Skip to main content

الفصل السابع: موت المسيح

ثالثاً: عمل المسيح

بما أن الإنسان خاطئ، فانه في حاجة إلى مخلّص، وقد جاء يسوع المسيح لإتمام هذا الدور "وان الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم" (1يوحنا 4: 14) والواقع لا يستطيع أحد أن يكون مخلّصاً للبشر سوى ابن الله وحده، وسوف نكشف القناع - في هذا الفصل وفي الفصل التالي - عن كيفية إتمامه هذا الخلاص.

فالخلاص معناه النجاة من الخطية، ولأن للخطية ثلاث نتائج رئيسية - كما أسلفنا - فيتضمن الخلاص، تحرر الإنسان منها جميعاً ففي يسوع المسيح مخلّصنا يمكن أن نرجع من البطل والعزلة، لكي نتصالح مع الله الآب في السماء.. ونتحرر من عبوديتنا الأدبية، وأن يحل محل النفور وعدم الانسجام، طابع شركة المحبة، وقد جعل المسيح الجانب الأول للخلاص ممكناً بموته، والجانب الثاني بعطية روحة القدوس، والجانب الثالث بناء كنيسته. وسوف يكون الأمر الأول موضوع حديثنا في هذا الفصل، على أن يكون الأمران الثاني والثالث موضوع البحث في الفصل التالي.

وصف الرسول بولس عمل المسبح بأنه: "خدمة المصالحة" (2كورنثوس 5: 18) كما وصف إنجيله بأنه "كلمة المصالحة" (5: 19) وزد على ذلك فانه يزيدها وضوحاً في هذا النص، حيث يتحدث عن نشأة المصالحة وأصلها. فالله هو منشؤها ومصدرها كما يقول: "ولكن الكل من الله الذي صالحنا لنفسه" (5: 18) ثم "إن الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه " (5: 19) وإن كل ما تم لنا بواسطة جسد يسوع فوق الصليب، كان أصلاً في فكر وقلب الله الأزلي، وان كل تفسير لموت المسيح أو خلاص الإنسان، لا يؤيد هذه الحقيقة الواقعة، لا يعتبر مخلصاً وموالياً لتعليم الكتاب المقدس "لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (يوحنا 3: 16) وحينما يكتب الرسول بولس عن مصالحة الخطاة لله، نراه متمكناً من لغته وأقواله، فما يرسمه الله ويريده يتممه المسيح بموته "لأنه فيه سُرَّ أنْ يحلّ كل الملء وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم ما في السموات" (كولوسي 1: 19، 20) إن الكلمة الأصلية التي ترجمت "مصالحة" هي هي التي وردت في بعض الترجمات "كفارة" في رومية 5: 11 وان الكلمة الإنكليزية التي تعني "الكفارة" تدل على عمل بواسطته يصل فريقان متنافران إلى "واحد" أو إلى حالة من الوحدة بها ينعمان، ويقول الرسول بولس في هذا النص إننا قد نلنا هذه "الكفارة" أو بالحري "المصالحة" بواسطة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح، فلم نحصل عليها نحن بجهودنا الشخصية، ولكنها عطية مجانية، لأن الخطية سبّبت إبعادنا عن الله، وقد أتمّ لنا الصليب الكفارة والمصالحة.. وولّدت لنا الخطية عداوة، وأما الصليب فقد أعاد إلينا السلام، خلقت الخطية هوة بين الإنسان والله ووضع الصليب جسراً فوق هذه الهوة، حطّمت الخطية الشركة، أما الصليب فقد استردّها أو بعبارة أخرى، كما كتب الرسول بولس إلى أهل رومية "لأن أجرة الخطية هي موت، وأما هبة الله فهي حياة أبدية بالمسيح يسوع ربّنا" (رومية 6: 23).

وسوف ننبّر على أمرين ونحن نحاول أن نوصّل ما يعلّمه الكتاب المقدس عن الصليب وهما:

1. مركزية الصليب

2. معنى الصليب


1ـ مركزية الصليب

لا مبالغة في القول، إن الشخص الرئيسي في الكتاب هو يسوع المسيح، وان الظاهرة الرئيسية في حياته كما يصوّرها الكتاب هي موته، وليس هذا أيضاً بالعجيب، لأن غاية الكتاب غاية عملية جوهرية.. إذ هو دليل الخلاص للخطاة، فإن كان الحال كذلك فمن المحتم أن المسيح المصلوب هو الشخصية البارزة، لأن فيه الخلاص لا سواه، ولهذا استطاع المسيح أن يوبّخ تلميذي عمواس، اللذين امتلكا الكتب المقدسة ودرساها ولكنهما لم يدركا ضرورة موته فقال لهما: "أيها الغبيّان والبطيئا القلوب في الإيمان بجميع ما تكلم به الأنبياء أما كان ينبغي أن المسيح يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" ومن ثم يواصل لوقا حديثه قائلاً: "ثم ابتدأ (يسوع) من موسى ومن جميع الأنبياء يفسّر لهما الأمور المختصة به في جميع الكتب" (لوقا 24: 25- 27).

كانت ديانة العهد القديم متعلقة بالذبائح منذ البدء، فمنذ عهد هابيل الذي قدّم من أبكار غنمه ومن سمانها، نظر الرب إلى هابيل وقربانه (تكوين 4: 4، 5) ثم أخذ شعب الرب يقدّمون له الذبائح وبنيت المذابح، وذبحت الحيوانات، وسفك الدم قبل أن تأتي شريعة موسى اللاوية بزمن طويل، وفي أيام موسى، بعد أن جدد الله عهده مع شعبه على جبل سيناء، تنظّم - كل ما كان تلقائياً وعرضياً - تنظم عن طريق فرائض إلهية.. وقد احتجّ أنبياء القرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، ضد طقسية العبادة، وفساد وانحطاط العابدين، ومع هذا فقد ظلّ نظام الذبائح قائماً بدون انقطاع، إلى وقت خراب الهيكل في سنة 70 ميلادية، وكان كل يهودي يألف الفرائض والطقوس المختصة بذبائح المحرقة، وتقدمة الملء، وتقدمة الشكر، وذبيحة الخطية، وذبيحة الإثم، والتقدمات المناسبة، كما كان يلم تماماً بالأوقات، والمناسبات - يومية وأسبوعية وشهرية وسنوية - لتقديم هذه الذبائح والتقدمات، وما من يهودي - مهما بلغ ضعف إدراكه الديني - إلا ويعرف الحقيقة الأساسية في كل هذه العملية التهذيبية انه "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة" (عبرانيين 9: 22).

فإذا كانت ذبائح العهد القديم ترمز بصورة منظورة إلى ذبيحة المسيح العظمى، فإن الأنبياء والمرنمين في سفر المزامير، قد تنبأوا عن آلامه أيضاً، ويمكننا أن نراها في صور باهتة خفيفة في شخص المتألم البريء، الذي اضطهد وتألم ظلماً ومن غير حق، في مزامير مختلفة، طبقت فيما بعد على يسوع، وها نحن نراه في صورة الراعي الذي ذكره النبي زكريا، وقد ضُرب وتبددت خرافه (زكريا 13: 7 قابل مرقس 14: 20) كما صوره دانيال بالمسيح الرئيس الذي يُقطع (دانيال 9: 25، 26) وفوق الكل نراه ممثلاً في الشخص الشريف الذي يظهر في الأناشيد الخاصة بالعبد المتألم، كما أوردها النبي أشعياء قرب نهاية سفره وقد قيل عنه انه "رجل أوجاع، محتقر ومرذول مجروح لأجل معاصينا، مسحوق لأجل آثامنا.. مثل شاة تساق إلى الذبح، وهو حمل خطايا كثيرين" (أشعياء 53) وهكذا هو مكتوب "كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث" (لوقا 24: 46).

لما جاء يسوع عرف نفسه أنه ابن الله، المعيّن منذ البدء، وعلم يقيناً بأن الكتب المقدسة تشهد له، وأنه فيه يتم انتظارهم، ويبدو هذا واضحاً وصريحاً في إشارته عن آلامه العتيدة أن تكون، وقد جاءت نقطة التحول في خدمته في قيصرية فيلبس حيث "ابتدأ يعلّم تلاميذه أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً" (مرقس 8: 71) وذلك حالاً بعد أن اعترف سمعان بطرس بأنه المسيح ابن الله الحي... ولعلنا نراه في هذه الكلمة "ينبغي " وقد أوضح لنا روح الإلزام والحتمية الموضوعة عليه في الكتب المقدسة، كإعلان لإرادة الآب والتي كرّرها كثيراً في تعاليمه فقد عرف أنه كانت له "صبغة يصطبغها" وأنه منحصر حتى تكمل (لوقا 12: 50) وكان يسير بانتظام نحو ساعته التي قال عنها في إنجيل يوحنا عدة مرات أنها "لم تأت بعد" والتي عنها قال أخيراً قبيل تسليمه، وشبح الصليب جاثم أمامه "أيها الآب قد أتت الساعة" (يوحنا 17: 1) ولعل وقوع المصيبة خير من انتظارها، فإن انتظار "الساعة" قد ملأه بالألم والانزعاج حتى قال: "الآن نفسي قد اضطربت وماذا أقول أيها الآب نجنّي من هذه الساعة. ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة. أيها الآب مجد اسمك" (يوحنا 12: 27، 28) ولما حانت ساعة تسليمه، واستلّ سمعان سيفه ليحمي سيّده، وضرب عبد رئيس الكهنة فقطع أذنه، انتهره يسوع قائلاً: "ضع سيفك في الغمد. الكأس التي أعطاني الآب ألا اشربها؟" (يوحنا 18: 11) ويذكر متى أن يسوع أضاف قوله: "أتظن أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدّم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة. فكيف تكمل الكتب انه هكذا ينبغي أن يكون" (متى 26: 54،53).

إن أهمية الصليب العظمى التي أنبأ بها العهد القديم، وعلّم بها يسوع، صارت حقيقة مدرّكة لدى كتبة العهد الجديد، فقد أفرد البشيرون جانباً كبيراً من بشائرهم، للأسبوع الأخير للمسيح وموته بالنسبة لما أعطوه لخدمته وحياته، فقد شغلت الحوادث ما بين دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم حتى صعوده الانتصاري إلى السماء شغلت هذه الحوادث خمسي الإنجيل الأول، وثلاثة أخماس الثاني وثلث الثالث، ونحو نصف الرابع تقريباً، وان هذا لمدهش حقاً لا سيما في إنجيل يوحنا الذي يقسم أحياناً إلى قسمين متساويين، دُعي القسم الأول باسم "سفر الآيات والمعجزات" بينما دُعي الثاني "سفر الآلام". وقد أشارت الرسائل صراحة، لا سيما رسائل بولس، بما ذكرته الأناجيل ضمنياً وتلميحاً، فلم يأل بولس جهداً في تذكير قارئيه بالصليب، وكان هو نفسه يشعر شعوراً عميقاً، بأنه مديون للمخلص الذي مات من أجله "ابن الله.. الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" كما قال (غلاطية 2: 20) ولذلك "حاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح" (غلاطية 6: 14) وكان لهذا الاختبار وهذا التصميم تأثير جلي في خدمته، فالأفضلية التي أعطاها لرسالة الصليب في كرازته لم ترد، في أي مكان آخر، بمثل الوضوح الذي جاء في رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس وقد كان الكورنثيون عرضة للوقوع في شراك الفلسفة اليونانية ودهائها، ولكن الرسول لم يكن يساوم على رسالة الإنجيل بل كتب في صراحة يقول: "لأن اليهود يسألون آية واليونانيون يطلبون حكمة. ولكننا نحن نكرز بالمسيح مصلوباً لليهود عثرة ولليونانيين جهالة، وأما للمدعوين يهوداً ويونانيين فبالمسيح قوة الله وحكمة الله" (1كورنثوس 1: 22- 24) وهذا نفس ما كان يملك بولس، وما نادى به في كورنثوس بعدما ترك أثينا في رحلته التبشيرية الثانية قائلاً: "لم أعزم أن أعرف شيئاً بينكم إلا يسوع المسيح وإياه مصلوباً" (1 كورنثوس 2: 2) ثم يقول أيضاً في (15: 3) "فإنني سلّمت إليكم في الأول ما قبلته أيضاً أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب".

أما ما فكر به الرسول بطرس وما كتبه عن الصليب، فسوف نراه فيما بعد، وهيا بنا نتأمل قليلاً في الرسالة إلى العبرانيين، حيث ورد صريحاً وبكل جلاء انه "قد أظهر مرة عند انقضاء الدهور ليبطل الخطية بذبيحة نفسه" (عبرانيين 9: 26) وعندما نصل إلى سفر الرؤيا وهو السفر الرائع الغامض، نلقي نظرة على يسوع الممجّد بقرب عرش الله في السماء، ليس فقط "الأسد الذي من سبط يهوذا" ولكن "الخروف القائم كأنه مذبوح" (رؤيا 5: 6،5) ونسمع جموع القديسين والملائكة الذين لا حصر لهم ولا عد يسبحون بحمد، وبصوت عظيم قائلين: "مستحق هو الخروف المذبوح أن يأخذ القدرة والغنى والحكمة والقوة والكرامة والمجد والبركة" (رؤيا 5: 12).

ويمكننا من بداءة سفر التكوين إلى خاتمة سفر الرؤيا إلى خاتمة سفر الرؤيا، أن نتتبع ما أسماه البعض "بالخيط القرمزي "وهو أشبه بخيط ثوسيوس الذي يساعدنا على معرفة الطريق في بحر الكتب المقدسة الخضمّ، وما يعلّمه لنا الكتاب بشأن مركزية صليب مخلصنا، أيقنته الكنيسة المسيحية. وكثير من الكنائس ترسم شارة الصليب عند المعمودية، ويقيمون صليبا ًعلى قبر الميت، وكم من كنيسة شُيّدت على شكل صليب، وكم من مسيحي يعلّق الصليب على صدره أو يزين به جيده، ولم يكن هذا عَرَضاً ومن باب الصدفة، ولكنه جوهري لأن الصليب رمز إيماننا، وما يقال عما رآه الإمبراطور قسطنطين في الفضاء نراه نحن على صفحات كتابنا المقدس: "لا نصرة بدون الصليب" ولا مسيحية بدون الصليب.


2ـ معنى الصليب

أما بعد وقد حاولت أن أبيّن مركزية الصليب، ينبغي أن أسعى لأكشف معناه، ولكن لا أجسر أن أتناول الموضوع، قبل أن أعترف بصراحة، بأن الكثير منه سوف يبقى سراً خفياً، ذلكم لأن الصليب هو المحور الذي تدور حوله أحداث التاريخ، ويا للعجب كيف أن عقولنا الضعيفة لا تدركه تماماً، ولا بد أن يأتي اليوم الذي فيه ينقشع الحجاب، وتُحل كل الألغاز ونرى المسيح كما هو، ونعبده إلى الأبد، لأجل كل ما عمل "فإننا ننظر الآن في مرآة في لغز، لكن حينئذ وجهاً لوجه. الآن اعرف بعض المعرفة ولكني سأعرف كما عرفت" (1كورنثوس 13: 12) هذا ما قاله الرسول بولس مع كل ما هو عليه من علم وتهذيب وإعلانات، وان كان هو قد قال هذا فماذا نقول تحن؟

وسوف اكتفي بمحاولة تفسير بعض الشواهد التي أشارت إلى موت يسوع، كما أوردها سمعان بطرس في رسالته الأولى، وقد اخترت رسائل بطرس قصداً، لثلاثة أسباب:

أولاً: لأن بطرس كان واحداً من أصفياء المسيح الثلاثة "بطرس ويعقوب ويوحنا" وهم يكونون ثالوثاً، تمتعوا بشركة مع يسوع أكثر من بقية الإثني عشر، ولذلك يعتبر بطرس واحداً ممن فهموا فكر يسوع وتعليمه عن موته وحقيقة الأمر، إننا نجد في رسالته الأولى عدة إشارات واضحة جلية أخذها من تعليم سيده.

ثانياً: إنني أرجع إلى بطرس وكلي ثقة، لأنه كان بادىء ذي بدء، متردداً في قبول ضرورة آلام المسيح، ومع أنه كان أول شخص اعترف بشخص المسيح ابن الله، لكنه كان الأول أيضاً لينكر الحاجة إلى موته فذاك الذي صرح بقوله: "أنت المسيح" هو هو الذي صرخ بشدة قائلاً: "حاشاك يا رب. لا يكون لك هذا" عندما بدأ يسوع يعلّم بأنه ينبغي أن يتألم، وظل تحامل بطرس ضد الفكرة القائلة "إن المسيح يموت" طيلة حياة يسوع الباقية، حتى إنه حاول الدفاع عنه في بستان جثسيماني، ولما تم القبض على يسوع تبعه بطرس من بعيد، وأنكره ثلاث مرات أثناء المحاكمة، وما كانت الدموع التي ذرفها، دموع توبيخ الضمير فحسب، بل كانت دموع اليأس وخيبة الأمل، ولم يبدأ سمعان بطرس يفهم ويصدّق "بأن المسيح ينبغي أن يتألم بهذا ويدخل إلى مجده" إلا بعد القيامة عندما علّم يسوع الرسل من الكتب المقدسة هذه الحقيقة (لوقا 24: 26) وفي خلال بضعة أسابيع، استطاع بطرس أن يلمّ بكل الحق ويتمسك به بشدة، حتى بلغ به الأمر أن خاطب الجموع في أروقة الهيكل بهذه الكلمات: "وأما الله فما سبق وأنبأ به بأفواه جميع أنبيائه أن المسيح يتألم تممه هكذا" (أعمال 3: 18) وتضم رسالته الأولى عدة شواهد عن "آلام المسيح ومجده..." وكم من مرة نتردد نحن أولاً أن نعترف بضرورة ذلك، ونتباطأ في فهم معنى الصليب، وإن كان هناك من يستطيع أن يقنعنا ويعلّمنا، فهو سمعان بطرس.

ثالثاً: إن الإشارة للصليب في رسالة بطرس الأولى جاءت عرضية، فلو أن بطرس تعمّد - عن قصد - الدفاع عن حتمية آلام المسيح، لشككنا فيه، وحسبناه شخصاً لا يُصدّق ولا يعوّل عليه. ولكن كل إشارته جاءت طبيعية ساذجة بريئة، ولم يكن في موقف يمكنّه من وضع عقائد لاهوتية، لكنه كان يقدّم مجرد واجبات أدبية واضحة، ويحث الناس أن يكونوا مقدسين، وأن يحتملوا الآلام صابرين، ثم يقودهم إلى الصليب للإلهام والقدرة.

وان أطول نص جاء في رسالته بشأن موت المسيح، ورد في الإصحاح الثاني، ويبدأ من العدد الثامن عشر حتى نهاية الإصحاح وأرى أن نفحصه بالتدقيق والتفصيل، حيث نلاحظ بطرس يدلنا بأن المسيح المصلوب، مات مثالاً لنا أولاً. وحاملاً لخطايانا ثانياً.

1ـ مات المسيح مثالا لنا:

نلاحظ إن الاضطهاد هو أساس هذه الرسالة، وقد عُرف الإمبراطور نيرون بشدة عدائه للكنيسة المسيحية، حتى خارت قوى المسيحيين وذابت قلوبهم من شدة الخوف، وكانت قد بدأت بالفعل أعمال العدوان وآثار الاضطهاد ، حتى أن الحالة كانت تسير من سيء إلى أسوأ، وبين المشاكل المعقدة، مشكلة الخدم المسيحيين الذين يشتغلون عند أسيادهم الوثنيين، وكانوا يتساءلون كيف يتصرفون لو أسيئت معاملتهم؟ ولكي يجيب على هذا السؤال كتب بطرس رسالته إلى المسيحيين المتغربين من شتات بنتس وغلاطية وكبدوكية وآسية وبيثينة، وقدّم لهم نصيحته واضحة صريحة مؤكداً لهم أن لا مجد لهم إن كانوا يلطمون مخطئين، داعياً إياهم أن يتألموا "من أجل البرّ" وألا يقاوموا أو ينتقموا لأنفسهم، بل بجب أن يخضعوا، لأن احتمال الأحزان والألم ظلماً، فضل عند الله، ومن ثم يسمو بطرس بفكره إلى الصليب، ليظهر أن الآلام - بغير حق- جزء من الدعوة المسيحية ويقول: "فان المسيح أيضاً تألم لأجلنا تاركاً لنا مثالاً لكي نتبع خطواته" (2: 21) "الذي لم يفعل خطية ولا وجد في فمه مكر، الذي إذ شتم لم يكن يشتم عوضاً، وإذ تألم لم يكن يهدد، بل كان يسلم لمن يقضي بعدل".

"تاركاً لنا مثالاً" أن الكلمة اليونانية التي استخدمها بطرس هنا، والتي ترجمت "مثالاً" كلمة فريدة وعجيبة، لم ترد في مكان آخر في العهد الجديد، وتعني أصلاً دفتر المعلّم الذي كتبت عليه الحروف الهجائية، نموذجاً للتلميذ الذي يتعلم الكتابة والقراءة.. وإذا استطعنا أن نتقن الحروف الأولية أ ب ج من المحبة المسيحية ينبغي أن نطبق حياتنا على مثال يسوع، يجب أن "نتبع خطواته" نعم إنها كلمة خلاّقة فصيحة، حين تصدر عن قلم بطرس الذي افتخر قبلاً بأنه مستعد أن، يذهب مع يسوع إلى السجن وإلى الموت لكنه عندما جد الجد "تبعه من بعيد" وقد جدد يسوع دعوته له عند بحر الجليل وناداه قائلاً: "اتبعني" (يوحنا 21: 22،19) ولهذا يدعو بطرس قارئيه، أن يرافقوه وهو يحاول أن يتبع خطوات يسوع في طاعة أكثر.

إن الصليب يتحدانا في القرن العشرين، كما كان يتحدى الشعب في القرن الأول، وهو يناسب المواطنين في العصر الحاضر سواء في بيوتهم أو أعمالهم، كما ناسب العبيد في بيوت الرومان قديماً... ولا شيء يضاد طبيعتنا وميولنا أكثر من هذه الوصية التي تأمرنا بالخضوع وعدم المقاومة واحتمال الجور الظالم، وغلب الشر بالخير، لأننا نميل إلى الدفاع عن أنفسنا عادة، وإذا انغلبنا نقوم بأسرع من البرق ونبادر لرد الصاع صاعين، أما الصليب فيأمرنا أن نحتمل الأذى ونحب العدو، ونسلم الأمر كله لله.

ولم يكن موت المسيح مجرد قدوة للإلهام والوحي فحسب، بل انه لو لم يكن أكثر من ذلك، لأضحت بعض قصص الإنجيل غامضة تحتاج إلى تفسير.. وإلا فما معنى أقوال يسوع، التي فيها أعلن أن "ابن الإنسان لم يأتِ ليخدَم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن كثيرين؟" (مرقس 10: 45) وما قاله في العلية بأن الكأس هي دمه الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا" (متى 26: 28) ولو أن موت يسوع مجرد ثمن فدية لتحرير الأسرى، ولو كان سفك دمه إقامة عهد جديد بين الله والإنسان، يحصل بمقتضاه على غفران خطاياه، إذاً لما كان هذا، مجرد عمل أدبي، للإعجاب والإقتداء فلا فداء في القدوة، ولا غفران في النموذج، ولكن فضلاً عن ذلك لماذا كانت نفسه كئيبة وحزينة حتى الموت، عندما اقترب شبح الصليب؟ وكيف يمكن أن نفسّر آلامه المبرحة في بستان جثسيماني ودموعه وبكائه وعرقه الذي كان كقطرات الدم كما نرى في قوله: "يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت" (متى 26: 42) وهل هذه الكأس التي خاف أن يشربها، رمز موته على الصليب؟ فهل كان يخاف من الموت ومن الألم؟ وان كان الحال كذلك، فلا بد أن قدوته كانت مثال الخضوع والصبر، ولكن لا يمكن أن توصف بالشجاعة. ويحدثنا أفلاطون أن سقراط شرب كأس السم في سجنه في أثينا "بابتسامة ورضى" فهل كان سقراط أكثر شجاعة من يسوع؟ أم هل امتلأت كأسه بسم آخر؟ ولكن كيف نفسّر الظلمة التي حدثت، وانشقاق حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل، وصراخ المسيح القائل "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" ولو أن المسيح مات لمجرد القدوة والمثال، لأضحت هذه كلها بلا معنى وبلا قيمة، والواقع أن بعضها لم يكن مثالياً بالمعنى الصحيح.

ولو كان موت المسيح مجرد مثال، لبقي الكثير مما ورد في الأناجيل سراً غامضاً، ولظلت حاجتنا نحن البشر قائمة لم تسدّ فلسنا في حاجة إلى القدوة والمثال ولكننا نحتاج إلى مخلص، ففي مقدور المثل الأعلى أن يثير فينا مكامن الطموح والخيال، ويلهب مطامعنا وأمانينا، ويقوي عزمنا وتصميمنا، ولكنه لن يستطيع أن يطهّر دنس خطايانا الماضية، ويعطي سلاماً لضمائرنا المضطربة ونفوسنا المعذّبة، ويعيدنا إلى الله.

وعلى كل حال لم يتركنا الرسل حيارى بشأن هذه المسألة، فإنهم عادة يربطون مجيء المسيح وموته مع خطايانا "لأن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب" (1 كورنثوس 15: 3) "فإن المسيح أيضاً تألم مرة لأجل خطايانا" (1بطرس 3: 18) "وتعلمون أن ذلك أظهر ليرفع خطايانا" (1يوحنا 3: 5) وها نحن نرى ثلاثة من عظماء الرسل في العهد الجديد وهم بولس وبطرس ويوحنا، قد ربطوا - بالإجماع - موت المسيح بخطايانا.

2ـ مات المسيح ليحمل خطايانا:

استخدم الرسول بطرس في رسالته الأولى (2: 24) هذه العبارة: "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على خشبة" وتبدو الكلمتان "حمل خطايانا" كأنهما غريبتان وثقيلتان على مسامعنا، حتى أننا نرى أنفسنا مضطرين أن نعود إلى العهد القديم، لكي نفهم هذه العبارة.. فإن هذه الفكرة ترد بكثرة في سفري اللاويين والعدد، فكم من مرة كتب عن الشخص الذي يخطئ أو يعمل واحدة من مناهي الرب التي لا ينبغي عملها ولم يعلم أنه" يحمل ذنبه "أو يحمل خطيته" وعلى سبيل المثال نذكر انه في الموضع الذي يتحدث عن واجبات الكهنة واللاويين بعد ثورة بني قورح، نجد القول: "فلا يقترب أيضاً (الشعب) إلى خيمة الاجتماع ليحملوا خطية للموت" (عدد 18: 22) ثم "إذاً أخطأ أحد وعمل واحدة من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها ولم يعلم كان مذنباً وحمل ذنبه" (لاويين 5: 17).

ويُفهم ضمناً في بعض الأحيان، أن شخصاً آخر هو الذي يحمل المسؤولية عن الخاطىء، ففي الإصحاح الثلاثين من سفر العدد، وهو الإصحاح الذي يتحدث عن النذور، يوضح موسى بأن النذر الذي ينذره الرجل أو الأرملة يجب أن يثبت، أما النذر الذي تنذره الفتاة العذراء أو المرأة المتزوجة، فانه يثبت على الأب أو على الزوج وإذا سمع الرجل زوجته وهي تنذر نذورها وسكت لها في يوم سمعه ولم يفسخه في وقته، فإن فسخه بعد سمعه "فقد حمل ذنبها" (عدد 30: 15).

ولعلنا نرى أن إمكان شخص آخر، أن يقبل المسؤولية عنا ويتحمل النتائج عن خطايانا قد علّمته وأوضحته الذبائح التي ذكرتها شرائع موسى، التي قد تبدو غريبة في عصرنا الحاضر، وقد جاء عن ذبيحة الخطية، "قد أعطاكما إياه (الله) لتحملا إثم الجماعة تكفيراً عنهم أمام الرب" (لاويين 10: 17) وكذلك يوم الكفارة السنوي فقد جاء الأمر إلى هرون أن يردده لديه على رأس تيس الخطية – رمزاً إلى نفسه وإلى شعبه – ومن ثم يعترف بخطايا الشعب ويضعها رمزياً على التيس الذي يرسل إلى البرية، ويقول عنه الكتاب: "ليحمل التيس عليه كل ذنوبهم إلى الأرض المقفرة" (لاويين 16: 26) ومن هذا يتضح لنا أن معنى "يحمل الخطية" هو "حمل قصاص الخطية". والجدير بنا ونحن ندرس هذا النص، أن نشير إلى ما جاء في الرسالة إلى العبرانيين (10: 4) "لأنه لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرقع خطايانا" ويمكننا أن نرى النشيد الطويل عن عبد الرب الذي ذكره أشعياء (ا ش 53) العبد المتألم وهو بريء (وهو رمز للمسيح) وكله ملآن بالتشبيهات التي تشير إلى الذبائح فنراه "كشاة تساق إلى الذبح" ليس لأنه "لم يفتح فاه" فقط بل لأن "الله وضع عليه إثم جميعنا" حتى أن نفسه صارت "ذبيحة إثم" "وكلنا كغنم ضللنا ملنا كل واحد إلى طريقه" ولكنه أيضاً "كشاة تساق إلى الذبح.. مجروح لأجل معاصينا. مسحوق لأجل آثامنا. تأديب سلامنا عليه وبحبره شفينا" وألسنا نرى الآن أن هذه الكلمات التي توقفنا أمام فدائه العجيب وتصفه أنه "ضُرب من أجل ذنب شعبي" تلخص في هذا الإصحاح في عبارتين، عرفناهما من سفر اللاويين وهما "وآثامهم هو يحملها" ثم "وحمل خطية كثيرين".

وفي ملء الزمان جاء يسوع الذي تنبأ عنه الناموس والأنبياء ومهّد له الطريق يوحنا المعمدان قائلاً: "هوذا حمل الله الذي يرفع خطية العالم" وفي الغد قال بأكثر وضوح: "هوذا حمل الله" (يوحنا 1: 29، 36) ولا يجد كتبة العهد الجديد صعوبة في إدراك موته كذبيحة كفارية، تتم فيها جميع ذبائح سفر اللاويين ولعل هذه الحقيقة تشكل جزءاً من الرسالة إلى العبرانيين، فقد كانت ذبائح العهد القديم عبارة عن عجول وتيوس، أما المسيح فقدّم نفسه وكانت الذبائح تقدّم مراراً وتكراراً، أما المسيح فقد مات مرة واحدة فقط "قُدّم مرة لكي يحمل خطايا كثيرين" (عبرانيين 9: 28) وتعود بنا العبارة الأخيرة إلى ما قاله بطرس الرسول: "الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على خشبة" (1 بطرس 2: 24) فقد وضع ابن الله خطايا الناس على نفسه، ولم يكتف بأن يأخذ طبيعتنا، لكنه أخذ أيضاً إثمنا ولم يقتصر الأمر على أنه "صار جسداً" في رحم مريم العذراء، لكن ذاك "الذي لم يعرف خطية صار خطية لأجلنا" على صليب الجلجلة ..(2 كورنثوس 5: 21) هذه كلمات بولس الرسول وتعتبر من أقوى تعاليم الكتاب وأشدها تأثيراً عن الكفارة والفداء ولا يمكننا أن نقلل من قيمتها أو نمرّ بها مرور الكرام، فقد أكّد بولس في الأعداد السابقة أن الله تعالى رفض أن يحسب لنا خطايانا (2 كورنثوس 5: 19) أي أنه في محبته المتفاضلة علينا، لم يحسبنا مسؤولين عن خطايانا، ولم يقبل أن يقال عنا ما قيل عن كثيرين غيرنا في العهد القديم "هم يحملون إثمهم" إذاً ماذا عمل الله؟ "انه جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه" (5: 21) ولم تكن للمسيح خطية، لكنه حمل خطايانا فجعله الله الآب خطية لأجلنا فوق الصليب.

وعندما نتطلع إلى الصليب، نبدأ في فهم ما تتضمنه وتعنيه هذه الكلمات. فإنه في نصف النهار تماماً "كانت ظلمة على الأرض كلها" "مرقس 15: 33) استمرت ثلاث ساعات إلى أن مات يسوع ورافق الظلمة سكون رهيب، فلم تقدر العين أن ترى ولا الشفاه أن تتكلم عن مقدار الآلام التي احتملها حمل الله القدوس، فقد وضعت عليه جميع خطايا العالم وخطايا التاريخ، وحملها طوعاً واختياراً في جسده كأنها خطاياه هو، وتحمل المسؤولية كاملة وتحت ثقلها وشدة وطأتها شعر بنوع من الوحشة الروحية فصرخ: "إلهي إلهي لماذا تركتني؟" (مرقس 15: 34) وهذا السؤال مأخوذ عن المزمور الثاني والعشرين والعدد الأول.. ولا يستبعد أن السيد كان في تأملاته الروحية يفكر، في خلال آلامه، في وصف آلام ومجد المسيح. ورب سائل يسأل: "ولكن لماذا اقتبس هذه الآية ؟" ولماذا لم يقتبس آية من آيات النصرة في النهاية؟ فلماذا لم يقتبس مثلاً القول: "ياخائفي الرب سبحوه" (مزمور 22: 23) أو "لأن الملك للرب" (ع 28)؟ فهل نفكّر أن هذه الصيحة كانت نتيجة ضعف إنساني أو يأس بشري؟ أم أن ابن الله كان يتخيل هذه الأشياء؟ والأفضل أن نأخذ بوجهة نظرة المدققين، ونأخذ هذه الكلمات في معناها الذي تعلنه، فإن يسوع قد حمل خطايانا والله الذي "عنياه أطهر من أن تنظرا الشر ولا يستطيع النظر إلى الجور" أخفى وجهه (حبقوق 1: 13) فإن خطايانا فصلت بين الله الآب وبين الابن، وإن الرب يسوع الذي عاش وتمتع بالشركة الدائمة مع الآب طول أيام تجسده، تركه الآب ولو إلى لحظة أو بعبارة أخرى إن المسيح إذ حمل خطايانا، ذاق عذاب النفس الخاطئة البعيدة عن الله، ومات موتنا واحتمل القصاص عنا، إذ ابتعد عن الله الآب بسبب خطايانا نحن "وبذل نفسه فدية عن الجميع" (1تيموثاوس 2: 6).

وفي الحال انتقل من هذه الظلمة الخارجية إلى النصرة الحقة وصرخ قائلاً: "قد أكمل" ثم "يا أبناه في يديك استودع روحي وأسلم الروح" (لوقا 23: 46، 19: 30) فقد أكمل العمل الذي من اجله جاء وأتم الخلاص الذي لأجله أتى، وحمل خطايا كل العالم وأصبحت المصالحة مع الله في متناول جميع الذين يسلمون نفوسهم لهذا المخلص ويتكلون عليه ويتخذونه مخلّصاً لهم، وكأني به – لكي يقدّم شهادة واضحة أمام عيون الملأ – قد مزقت يد الله غير المنظورة حجاب الهيكل، وطرحته جانباً، فلا حاجة إليه فيما بعد، وقد فُتح الطريق بين الله القدوس وبين الإنسان، وفَتح المسيح باب السماء أمام جميع المؤمنين.

ومن المدهش أن هذه القصة الخاصة بيسوع ابن الله الذين حمل خطايانا ليست محبوبة في عصرنا الحاضر، ويقال عن حملة خطايانا ورفعه قصاصها عنا، انه عمل غير عادل وغير أدبي وغير لائق – ويمكن تحويله إلى سخرية وهزء، ولا نقصد أن نقول بأن لا شيء قد ترك لنا لكي نعمله، وبالطبع ينبغي أن نرجع إلى "راعي نفوسنا وأسقفها" لنموت عن الخطية ونحيا للبر (1 بط 2: 24، 25) وفوق الكل يجب ألا ننسى "أن الكل من لله" نتيجة رحمته ونعمته المتفاضلة، فلم يفرض على المسيح قصاصاً، لم يكن هو نفسه مستعداً له، فإن الله "كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه" فكيف يمكن أن يكون الله في المسيح بينما جعل المسيح خطية لأجلنا؟ هذا ما لا أستطيع أن أجيب عنه ولكن الرسول عينه يضع هاتين الحقيقتين جنباً إلى جنب، وأنا اقبل الفكرة تماماً كما قبلت أن يسوع الناصري هو إنسان وإله في شخص واحد.. وإن كانت تبدو ظاهرياً على شيء من التناقض، لكني أراه في عمله كما أراه في شخصه.

وإن كنا لا نستطيع أن نحل هذا التناقض أو نفكّ رموز هذا السرّ، فينبغي أن نقبل الحق كما أعلنه المسيح وتلاميذه بأنه هو حمل خطايانا بمعنى أنه احتمل قصاص الخطية عنا، كما تعلمنا الكتب.. وهذا نفس ما قصده الرسول بطرس كما يتضح من ثلاثة اعتبارات:

(1) يقول أن المسيح حمل خطايانا على "خشبة" ... ويلوح أن هذه الكلمة استخدمت قصداً، كما استخدمها في مواعظه الأولى التي جاءت في سفر الأعمال، ونذكر على سبيل المثال ما جاء في أعمال 5: 30 "إله آبائنا أقام يسوع الذي أنتم قتلتموه معلقين إياه على خشبة، وقد فهم أعضاء السنهدريم اليهود بأن هذا القول تضمن الإشارة إلى ما جاء في سفر التثنية 21: 23 حيث كتب: "ملعون كل من علِّق على خشبة".. والحقيقة بأن يسوع ختم حياته معلَّقاً على خشبة (وقد اعتبر اليهود التسمير على الصليب في مقام التعليق على خشبة تماماً) معناه أنه كان تحت اللعنة الإلهية، وبدلاً من أن يدحضه الرسل قبلوه، وأوضحه بولس في رسالته إلى أهل غلاطية بقوله "لأنه مكتوب ملعون كل من لا يثبت في جميع ما هو مكتوب في كتاب الناموس ليعمل فيه" (غلاطية 3: 10) ولكن المسيح افتدانا من لعنة الناموس إذ صار لعنة لأجلنا لأنه مكتوب "ملعون كل مَن علق على خشبة" (غلاطية 3: 13) ويبدو معنى هذه الكلمات صراحة كما جاءت في القرينة، بأن اللعنة المنصبَّة على ناقضي الشريعة، قد انتقلت إلى يسوع فوق الصليب، الذي حرّرنا من اللعنة إذ حملها عنا ووضعها على نفسه حينما مات لأجلنا.

(2) إن هذا النص الذي ذكره بطرس في رسالته الأولى، قد تضمن ما لا يقل عن خمس أعداد مذكورة في أشعياء 53.. وهاكم هي:

1 بطرس 2
أشعياء 53
ع 22 : "الذي لم يفعل خطية ولم يوجد في فمه مكر" ع 9 : "على أنه لم يعمل ظلماً ولم يكن في فمه غش"
ع 23 : "الذي إذ شُتم لم يكن يشتم عوضاً" ع 3 : "محتقر ومخذول من الناس"
ع 24 : "الذي حمل هو نفسه خطايانا" ع 12 : "هو حمل خطية كثيرين وشفع بالمذنبين"
ع 24 : "بجلدته شفيتم" ع 5 : "بجبره شفينا"
ع 25 : "لأنكم كنتم كخراف ضالة" ع 6 : "كلنا كغنم ضللنا"

وقد رأينا فيما سلف أن الإصحاح الثالث والخمسين من سفر أشعياء يرسم لنا صورة للعبد المتألم البريء، الذي بموته الكفاري "جُرح لأجل معاصينا. ولا شك في أن يسوع نفسه، فسَّر رسالته وعمله في ضوء هذا الإصحاح، كما فعل تلاميذه أيضاً من بعده... وعندما سأل الخصي الحبشي فيلبس عمّن يشير إليه النبي في هذا الإصحاح في الحال فتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب وبشَّره بيسوع" (أعمال 8: 35).

(3) إن بطرس أشار إشارات أخرى في رسائله عن الصليب، مما يؤكد ويثبت تفسيرنا لكلماته في الإصحاح الثاني.. ففي الإصحاح الأول يصف قارئيه بالقول: "افتدوا.. بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس بدم المسيح" (1 بطرس 1: 18، 19) بينما يتكلم في العدد الثاني من الرسالة عن "رش دم يسوع المسيح" ويشير هذان التعبيران إلى ذبيحة الفصح وقت الخروج من مصر، وكان لزاماً على كل عائلة يهودية أن تقدّم حملاً مذبوحاً وترش دمه على العتبة والقائمتين في كل بيت، وبهذه الطريقة فقط نجوا من غضب الله ودينونته، كما نجوا من عبودية مصر، ويطبق الرسول بطرس خروف الفصح مع يسوع كما يفعل بولس أيضاً قائلاً: "لأن فصحنا أيضاً المسيح ذبح لأجلنا" (1كورنثوس 5: 7) وقد سفك المسيح دمه لكي يفدينا من دينونة الله وعبودية الخطية، ويجب أن ترش قلوبنا. ويشير بطرس إشارة هامة رائعة إلى الصليب (3: 18) "فإن المسيح أيضاً تألم مرة واحدة من اجل الخطايا. البار من أجل الأثمة لكي يقربنا إلى الله" لقد فصلتنا الخطية وأبعدتنا عن الله، ولكن المسيح أراد أن يرجعنا ثانية إلى الله، ولهذا تألم بسبب خطايانا، مخلص بريء بار يموت من أجل الخطاة الفجار وقد مات مرة واحدة، وقد عمل (بتقديمه نفسه قرباناً مرة واحدة) ذبيحة كاملة مرضية.

وليس في الإمكان أبدع مما كان وما عمله المسيح، فلن يتحسن ولن يتكرر فلا يمكن لأعمال برنا، ولا لحفظ فرائضنا وطقوسنا الدينية أن تنيلنا الغفران، والواقع أن أية محاولة لطلب رضى الله عن طريق جهودنا وأعمالنا، تحقير بل إهانة ليسوع المسيح، لأن في مثل هذا العمل دساً وتضليلاً على أن لا لزوم لذبيحة المسيح وكفارته ويقول بولس: "إن كان بالناموس بر فالمسيح مات بلا سبب" (غلاطية 2: 21) وإن استطعنا أن نتمم خلاصنا فكفارة المسيح باطلة ولا لزوم لها. أما رسالة الصليب فستبقى قوية في يومنا هذا، كما كانت في أيام بولس حجر عثرة للبعض، وجهالة عند الآخرين .. ولكنها جاءت بسلام عميق إلى ضمير الملايين.. وقد كتب رتشارد هوكر في عظة ألقاها في عام 1585 ما يأتي: "فليحسبه البعض جهالة أو جنوناً أو ثورة غضب أو مهما كان... فإننا نحسبه حكمة وتعزية على ممر العصور والأجيال، ولا نجري وراء أي علم أو معرفة في الوجود سوى هذه: "إن الإنسان أخطأ ضد الله وإن الله تألم، وإن الله قد جعل نفسه خطية للبشر وجعل البشر بر الله".. ويستطيع كل مسيحي أن يردد هذه الكلمات فإن في جروح السيد شفاء، وفي موته حياة، وفي أوجاعه غفراناً، وفي آلامه خلاصاً.

أيها القدير، يا من بذلت ابنك الوحيد ليكون كفارة عن خطايانا، وقدوة ومثالاً لحياتنا الروحية، هبنا نعمة بها نقدر دائماً ونحن شاكرين، أن نقبل تلك البركات التي لا تحصى ولا تعد، وأن نسعى كل يوم أيضاً أن نتبع الخطوات المباركة في حياته القدسية باسم يسوع المسيح ربنا ومخلصنا. آمين.

  • عدد الزيارات: 10999