنجازات الله الكبرى لا تتم عن طرق الأفراد الذين يعملون في عزلة عن سواهم لكنها تتم بواسطة مجموعات من المفديين الذين تآلفوا واتحدوا معاً ليخدموا قضية المسيح ويروّجوها. لذلك عندما ننضم إلى جماعةٍ أرضية من أتباع الله نلاحظ أنها أكثر من مجرد جماعة أرضية. نجد أنها جمعية خلاصية أسسها الله، ويباركها ويسكن فيها وهو يعمل ليخلص العالم من خطيته. إن علاقتنا الكنسية علاقة ذات معنى حقيق وأهمية إذا كانت تلك فكرتنا عن الكنيسة.

ثم عن أعمال العبادة التي نقوم بها تجد معناها وقيمتها في الفكرة التي نحملها عن قصد الله في حياتنا. يظن كثير من الناس أن القصد من أعمال العبادة، أمثال الترانيم، والصلاة، وقراءة الكلمة المقدسة، هي الحصول على شعور أو سرور خاص نتيجة العبادة. والواقع هو أن الكتاب المقدس يبين لنا سبباً واحداً للعبادة- وذلك هو أن نجد من خلال العبادة إرادة الله لحياتنا. إن الغاية من الصلاة والتسبيح وقراءة الكتاب المقدس هي أن تصير لنا شركة مع الله ولنفهم ماذا يريد منا أن نفعله. ليست الصلاة طريقة نستخدمها فنستدرج بها الله ليحقق إرادتنا، بل إنها طريقة يرشدنا الله بها لنعمل نحن إرادته. قد يقول كثير من المشككين أن إرادة الله مسألة غامضة ولا يمكن الاهتداء إليها، ولكن هناك من يعرفون أن هذا غير صحيح. لأن الذين يسعون بإخلاص ليعرفوا إرادة الله، الذين يعبدون الله ويصلون إليه بإخلاص، يهتدون على تلك الإرادة. إنهم قد لا يجدونها مكتوبة بأحرف تراها العين البشرية في كبد السماء، ولا يسمعونها ألفاظاً واضحة للأذن البشرية، لكنهم يعرفونها عن طريق انطباعات في القلب يعطيها الروح القدس في أثناء العبادة.

على الأساس ذاته، إن جهادنا في طريق البر يكون ذا قيمة ومعنى إذا كان جهاداً يجري في قصد الله في حياتنا. إننا، ونحن نصارع تجارب العالم ونجاهد لنحافظ على حياة البر في العالم، قد نعطى مشجعات ودوافع كثيرة تشد أزرنا. لكن التشجيع الوحيد الذي له معنى حقيقي هو أننا في الصراع يمنحنا الله القوة لنخدمه ونعمل إرادته. إن العقل البشري لا يقبل دائماً أن يتجنب الخطية لمجرد أنها تؤذي من يفعلها ويتوقع لتجنب الخطية سبباً آخر أهم وأعظم. لا يندفع المؤمن في حياته المسيحية بمجرد الخوف من خسارة نفسه في الأبدية، إذ أن لديه التأكيد أنه مخلص. إن الذي يدفع المؤمن في الحياة المقدسة بعيداً عن الخطية دافع داخلي. قد يسقط المؤمن في خطية ما ولكنه لا يستريح إلى ذلك. إن فيه ما يدفعه إلى فوق، وذلك هو حبه لله ورغبته في إرضائه.

لقد رأينا أن قصد الله في الحياة المسيحية عقيدة هامة. إن الحياة المسيحية كلها تدور حول هذا التعليم. إن بإمكاننا أن نتطلع فنرى يد الله عاملة في حياة المسيحيين وبواسطة حياتهم، لا حسبما تشاء الصدف ولكن بموجب اختيار الله القدير في سيادته. إننا نلاحظ بين حين وآخر أن ما نظن أحياناً أنه الإنجاز الذي تم نتيجة لجهودنا هو في الواقع ما تم نتيجة لقوة الله، وهذا يجعلنا نحس بصغرنا وتواضعنا. إن مجد حياتنا كلها هو في تكريس أنفسنا تكريساً تلقائياً لله وأبينا. وفي هذا التكريس وهذه الخدمة نجد تحقيقاً وتكميلاً لحياتنا البشرية، وسروراً وسعادة لقلوبنا، وسلاماً لأفكارنا يفوق فهم البشر وإدراكهم.

  • عدد الزيارات: 4437